التطويبات في الروحانية السالسية
نهج حياة إنجيلية
نهج حياة إنجيلية
الروحانية السالسية
الأب السالسي فيتّوريو بوتسو
للشبيبة
“طوبى لكم، يا شباب، لأن الله يحبكم حب تفضيل (أي يفضّلكم) ويخصّص لكم السعادة!”
أكبر تحدٍ لكل مؤمن ولكل جماعة مؤمنة هو تحويل اختبار الحياة الشخصية والجماعية إلى اختبار إنجيلي، بقوة الإيمان. أمر سهل أن نُعلن إيماننا بلساننا أو بشكل عام، أمر صعب أن نعيش كمسيحيين، ساعين إلى حلّ المعضلات والمشاكل التي تعترض وتُعقّد حياتنا على مختلف الصعد، ومنفتحين على مقتضيات التطويبات العملية، لأن التطويبات برنامج حياة. فالراحة والطمأنينة الداخلية اللتان ينبع منهما فرح الحياة تتأصّلان في “نعمة الوحدة”، أي عيش الحياة اليومية بكل بساطة، مقتنعين أننا نستطيع أن نبحث عن الرب ونلتقيه في ظروف حياتنا العادية.
هذا حدس أساسي في الروحانية السالسية وهذا الحدس هو الذي جعل دون بوسكو يعلن، منذ بداية رسالته مع الشبيبة: “أريد أن أعلّمكم نمط حياة يجعلكم سعداء وفرحين”. لذلك وجّه دون بوسكو الشباب على طريق القداسة البسيطة والفرحة، بدمج “الملعب” و”الدرس” و”الواجب” في اختبار حياتي واحد. واليوم أيضًا يساعدهم على أن يتجاوبوا مع حبّ الله المجاني من خلال عيش روح التطويبات.
التطويبات موجودة في الإنجيل منذ 2000 سنة، ولكن كلّ جيل مسيحي استلهمها لحياته بحسب الظروف واستوحى منها قوّة روحية جديدة ومجدّدة. كذلك دون بوسكو: استوحى منها وعلّمنا أن نستوحي ما يلهم حياتنا وروحانيتنا.
التطويبات في الكتاب المقدس:
(راجع معجم اللاهوت الكتابي: “سعادة”: ص 419 – 421).
الإنسان، كل إنسان، يريد ويطلب السعادة، ولكن مفهومها ومضمونها يتغيران …
في الكتاب المقدس السعادة متعلّقة بالحياة أو السلام أو الفرح أو الراحة أو البركة أو الخلاص، فالإنسان يكون سعيدًا إذا حصل على هذه الخيرات بجملتها أو على جزء منها، ويكون تعيسًا إذا حُرم منها. ولكننا نجد أيضًا في الكتاب المقدس، ابتداءً من العهد القديم، تعابير تطرح علينا أسئلة.
لما يعلن “الحكيم”: “طوبى للفقراء” و”ويل للأغنياء”، لا يتلفّظ ببركة تعطي السعادة ولا بلعنة تجلب التعاسة، بل يتكلّم من منطلق خبرته بالسعادة ويحضّ على اتّباع الطرق التي تؤدّي إليها. الاختبار بالسعادة اختبار فردي أساسًا، وقد يكون اختبارًا جماعيًّا.
لفهم مرمى وتعابير الكتاب المقدّس حول السعادة والتعاسة يجب أن نضعها في الإطار الديني والاجتماعي والثقافي التي قيلت أو كتبت فيه. الجو الديني أساسي دائمًا لأن السعادة، بحسب ذهنية إنسان العهد القديم، تنبع دوماً من عند الله، ولكن هذه القناعة تكوّنت وترسّخت بالتدريج ومفهوم السعادة تطوّر ببطء من مفهوم أرضي إلى مفهوم سماوي.
من الأساس يظهر الخلاف القائم بين صورة الله الواردة في الكتاب المقدّس وصورة الآلهة الوثنية، خاصة آلهة اليونان. كانوا يحيّونها باسم “السعيد جدًّا” لأنها كانت تجسّد حلم الإنسان. الكتاب المقدّس لا يتوقّف على سعادة الله، لأنها فوق طموحات الإنسان، بل ينظر إلى مجده (إله المجد) ويعلن أنه يوَدّ أن يمنح هذا المجد للبشر. وهناك فرق ثانٍ: بينما يتمتّع آلهة اليونان بسعادتها دون اهتمام خاص بمصير البشر، ينحني الله (يهوه) بعطف على كلّ البشر، خصوصاً على شعبه، فسعادة الإنسان تتفرّع من النعمة الإلهية، وهي اشتراك بمجده.
