الطوباوي ميشيل روا
خليفة دون بوسكو الأول و “الدستور الحيّ”
خليفة دون بوسكو الأول و “الدستور الحيّ”
قداسة سالزيانية
SDB
لكل الكنيسة
طفلٌ متواضعٌ مسالم، ولد وترعرع في معمل الأسلحة الثقيلة بمدينة تورينو إذ كان أبوه رئيس قسم هناك، يقيم في المصنع مع أفراد أسرته..
اسم هذا الطفل ميكيليه (ميخائيل)، على اسم رئيس الملائكة المحارب حروب الله ضد الشيطان اللعين.
كان لميخائيل قلب رقيق طيب في جسم نحيف، توفي والده وله أربعة إخوة، وأصبحت أمه تحنو عليه أشدّ حنان، لا تأذن له بمفارقتها غالباً، لا بل وتبخل عليه بزيارة دون بوسكو في مركزه الأول، ومن كان ليتصور حينذاك أن في مثل ذلك الجسم الهزيل ستتكون يوماً شخصية فذة، تبث في القلوب العدل والمحبة والسلام!
ولد ميكيليه، وهو الابن الصغير لأمه، عام 1837 في مصنع الأسلحة الملوكي، وهو عبارة عن معسكر كبير للعمال وللعائلات، كان أبوه قد فقد امرأته الأولى وأمه آنا ماريا قد تكرست لخدمة أولاده وأنجبت له ستة بنين آخرين، وهو في الثامنة من العمر أصبح يتيم الأب كئيباً لم يبق معه من إخوته الخمسة إلا يوحنا.
وذات يوم، بينما كان ما يزال واضعاً على ذراعه شريط الحداد، التقى لأول مرة بكاهن كان يوزع على أولاده أيقونة العذراء مريم، انزوى ميكيليه مُفسحاً المجال لأصحابه ريثما يأتي دوره من النصيب، ولكن الأيقونات نفذت ولم يكن من ذلك الكاهن اللطيف سوى إشارة من يقص يده اليسرى بيده اليمنى قائلا بابتسامة: “خذ، يا ميخائيل خذ”.
ماذا سيأخذ، هل يأخذ يده المشطورة! كلا لم ينو دون بوسكو أن يقاسمه اليد بل إنما الأعمال في المستقبل، ولو لم يكن ميخائيل ليفهم شيئاً في ذلك الحين، فضحك ميخائيل وانتعش وأحس بأنه قد وجد أباً آخر في ذلك الكاهن العطوف وأسرة جديدة في أولئك الأصحاب الكثر.
كان الفقير في ذلك العهد يدرس إلى الصف الثالث الابتدائي ثم ينصرف إلى العمل لمساعدة عائلته، وبناءً عليه قضى ميكيليه العامين الأولين من الدراسة في مدرسة المعمل الصغيرة والعام الثالث لدى إخوة المدارس المسيحية حيث تعلم أيضا مبادئ اللغة الفرنسية، وعندما انتهى من الصف الثالث كان في العاشرة من عمره وأحرز نجاحاً كاملاً وفقاً لما شهد له أساتذته الذين كانوا يتمنون لو ينضم إلى صفوفهم.
ومن تدبير العناية الإلهية اتفق أن يكون مرشده الروحي في هذا العام الأخير دون بوسكو الذي كان قد تعرف به في مركزه للشباب المدعوّ بـ “المركز السالزياني” أو”المصلى”، فكان يأتيهم دون بوسكو في كل يوم أحد لأجل الاعتراف والقداس.
ذكر ميكيليه في كبره أن حضور دون بوسكو لإقامة الصلاة لم يكن كحضور سائر الكهنة لما له من جاذبية خاصة تدفعهم إلى ترك مقاعدهم وإلى الالتفاف حوله ليقبلوا يديه الطاهرتين ويلمسوا ثوبه المقدس، وأما الأخوة أنفسهم، وهم راضون عن ثقتهم به، فلم يمنعوا قلة الانضباط حينها.
