دون بوسكو الأب المرشد والمعلّم
آتاه الله حكمة وسَعة صدر كالرمل
آتاه الله حكمة وسَعة صدر كالرمل
سالزيانيات
الأب السالسي جان ماريا جناتسا
للجميع
صرف حياته كلّها في سبيل تربية الشبيبة وإرشادهم إلى الخير
إذا لاحَظ المرء ما عمِله دون بوسكو في حياته لَيقف حائراً من النتائج العظيمة التي نتجت في سنين قلائل وبزهيد الوسائل. إنّ عجائب الله تعالى في قديسيه.
وفِعلاً، إنْ ألقينا نظرة ولو سريعة على مشاريعه الكبيرة لاستطعنا أن نقول إنّ في ذلك يد الله. فقد أسّس رهبنتين إحداهما للرجال والثانية للنساء فنما هؤلاء وأولئك نموّاً فريداً سريعاً حتى أصبح عددهم يفوق الخمسة والثلاثين ألفاً انتشروا في أنحاء العالم كلّه في خدمة الشبيبة.
ولم تقف غَيرته الرسولية عند هذا الحدّ بل أوفد بنيه إلى الرسالات بين المهاجرين وغير المؤمنين والمتوحشين، وعُنِيَ كذلك بأمر الدعوات الكهنوتية في أيامه الحرجة الشديدة فعضدها وأنماها حتى تمكّن من أن يُقدّم للكنسية أكثر من ستة آلاف كاهن بقي البعض في جمعيته وانخرط الآخرون في سلك كهنة الرعية وكان معظمهم من بني العامّة. وأنشأ أيضاً المطابع والمكاتب ونشر المطبوعات وقد وضع هو نفسه من الكُتيبات الشعبية ما يقارب المئة من بين الكتب المدرسية والدينية.
وتفرّد دون بوسكو بتعبّده الفائق لمريم العذراء ونشر عبادتها بأحد ألقابها الخاصة وهو لقب “معونة النصارى” وشيّد لها كنيسة كبيرة في تورينو (ولمّا شرع في بنائها لم يكن عنده سوى أربعين سنتيماً (قرشاً) حتى قال هو بنفسه “إنّ كلّ حجر من هذا المعبد عبارة عن نعمة خاصة نالها المؤمنون بشفاعة أمّ المعونة”).
في مشاريعه هذه الكبيرة لم تضعُف ثقته بالله والاستسلام إلى العناية الإلهية والاستعانة بالأمّ البتول مريم. وبالحقيقة كانت تأتيه المساعدات في الوقت المناسب بنوع فائق الطبيعة.
كان دون بوسكو منذ صِباه شديدَ الرغبة في أن يصير الكاهن القريب من الشبان يجذبهم بالمحبة واللّين حتى أصبح أبًا لهم وأخاً وصديقاً (مكتوب 1884). وسُمِع يردد أكثر من مرّة: ” هنا معكم أنا بخير فحياتي أن أكون معكم” (MB 4, 654). وعند نهاية حياته، عندما كان يُضنيه العمل المتواصل، قال لأمين سرّه: “وعدتُ للهِ تعالى بأن تكون حياتي، حتى أنفاسي الأخيرة، لخيري شبّاني المُهمَلين” (MB 18, 258).
يتيم الأب منذ الثانية والنصف من عمره، تألّم من الفقر والحرمان واضطُرَّ إلى العمل في الحقل ورعاية البقر منذ سِنّه السابع. تعلّم مبادئ القراءة والكتابة في وقت قصير وهو في السنة التاسعة، إذ كان يتردد عمّته وهي كانت خادمة عند كاهن قرية مجاورة. حتى قادتْه العناية الربانية يوماً من أيام 1826 إلى الالتقاء مع كاهن غيور (الأب كالوسّو) وكان ذلك في مناسبة الصلوات الخاصة والمواعظ التي كانت تُلقَى على المؤمنين لنيل غفران اليوبيل.