السعادة هي الله ذاته:
عبر التصريحات الكثيرة الموجودة في الأسفار الحِكْمية نستنتج ماهية السعادة الحقّة على مراحل: طوبى لمن يخشى الرب: يصير قويًّا مباركًا وينال أولادًا كثيرين. اتّباع طرق الرب وحفظ الناموس يضمنان طول الأيام والخلاص والبركة والغنى. بكلمة يصبح الإنسان بارًّا والبر هو ينبوع السعادة.
بالرغم من هذا التطوّر الفكري، آفاق السعادة لا تزال آفاقًا أرضية زمنية: السعادة هي الحياة بكل خيراتها: أولاد كثيرون، بنات جميلات، أهراء ممتلئة، غنم كثير …، خيرات على الصعيد العائلي والفردي والقومي… ومن أهم هذه الخيرات السلام.
لما ترسّخ الاعتقاد بالحياة الأبدية، تعمّق مفهوم السعادة، ظهر الرجاء وأدرك الإنسان المؤمن أن سعادته لا يمكن ولا يجب تقديرها قبل نهاية الحياة: اليقين بالخلود والمكافأة كشف له ملء السعادة، أي الحياة مع الله. السعادة إذاً هي الله.
في العهد الجديد:
مع مجيء يسوع المسيح، ابن الله المتجسّد، تجسّدت السعادة في شخصه. فالتطويبات التي أعلنها وعاشها بالكمال أصبحت مقياس السعادة الحقّة. متّى وضعها في أول خطاب يسوع الافتتاحي، ليس لأن يسوع أعلنها كما هي في الإنجيل في بداية حياته العلنية، ولكن ليُبرز أن التطويبات منهج للسعادة المسيحية. جاء يسوع من عند الله ليقول “نعم” رسمية لوعود العهد القديم، والتطويبات هي “نعم” قالها الله بيسوع، لأن ملكوت الله حاضر فيه.
لمّا يسوع يقول: “احملوا نيري وتتلمذوا لي فإني وديع متواضع القلب” (متّى 11/29) يبدو وكأن طوبى الوداعة “طوبى للودعاء” تحققّت فيه.
قد سبق وقلتُ إن دون بوسكو، على غرار سائر القديسين، عاش التطويبات. فلا بدّلنا الآن من أن نطرح عدة أسئلة لنتعمّق في الموضوع.
دون بوسكو والتطويبات:
المصادر لمعرفة موقف دون بوسكو من التطويبات وطريقة تطبيقها هي:
تاريخيًّا لم يتحدّث كثيرًا وصراحة عن التطويبات كما نتحدّث عنها اليوم، لأن الثقافة الكتابية واللاهوتية كانت غير ثقافتنا اليوم في هذا المضمار، ولأن كلمات الإيمان والتعليم المسيحي والوعظ لم تكن آنذاك كما هي اليوم ولكن واقع التطويبات كان في صميم حديثه وممارسته التبشيرية والروحية. لذلك ما قدّم وما استعمل جميع التطويبات، كأنه يريد تحضير بحثٍ وافٍ عنها. منظاره هو منظار رسالته، أي رسالة كاهن مربِّ يبشّر بالتطويبات لأولاده وشباب ينظرون إلى الأمام، إلى بناء مستقبلهم.
إعلان الطوبى بالكلام: “طوبى للشبيبة الذين يقبلون من يدعوهم إلى السعادة”
لا نجد في دون بوسكو تفسيرًا كتابيًّا أو لاهوتيًّا لنصّ التطويبات ولا تفسيرًا روحيًّا، ولعلنا نستغرب ذلك بالمقارنة مع استعمالنا اليوم لهذا النصّ وقد أوضحتُ السبب. دون بوسكو يستشهد بالتطويبات، يقول إنها تلخّص الإنجيل وهي جوهره ولهذا السبب تستحقّ أن يعرفها الشباب المسيحي جيدًا.
نجد مفهوم دون بوسكو للتطويبات في عدّة كتابات كتبها لأجل الشبيبة أو لشرح أسلوبه التربوي، وضع من خلالها مشروع حياة مسيحية للشبيبة يتميّز بالتواضع والوضوح ويشكّل طريقًا أكيداً للقداسة.
الكتاب الأول هو “زاد الشباب” أو حرفيًّا “الشباب المزوَّد” (1847). دون بوسكو بعمر اثنين وثلاثين سنة وكاهن منذ ست سنوات، يشعر بالحاجة إلى أن يضع في أيدي الشباب كتاب تنشئة وعبادة يتوافق مع العصر ومع حاجات الشبيبة. فهذا الكتاب هو أوّل عرض لمشروع دون بوسكو في التنشئة المسيحية. هذا العرض الأوّل هو، نوعًا ما، العرض النهائي أيضًا، لأنه سوف يغنيه في لمستقبل ولكن بدون تغييرات مهمة.