وفي يوم الأحد الأخير لتلك الخدمة الروحية قال دون بوسكو لميكيليه: “بعد القداس لي كلام أقوله لك، فانتظرني في الموهف (أي في الحجرة المجاورة للمذبح)”، فسُرّ ميخائيل وصلى بحرارة. وبعد القداس صلى دون بوسكو بدوره طويلاً، ثم دار بينهما هذا الحديث الجميل:
– لقد أنهيت الصف الثالث، يا ميكيليه، فماذا ستفعل في العام المقبل؟
– سأبقى في بعض المكاتب لمصنع الأسلحة حيث كان أبي.
– ولمَ لا تواصل الدراسة؟ لقد أفادني الأساتذة حسن اجتهادك ونجاحك، إنك ذو مواهب كثيرة وإن شئت فبإمكانك أن تصبح كاهناً في الكنيسة.
– أمي فقيرة الحال و وحيدة ليس بوسعها أن تنفق على دراستي.
– قل لأمك أن دون بوسكو سيدرسك هو وإن مست الحاجة فستبقى عندي في المصلى.
و أقامه دون بوسكو مديراً في مصلى مار لويس، بالقرب من محطة القطار المركزية، يعمل فيه أيام الآحاد من الصباح إلى المساء.
عندما قام المسيح برسالته التعليمية على الأرض، يتبعه الرسل والتلاميذ، كانت أمه القديسة والنساء التقيات يخدمنه في كل ظرف، كذلك دون بوسكو أخذ معه إلى المصلى أمه العزيزة التي سهلت عليه أعماله الرسولية واعتنت بأولاده الفقراء أو اليتامى لمدة عشر سنين، إلى أن كافأها الرب ونقلها إلى الديار الأبدية عام 1856.
ولكن أصيب أيتامه بيتم ثان لفقدان الأم مرغريتا، فوجه ميكيليه لأمه آنا ماريا هذا القول: “يا أماه! قد أصبح أولاد المصلى بلا أم، ألا تحلين أنت محل مرغريتا؟” كانت أمه أرملة وحيدة، في السادسة والخمسين من العمر، فلبت دعوة ابنها الحبيب التي هي دعوة الله أيضا وغادرت منزلها وأحباءها لتعنى بالأولاد الفقراء لمدة عشرين عاماً، فودع أولاد دون بوسكو أماً ورحبوا بأمٍ ثانية أم ميكيليه روا.
درس ميكيليه روا علم اللاهوت والكتاب المقدس لمدة أربعة أعوام من 1856إلى 1860، إلى أن أصبح كاهناً، كان يحضُر ثلاث حصص يومية صباحاً ولم يكن يحضر الدروس فحسب بل إنما كان يلخّصها بكل دقة ووضوح ويعطيها لرفاقه في اللاهوت، وبالرغم من أن الدار الإكليريكية كانت قد تحولت إلى سكنة للجنود، خالية من كل راحة وسكينة، مع ذلك انتفع ميخائيل بهذه الدروس أيما انتفاع حتى أضحى واعظاً قديراً ومرشداً.
لم يفكر دون بوسكو بأن يضع الاسم لجمعيته فحسب (وقد دعاها الجمعية السالزيانية) ولكن اهتم فوق كل شيء بأن يضع لها الدستور، ذلك الدستور الذي صدر من قلبه وخطّه بيده، والذي اطلع وعلق عليه البابا بيوس التاسع نفسه، وكان ذلك في ربيع 1858 عندما زاره دون بوسكو للمرة الأولى واصطحب معه ميخائيل روا ليكافئه على إخلاصه ونشاطه. وقبل أن يغادر تورينو في شهر شباط / فبراير استعان بميخائيل لكي يبيض بخط جميل نقي نسخة الدستور الواجب تقديمها للبابا، ثم سافر مع معلمه براً وبحراً مدوناً بدقة وحياة التعليق على السفرة التاريخية إلى روما ومواقفها الجميلة وغير المتوقعة، وكان يراسل من هناك أهل المصلى، وهكذا اتفق أن ميخائيل روا، الذي سيدعى بعد وفاته “الدستور الحي” تشرف بأن ينسخ في روما الدستور الذي علق عليه البابا وعدله بيده نفسها.
عاد دون بوسكو من روما في نيسان / إبريل بعد أن زار البابا وآثار المدينة الخالدة للمرة الأولى، وكان قلبه مفعماً بالسعادة لأن رئيس الكنيسة بارك أعماله ومعاونيه وأخذ جمعيته الفتية تحت كنفه الأبوي، ولما علم البابا أن مبادرته الرسولية كانت من وحي إلهي، أمره بأن يدون كل الأحداث الخارقة التي حصلت معه لإفادة أبنائه في المستقبل.