واتّفق معه هذا الكاهن أن يقصده كل يوم صباحاً ليلقّنه اللغة اللاتينية وبعد ذلك كان يوحنا يعود إلى قريته وعمله في الحقل ورعاية الماشية ولكن لم يَدُم ذلك إلاّ سنة واحدة لمقاومة أخيه أنطون فاضطُرَّ يوحنا إلى أن يشتغل في مزرعة كخادم حتى أصبح عمره خمس عشرة سنة ولأوّل مرّة تردّد إلى المدرسة في كاستِلنوفو، وكان يسير كلّ يوم مسافة عشرون كيلومتراً مشياً للوصول إلى المدرسة حتى اتّفقت أمّه مع خياط على أن يبيتَ ابنها في بيته بدلاً من خدمات يؤدّيها له وقت فراغه من درسه. وقد انتهز يوحنا تلك الفرصة وتلقّن صنعة الخياطة والتفصيل واستفاد من ذلك فائدة كبرى. وبعد ذلك أخذ يخدم حدّاداً ونجّاراً وتعلّم عنهما الحدادة والنجارة حتى انتقل إلى مدينة أخرى (كييري) عام 1831 ليتابع الدروس الثانوية. وأخيراً، بعد أربع سنوات استطاع أن يحقق حُلمه الكبير (عام 1835) ودخل المدرسة الإكليريكية الكبرى ليتعلم الفلسفة واللاهوت.
وعندما سِيم كاهناً سنة 1841 أراد أن يقف حياته كلّها على تربية الشبيبة المهمَلة ورفض أيضاً وظائف مهمّة عُرِضَت عليه (العمل كمرشد روحي ومعلّم موسيقى في مأوى القديسة فيلومينا التابع للمركيزة بارولو). هكذا أصبح دون بوسكو ينتقل من محل إلى محلّ ليجمع الأولاد ويعلّمهم التعليم المسيحي ومبادئ الحساب والقراءة واضطُرَّ إلى استئجار بعض الغرف حتى تشكّى الجيران من ضوضاء الأحداث وأخذ دون بوسكو ينتقل من جديد، مشابها بذلك السيّد المسيح الذي كان يطوف المدن والقُرى وليس له مكان ليسند رأسه.
شرع أوّل الأمر في المصلّيات العيدية بأن جمع مئات من الشبان أيام الآحاد والأعياد لإرشادهم في أمور الدين وإبعادهم عن الأخطار. ثمّ فتح ملاجئ للأيتام والفقراء ومدارس لمتوسّطي الحال (مدارس صناعية نهارية ومسائية).
السجون كانت مُنطلَقَه ثم الشوارع وأزقّة مدينة تورينو الإيطالية. بحث عن المتعطّلين عن العمل، عن اليتامى فالمطرودين ثم الأُجراء وأبناء العمّال فالمُهمَلين عن كلّ رِعاية روحية كأبناء القرى النازحين إلى المدينة سعياً وراء الرزق.
وكان دون بوسكو يعامل الأولاد بتلك الجاذبية الخاصة التي كانت ميزته منذ صِباه. فكنتَ تراه يلاعبهم، يروّح عن أنفسهم بشتى الوسائل من موسيقى ومسرح وملاعب ورحلات. وكان الأولاد يبادلنه حبَّه وثقتَه، يُحيّونه بجذل في الشوارع (هناك ماسح للأحذية صغير يصافحه بحرارة فيترك على يده آثار الدهان، وهناك منظّف للمداخن يهتف إليه بأعلى صوته من فوق أحد السطوح (عاش دون بوسكو) وهو يلوّح بمكنسته كأنها بيرق خفّاق، وثَمّة أجير فرّان يتناسى طبق الخبز وسط الشارع ليسعَ إليه باسط اليدين…
ولم يفقد دون بوسكو تفاؤلَه في الأولاد ورأى في كلّ واحد منهم قماشاً جيّداً ليُفصّل ثوباً جميلاً للرب.. لم تُثْنِه الصعوبات (أوّل ما أنشأ داراً للمبيت آوى ليلة من الليالي طائفة من أبناء الشوارع بأمل أن يُعيدهم إلى الله. فما كان انذهاله لمّا جاء الصبح ليوقظهم فوجد بيت المنام فارغاً ليس فيه لا مطرح ولا لِحاف ولا كيس…). لم تُثْنِه الصعوبات ولم يعدِل عن تفاؤله. فكم من الشبان قد حوّلهم دون بوسكو بعنايته الأبوية وطريقته في التربية.ثلاثة منهم كتب هو نفسه سيرتهم ليقدّمهم كمثال يُقتَدى بهم:
دومنيك سافيو الذي أرشده دون بوسكو إلى قمم القداسة وقد مات في الخامسة عشر من عمره.