الكتاب مؤلف من المقدمة: “إلى الشباب” ومن ثلاثة أجزاء وهي:
نال هذا الكتاب (352 صفحة في الطبعة الأولى و520 صفحة في الطبعة الأخيرة قبل وفاة دون بوسكو) نجاحًا كبيرًا (20 ألف نسخة في الطبعة الأولى وأكثر من ست ملايين في 122 طبعة أثناء حياة دون بوسكو).
في المقدمة “إلى الشباب” يقول دون بوسكو: “أولادي الأعزاء، أريد أن أعلّمكم نهج حياة مسيحية … أقدّم لكم نهج حياة، وجيزًا وسهلاً، سيكفيكم” في هذه الصفحات يُعلن دون بوسكو مبادئ روحانيته وبالتالي يكشف للشباب طريق القداسة، الطريق الذي سلكه ميخائيل روا ودومنيك سافيو وغيرهما من تلاميذ دون بوسكو لبلوغ قمّة القداسة. وهذه المبادئ هي التي جعلت دون بوسكو “أبا الشبيبة ومعلّمها ورائد قداسة الشباب”، يحمل إلى الشبيبة بُشرى السعادة، التي يدعو إليها الله، مصدر السعادة، بأن يسلكوا طريق الفرح. يقول إن السعادة والفرح ليسا من نصيب الحياة الأبدية فقط، بل يتحقّقان الآن، في حياة الشباب الاعتيادية والمتواضعة، فالعيش بفرح “منذ الآن” يبشّر بالسعادة في المستقبل وفي الأبدية. وقال مرّة في كلمة المساء: “أريد أن أعلمكم كيف تصلن إلى السعادة”.
حدس دون بوسكو العبقري في التنشئة المسيحية وفي تربية الشبيبة أنه ربط الإيمان بالله والسعادة ارتباطاً وثيقاً ومباشراً وكذلك الحياة المسيحية والفرح، الأمانة للمسيح والحياة الناجحة. لذلك حطّم المعادلة: “المسيحية = العبوس”، الراسخة لدى الكثيرين من المسيحيين وغيرهم، ورفض ادّعاء المبشّرين “بالدموع والألم في هذه الدنيا وبالسعادة في الآخرة فقط”.
كتب حرفيًّا: “أريد أن أعلّمكم نهج حياة مسيحية يكون في الوقت نفسه مصدر فرح وسعادة، كما وأريد أن أدلّكم على التسلية واللذّة الحقيقية، بحيث تقولون مثل داود النبي: “اخدموا الربّ بالفرح”. فهذا بالذات هو هدف هذا الكُتَيّب: أن يعلّمكم في آن واحد خدمة الربّ والعيش بفرح دائم”. ويُنهي المقدّمة بتمنِ “عيشوا بالفرح وليكن الربّ معكم”.
نلاحظ أيضًا أن العدد الكبير من التراتيل التي جمعها دون بوسكو من هذا الكتاب يدل على قناعته بضرورة التعبير عن الإيمان والحيوية بالغناء والموسيقى.
هنا نتساءل: كيف يعلّل دون بوسكو كلامه لكي يقنع الشباب أن الإيمان والفرح يتماشيان معًا؟ ننطلق من مفهوم التطويبات بحسب أحدث المفسّرين الذين يقولون إن الطوبى هو فعل يأتي من الله، هو الذي يُسعد الإنسان بجودته وسخائه. فالطوبى هبة إلهية يقابلها انفتاح الإنسان الذي يقبلها ويلتزم بعيشها.
هذا الحدس الحديث ظاهر، بديناميته، في الأفكار التي يطرحها دون بوسكو بكل بساطة على الشباب، لأنه يُلفت أنظارهم ويركز انتباههم على الله وعلى نهجه مع الإنسان.
مَن هؤلاء الشباب؟ الصبيان والمراهقون الذين يقصدون “الأوراتوريو” بالمئات: هم عمّال صغار، يتامى، فقراء ليس لهم أصدقاء، لا يعرفون ما هو العطف والحنان، لا يدخلون الكنيسة ويُعَرضون لجميع أنواع الخطر والفساد. هم بالفعل الفقراء الذين يتحدّث عنهم الإنجيل: هم فقراء ماديًّا وثقافيًّا، هم أشخاص قلوبهم متواضعة وبسيطة، هم صبيان ضعفاء، مشرّدون، ليس لهم من يدافع عنهم أو يُعنى بهم.