كيف سارت الأمور في غيابه عن المصلى؟ كان دون بوسكو قد ابتعد عنهم لأول مرة طويلاً، وأشتاق إليهم شوقاً شديداً، ولكن لدى عودته نالته خيبة الأمل لرؤيته الأب الأسوناتي الغيور الدقيق كان قد أدخل في المصلى روح انضباط صارمة كالأوامر الجافية وصوت الصفارة على ما تجري العادة في الجندية، فتأسف دون بوسكو على ذلك وقال لميكيليه: “هنا كل شيء على خطأ، تلزمنا بداية جديدة، هل لديك شجاعة كافية لأخذ زمام الأمور؟” فأجابه: “ما دام أمرتني بذلك…” وبعد فترة من الزمن عاد المصلى إلى ازدهاره السابق، فكان بمثابة عائلة كبيرة، حينها كان ميكيليه في الحادية والعشرين من عمره.
أشرق أخيراً في حياة ميخائيل وفي تاريخ مصلى دون بوسكو أجمل يوم، اليوم الثامن والعشرين من شهر تموز / يوليو 1860، الذي فيه رسم ميخائيل كاهناً إلى الأبد وكان الكاهن السالزياني الأول النامي في تلك الحديقة، وأراد دون بوسكو أن يقيم ميخائيل ذبيحته الأولى في المصلى مع جميع مظاهر البهجة والتهلل، إن كان في الكنيسة أو المائدة والمسرح، وما يستحق الذكر ويؤثر في القلوب، باقة الزهور البيضاء من أيدي عمال تسليك المداخن السوداء، حيث كانت تلك الهدية الرمزية عربون شكر وعرفان بالجميل من قبل مصلى مار لويس والذي يتكون أفراده من عمال جبليين فقراء الحال.
وعندما رسم كاهناً أصبح ميكيليه روا الأب روا، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، ينتظره في المصلى 700 طالب، 360 منهم صناع، وكان في هذه المؤسسة المعقدة الكبرى القلب النابض والدماغ المخطط.
عمل دون بوسكو جاهداً في المصلى يعاونه دون روا وهو نشيط غيور، يحبه الجميع ويكرمه. وبعد ثلاثة أعوام كلّمه دون بوسكو، قال: “أطلب منك، يا دون روا، تضحية كبيرة… لقد دُعينا لفتح دار إكليريكية صغرى في ميرابيلو من أعمال مونفيراتو، وأنظار الجميع متجهة إلينا ليروا هل نحن على كفاءة.. برأيي أنا أن تكون أنت المدير..إني واثق بك كل الثقة”، فقبل دون روا وانتقل إلى ميرابيلو مع خمسة من الأخوة السالزيان قائلاً في نفسه: “سأكون دون بوسكو آخر!”. وهناك أيضا بذل قصارى جهده في عمله الرسولي وكان دون بوسكو قد خط له خطوط عمل عريضة ثمينة، دعاها “تذكارات” منها:
=عليك أن تنام في كل ليلة قلما يكون ست ساعات.
= اجتهد أن تكون محبوبا قبل أن تكون مرهوباً.
= اسع إلى أن تقضي ما بين الشبان طوال فترة الاستراحة.
= إذا قامت عليك مشكلات مادية فأنفق ما يجب إنفاقه شريطة أن تسود المحبة.
فحفظ دون روا هذه التذكارات في قلبه وحققها وأصبح، بنعمته الرب، موضع الأنظار وملك القلوب، ناجحاً في أعماله موفقاً، وكان الإقبال على الدار الإكليريكية عظيماً، وعلى الرَّغم من ذلك قيل له يوماً من الأيام وهو يخط إحدى الرسائل: “هيا، ينتظرك دون بوسكو في تورينو، فقل للأب بونيتي أن يأخذ هو زمام الإدارة”.
فتخلى دون روا عن الكتابة فوراً، نبّه الأب بونيتي، ثم قصد تورينو لم يأخذ معه شيئا سوى كتاب الفرض أي كتاب صلاته اليومية الكهنوتية.