بِيزوكّو فرانشيسكو ذلك الراعي الصغير الذي أتى إلى المُصلّى وازدهر بإكرامه لمريم العذراء وغيرته الرسولية بين أقرانه.
ميشيل ماغونه قائد المشرّدين في قريته الذي دعاه دون بوسكو إلى المُصلّى عندما كان في ربيعه الثالث عشر وأصبح بإرشاده قدوة لرفقائه.
ربّما سأل سائل: “كيف تيسّر للقديس أن يربح ثقة أولاده حتى كانوا يتهافتون عليه ويكشفون له سرائرهم وأسرارهم؟ إنما السرّ في ذلك ما كان ينصحه لرهبانه بقوله: “أحبّوا الولد فيطيعكم. كونوا آباء لا رؤساء”.
كان مبدأه العملي: “إن أردتَ أن يُحبَّ الفتى ما أنت تؤمن به فأحبِب أنت ما يهواه الفتى”. “على كلّ مربٍّ أن يشاطر طلبتَه في حياتهم العملية”.
لذلك كان يشارك أولاده في ألعابهم ويتحبّب إليهم ويُفعم قلوبهم بهجةً وسروراً بعذوبة كلامه ولطف معاملته وذلك كلّه في جوّ يشابه جوّ الأسرة.
أمّا الهدف في تربيته فكان أن يجعل من أولاده مسيحيين صالحين ومواطنين مخلصين وذلك بالأمانة في تتميم الواجبات من دروس وعمل في جوّ من الفرح “اعبدوا الربّ بالفرح”.
إنما القلب ينبض والشباب يدوم إن عرف أن يستقي من المنهل الإلهي بواسطة سرّي التوبة والقربان الأقدس لأنّهما الركنان الأساسيان اللذان ركّز عليهما دون بوسكو تربيته. وإلى جانب ذلك غذّى في نفوس الشبيبة معنى الاحتياج إلى الأمومة الروحية فكانت مريم أمّ يسوع شخصية رئيسية في مدارس دون بوسكو ودعاها المؤسّس بلقب أمّ المعونة إذ اعتبرها دافعاً ورائداً للرسالة التي وكّل الروح القدس إليه وإلى جمعيته.
هذا ما فعله دون بوسكو في حياته وقد بذل نفسه في سبيل خير الشبيبة.
في آخر حياته نصحه الطبيب أن يغادر المدينة ويذهب إلى الريف ليستعيد قِواه. ذهب دون بوسكو إلى لَنْزُو متّكأً على العصا أو محمولاً في عربة صغيرة إلى مكان هادئ مطلّ يُجيل منه النظر إلى المدينة. سأله يوماً أحد الرهبان “لماذا تُركّز إلى الأفق البعيد، يا أبانا؟ أجاب: “هناك أبنائي الفتيان” (MB 18, 369).
وهو على فراش الموت قال للذين حوله: “قولوا لأولادي الأعزّاء إنّي أنتظرهم كلّهم في السماء”. (27 كانون الثاني 1888 MB 18, 533).
فعلاً قد صرف حياته كلّها في سبيل تربيتهم وإرشادهم إلى الخير. فكان في ذلك سبّاقاً لعصره متخطّياً حدود الزمان والمكان كاشفاً لنا معالم رسالة مثمرة.
كان دون بوسكو يردّد لمن كان يدعوه إلى الانضمام إلى رهبنته الجديدة: “تعالَ…أعطيك خبزاً وعملاً والجنّة.” وانضمّ الكثير من الشبان الأسخياء من كلّ البلدان والجنسيات إلى عدد أبنائه ليواصلوا عمله الرسولي بين الشبيبة
تُرَى، ألا يكون بيننا من يسمع نداءه ويثق به كما وثق به الكثير من الفتيان ليعطيه خبزاً (ما يكفي من الحياة المادية) عملاً (في الرسالة بين الشبيبة) وأخيراً الجنة؟