يبشر دون بوسكو لهؤلاء بُشرى لا تُصدّق: إن الله، صانع الكون، هو خالقهم ومخلّصهم. إنه بداية ونهاية كل شيء، فهو بدايتهم ونهايتهم أيضًا، وأنهم خلائق شريفة، خالدة، مصيرهم هو السعادة الأبدية، بل، أكثر من ذلك، فإن الله يُعنى بكل واحد منهم عناية شخصية، يحبهم مجانًا، يحبهم حبًّا كبيرًا، الآن. ويواصل قائلاً: “أنتم فرح الله” ويسوع في الإنجيل أظهر حبًّا خاصًّا للأولاد، إذ قال: “دعوا الأطفال يأتون إليّ” وكان يعانقهم ويباركهم. وينهي هذا التأمل قائلاً: بما أن الله هكذا يحبّكم وأنتم بهذا السن، كما يجب أن تتجاوبوا مع هذا الحب بأن تعملوا كل ما يرضيه وتتجنّبوا كل ما لا يرضيه. وكأنه يدعو الشباب أن يقابلوا الحب بالحب.
لا شك في أن هذه الأقوال حلوة وجذابة، ولكن ماذا يؤكّد أن هذا الحبّ يتجسّد اليوم في حياة الشباب؟ ما تجسّد في كلمات وحركات يسوع، يتجسّد اليوم في كلمات وحركات دون بوسكو. مشروعه مشروع محبّة وتجسيد، مشروع الله الذي يحبّ الشبيبة حبّ تفضيل: “أولادي الأعزاء، أحبّكم بكل قلبي ويكفي أنكم شبيبة لكي أحبّكم كثيرًا. وأؤكّد لكم أنّكم قد تجدون كتبًا كتبها لكم أشخاص أفضل وأعلم مني، ولكن نادرًا ما تجدون من يحبّكم أكثر من في يسوع المسيح ويتمنى لكم السعادة الحقّة”.
يا لها من جرأة! يرى دون بوسكو أن حبّه للشبيبة حبّ مميّز، ينبع من قلب الأب وقلب يسوع. لديه القناعة أنه موهبة إلهية أعطيت له، فلذلك لا يخشى أن يقارن حبّه بحب الله وحب يسوع. نحن هنا في صميم الموهبة السالزيانية … واختبر كل تلاميذ دون بوسكو عمق هذا الحب إلى درجة أن كل واحد منهم كان متأكدًا أنه هو المفضّل عنده.
هذه التطويبات، وإن اختلفت نصًّا عن تطويبات الإنجيل، فإنها تجسّد مضمونها وروحها للشباب وتشكّل نهج حياة إنجيلية أعطى ثماره. وأوّل من قطف ثمار هذه التطويبات دومنيك سافيو: اقتنع أن الفرح (أي الطوبى) ليس ملحقًا أو إضافة أو زينة للقداسة، بل في جوهرها وصميمها، لأن الفرح هبة إلهية. وفي المرحلة الأخيرة من حياته تقبّل الألم بكل ارتياح وأبدى استعداده بأن يشارك يسوع في عذابه. هذه هي بطولة القداسة.
آمن دون بوسكو بقداسة الشباب وبقداسة الذي يقدّم ذاته بدون تردّد، وقد يكون ذلك في سن مبكّرة، مثل سن المراهقة والشباب. حدسه أن القداسة المسيحية ليست مقرونة بالنضج البيولوجي أو النفساني، ولا بالصلوات الطويلة والتقشف والظواهر العجائبية، بل مجرّد القيام بالواجبات اليومية وتقبّل صعاب الحياة والعطاء بسخاء: “تمسّكوا بالأمور السهلة، ولكن ثابروا عليها”.
تطبيق التطويبات في حياة دون بوسكو:
لم تكن التطويبات مجرّد تعليم نظري ولا مشروعًا جميلاً أعدّه المربي لتلاميذه. دون بوسكو عاش واختبر ما علّمه وتميّز بين القديسين بشفافية حياته الإنجيلية: كان فقيرًا بالفعل وبالقلب أمام الله، كان وديعًا ومتواضع القلب، كان كاهنًا مكرّسًا كليًّا للملكوت، كان جائعًا وعطشان إلى الخدمة وإلى مجد اسم الرب، كان رسولاً لا يتعب في خدمة الرحمة الإلهية والسلام (لنذكر، على سبيل المثال، دون بوسكو المعرّف والمصالح). تعذّب وأُضطهِدَ لأمانته للرسالة الموكلة إليه من الرب … ولم يفقد أبدا ابتسامته وهدوءه وصفاءه. فأصبح علامة حية وملموسة لبشرى الخلاص المعلنة للشبيبة ولاسيما الفقراء والمشردين والمهملين.
أما نحن كأبناء دون بوسكو، إذا لا نتوصّل تدريجيًّا إلى إدراك الغنى الموجود في شخصه وإلى الاستلهام من مواقفه في حياته السالزيانية، فكأننا لم نفهم شيئًا عنه … وكأننا لا نزال في بداية المسيرة معه.