كان عام 1865 وما إن وصل دون روا إلى تورينو حتى قال له دون بوسكو: “لقد قمت بدور دون بوسكو في ميرابيلو وأما الآن فقم بالدور نفسه هنا في فالدوكو”.
فانهمك دون روا في العمل وهو يهتم بالصنّاع، بأعمال البناء في كنيسة مريم أمّ المعونة التي كانت جدرانها قد اعتلت، ومع الشبان الذين كانوا يتميزون بأخلاق صعبة و الذين لا أمل لإصلاحهم وقد أرسلتهم الشرطة بعد إلى المصلى عقب انضمامهم إلى بعض العصابات في ضواحي تورينو، وكان لابد له من أن يتصرف معهم بعبوسة وجه وشدة مع مزيد الأسف.
ومن جراء كل هذه الأتعاب والمتاعب، وبعد اكتمال بناء مزار مريم أم المعونة بنجاح عام 1868، انهارت قواه انهياراً كبيراً وارتمى على ذراعي أحد الأصدقاء في مدخل المصلى ولزم الفراش مخاطراً بحياته، كان دون بوسكو غائباً عن المصلى وعند المساء حينما أحيط علماً بمرضه الثقيل، توجه إلى الكنيسة لسماع الاعترافات، ثم إلى غرفة الطعام لتناول العشاء، ثم إلى حجرته لقراءة الرسائل الواردة إليه ذلك النهار وأخيراً إلى مريضه الغالي في ساعة متأخرة.
ولم يلبث أن يراه حتى هتف: “عزيزي دون روا، لا أريد أن تموت.. أأنت فاهم؟ لا أريد أن تموت.. ماذا سيكون بدونك؟ علينا أن نعمل، أن نعمل كثيراً جداً فيجب أن تتخلى عن فكرة الموت!”.
وعند رؤيته على المنضدة قارورة زيت مسحة المرضى أضاف: “من خطر بباله أن يمسح دون روا بزيت المرضى؟ إنه حقا عديم الدراية.. صدقني، يا دون روا، ولو رميت بنفسك من هذه النافذة، أضمن لك أنك لن تموت.. والآن أزيحوا عنه زيت المرضى ودعوه وشأنه”..
وفي غضون شهر عاد إلى ألعابه المعتادة مع أولاده المحبوبين..
أسس دون بوسكو جمعية بنات مريم أم المعونة عام 1872، أرسل أبناءه الأوائل إلى الأرجنتين مع دون كالييرو 1875، نظم جمعية السالزيان المعاونين لدعم الخير، أنشأ عمل الدعوات لكبار السن والمجلة السالزيانية الشهرية 1876، وأخيرا طلب منه البابا لاون الثالث عشر أن يأخذ على عاتقه رفع هيكل لقلب يسوع الأقدس في روما وقام لهذا الغرض بالأسفار الطويلة إلى فرنسا وإلى إسبانيا لجمع المال المطلوب.
كل ذلك وهو مجهد، فكثر الله الشفاءات على يده، وأكثر المتعافون من التبرعات لأجل الهيكل. لقد مالت شمس دون بوسكو إلى الغروب وهتف ذات يوم: “لو قال لي الرب: أعد لنفسك خلفاً والتمس من أجله جميع النعم والفضائل اللازمة، لما عرفت ما ألتمسه إذ قد وجدت كل ذلك في دون روا”.
1884، في اليوم السابع من شهر نوفمبر، عين البابا دون روا نائباً عن دون بوسكو ومنحه الحق بأن يخلفه، وفي اليوم الحادي والثلاثين من شهر يناير 1888، قبل أن يسلم دون بوسكو الروح ساند دون روا يده الواهنة ليبارك مرة آخرى العائلة السالزيانية، وفي أعقاب ذلك نام دون بوسكو نومة الموت فركع دون روا على قدميه وصلى طويلاً خاتماً بهذا الدعاء: “أعنّي، يا أبت، لأكون إياك” قال تلك الكلمات واندفع إلى العمل بنشاط غير منقطع.
بارك دون بوسكو أعماله السالزيانية من السماء كما وعد، فانتشرت في بلدان أخرى بازدهار عظيم، كان السالزيان 700عضو عند مماته فأصبحوا في فترة رئاسة دون روا، التي دامت 21 عاماً، 4000 عضو، وأما المدارس فارتفعت من 64 إلى 341، كانوا في 6 دول فأصبحوا في 30 دولة، كانت الإرساليات في الأرجنتين فقط ثم شملت البرازيل، الأوروغواي، الإكوادور، فلسطين، مصر، بلاد الهند والصين.
بالإضافة إلى ذلك طور دون روا جمعية السالزيان المعاونين والمجلة الشهرية السالزيانية تطويراً ملموساً وزار شخصياً معظم مدارسه وخاصة الأراضي المقدسة التي قصدها مرتين وصنع فيها الأعاجيب، ولكي يتفقد كل هذه البلدان قطع إجمالاً مئة ألف كم، سائراً مراراً على القدمين، وكما أن اليوم يطير الرؤساء على جناح الطائرة كذلك طار دون روا على جناح السرعة، سرعة العمل والمعجزات.
من أهم التذكارات التي زود بها دون بوسكو الأب روا، لدى سيامته كاهنا، هذه الخاطرة: “لا تنس أنه لا وصول إلى أرض الميعاد سوى عن طريق البحر الأحمر والصحراء”، والصحراء هنا عبارة عن العقبات والمشقات التي تعترض مسيرة كل إنسان إلى الآخرة السعيدة.
وفعلاً لم يلبث طويلاً حتى نالته مصائب الدهر، منها كارثة القطار في الأوروغواي التي لقي فيها الموت الأحمر المطران لاسانيا مع أخ سالزياني وأربع راهبات 1896، منها طرد الآباء السالزيان من الإكوادور وجميع الرهبان من فرنسا على يد حكومة معارضة للكنيسة 1902،
وأخيراً عام 1907 الحوادث القبيحة في بلدة فاراتزي، بالقرب من جنوى بايطاليا، التي اختلقتها المنظمة الماسونية لإزالة جميع المدارس السالزيانية الايطالية، والتي كذبها المحامون المعروفون آنذاك..
فكانت هذه المحن ساعة ظلام وآلام كابدها المسيح في بستان الزيتون، ولكن بعد الموت هناك قيامة، فصلى الأب روا وصبر وحج الأماكن المقدسة إيفاء بنذره الذي نذره للرب 1908، وكانت بعد العاصفة السكينة.
يعقد دون بوسكو مع كل شاب يتكرس لخدمة القريب بروح إنجيلية، روح المحبة والمودة، هذا العقد: “خبز وعمل ونعيم” أي ضمان المعيشة وضمان خلاص النفس، فكان لدون روا قسط وافر من الخبز والعمل وأما الآن فلم يبق له سوى دخول دار المكافأة والراحة.
وحقاً كانت قواه قد خارت من جراء متاعبه الكثيرة المتواصلة، كانت رجلاه قد تورمتا وغطتهما القروح، كانت عيناه قد أصابهما الالتهاب الشديد.
وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر شباط / فبراير 1909، وهو جالس إلى مكتبه لفض الرسائل كالمعتاد تقاعد عن العمل بقوله لأمين سره: “فوض إلى دون رينالدي كل أمر، إني لا أطيق أكثر من ذلك”، وكان دون رينالدي الوكيل العام، ثم لزم الفراش، لا يهمل عملاً من أعمال التقوى المفروضة على كل فرد، يستقبل من يزوره من الإخوة بصدر رحب، إلى أن ثقل عليه المرض في شهر نيسان / أبريل.
وفي اليوم الخامس من هذا الشهر أخذ ينازع ويتحمل الآلام المبرحة، فكان إلى جانبه الأب رينالدي والأخوة السالزيان يصلون ويعزونه.
وما إن دخل منتصف ليلة السادس من نيسان / إبريل حتى قال له رفيقه القديم دون فرانتشيزيا: “إننا هنا جميعا وها إن الله يفتح لك الآن أبواب السماء … فسلم على دون بوسكو من طرفنا…”
لدى سماعه اسم دون بوسكو أشرق وجهه وابتسم، ثم لفظ للمرة الأخيرة: “يامريم البتول، أمي المحبوبة، اجعليني أخلص نفسي”. وأسلم بسلام روحه الطاهرة…
أصبح دون روا طوباوياً 1972، مع أن دون بوسكو صرح مراراً بأنه قديس في قيد حياته، بل كان يضيف: “لو شاء ميكيليه لصنع العجائب!”