من أنا؟ كيف أعرف ذاتي وأثق بها؟!
معرفة الذات والثقة بها ضرورة إنسانية
معرفة الذات والثقة بها ضرورة إنسانية
مواضيع تربوية
الأب رامي الياس اليسوعي
للجميع
معرفة الذات والثقة فيها
طُلبّ منيّ التحدث عن موضوع معرفة الذات.. لذلك، بداية أقول أنه مجرد طلب الموضوع هذا يعني أننا لا نعرف أنفسنا.. أليس من الغريب أن لا نعرفها؟ ولماذا لا نعرفها؟ ما الذي يمنعنا من معرفتنا لذاتنا؟ وكيف يمكن أن نعرفها؟ وقبل كل شيء هل من الضروري أن أعرف ذاتي؟
ألّا أعرف ذاتي، هذا يعني أنني غريباً عنها وهذا أمر منطقي جداً، لا يمكنني أن أكون سعيداً وأنا غريب عن ذاتي.. حتى الغربة الخارجية، أي عندما يضطر الإنسان للاغتراب ومهما انخرط في المجتمع الجديد يبقى غريباً وبالتالي يعيش في حنين مستمر لمجتمعه الأم وبالتالي لا يكون سعيداً، إلاَّ في حالات نادرة والتي غالباً تتم عندما يهاجر الإنسان وهو في سن صغيرة إلى حدّ ما.
فالغربة عن ذاتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً في كل ما أعيشه: لا يمكنني أن أجد معنى لحياتي، وقراراتي كلها لن تكون صحيحة، لأن القرار الصحيح، بالطبع كل شيء يبقى نسبي، أي لا وجود لقرارات صحيحة كليّة، ينبع من معرفة الذات بمعنى أخر، القرار الصحيح هو وسيلة من الوسائل لا شك، لكنه وسيلة مهمة جداً لتحقيق ذاتي وبالتالي لأجد المعنى لحياتي ووجودي. فهل يمكنني أن أحقق ما لا أعرفه؟
إذن معرفة الذات أمر ليس فقط مهم بل حيوي وحياتي. فمسيرة الإنسان الإنسانية والنفسية والعاطفية هي مسيرة من الذات إلى الآخر، ومن اللاتمييز إلى الهوية الشخصية. من الذات إلى الآخر، أي أنه لا يمكنني أن أعرف ذاتي خارجاً عن الآخر وسوف نرى ذلك لاحقاً.
إذا قبلنا بأهمية معرفتنا لذاتنا فالسؤال هو، ما الذي يمنعني من معرفتي لذاتي؟ حتماً الأسباب عديدة ولكن سوف أتوقف معكم على الأهم منها.
بشكل عام التربية لها دور كبير في هذا المجال. إنَّ تربيتنا بشكل عام غير تشجيعية، ولا تساعد على خلق ونمو الثقة بالنفس التي ترتبط بطريقة أو بأخرى بمعرفة الذات. غير تشجيعية لكونها تركّز على اكتشاف سلبياتنا وسلبيات الآخرين والتوقف عليها ممَا يشلّنا، بينما المُفترض هو العكس، التدرب على اكتشاف الإيجابيات والسعي لتنميتها والتغاضي إلى حد ما عن السلبيات التي نعرفها عن ظهر قلب.
بهذا المعنى أقول بأن أفضل طريقة لنقد الذات والآخرين هي التشجيع، بالطبع تشجيع الإيجابيات الموجودة لديه.
قد يعترض البعض قائلاً بأن هذه الطريقة ستقود حتماً إلى التكبّر (بخاف إذا عملت هيك يكبر راسي)! نجيب بأنه طالما أعرف سلبياتي فليس هناك من خطر! أولاّ هذا الاعتراض هو في النهاية تعبير من خلال إيجاد التبرير اللازم لكي لا أواجه ذاتي وخاصة ما لا أحبه فيها. ثانياً، كل هذه الأمور تجعل من النادر ما يعيش الإنسان ذاته، من جهة لكونه لا يعرفها، ومن جهة أُخرى، وبسبب عدم ثقته بذاته، يسعى دائماً لإرضاء الآخرين والمجتمع. فيصبح الموضوع دائرة مغلقة لا بد من كسرها.
هذه النقطة مهمة للغاية. غالباً نعيش الآخرين والمجتمع ولا نعيش ذاتنا، وذلك لعدم ثقتنا بذاتنا، فنسعى دائماً لإرضاء الجميع ما عدا ذاتنا. نعتقد بذلك أننا نرضيها لكن في الواقع ما من شيء يرضيها سوى عيشنا لها بكل بساطة. أن أعيش ذاتي هذا يعني الوصول إلى انسجام معها، إلى أن أسكنها وهذا مصدر سعادتي الحقيقية، كما أنه يجعلني إنسان خلاّق، أي أن الهوّة بين كلامي وأفعالي تصبح ضئيلة جداً، وتكون أقوالي إلى حد لا بأس به، عمل.
إذا قبلنا بذلك يبقى السؤال: كيف يمكنني أن أعرف ذاتي بشكل أفضل؟ بداية السرعة في هذا الموضوع تعطّل العملية، لأنّ معرفة الذات تتطلب الكثير من الوقت نظراً لكل ما قلناه سابقاً وتغيير ما تربينا عليه ليس بالأمر السهل ولا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. فلكي أعرف ذاتي عليّ بكل بساطة أن آخذ الوقت لكي أكون مع ذاتي. أحاول أن أقرأ تاريخي الشخصي دون توتر ولا خوف آخذاً بعين الاعتبار أن هذه العملية تأخذ مسيرة الحياة بمجملها ولهذا السبب قلنا بأن السرعة سيئة. قراءة تاريخي قد تأخذ الحياة بمجملها لأن لديّ دفاعات منها واعية ومنها لا واعية تمنعني من تذكّر الكثير من الوقت وإزالة هذه الدفاعات يتطلب الكثير من الوقت، هذه القراءة تضعني حتماً أمام أمور إيجابية وأُخرى قد تكون سلبية بقوّة.
هنا عليّ أولاً أن أقبل وأحبّ ذاتي كما هي متوقفاً على الإيجابيات، ولكن خصوصاً عليّ قبول سلبياتي وجروحات الماضي التي قد تكون كبيرة ولكن هذا أمر طبيعي، فما من أحد تاريخه أبيض كالثلج! عندما أقبل وأحبّ ذاتي كما أنا أتحرر من سلبيات وجروحات الماضي، أتجاوزها ولا تعود تعيق مسيرتي بشكل لا واع بالطبع. هناك طريقة أُخرى مهمة: خلال عشر دقائق لا أكثر أقوم بقراءة يومي دون السعي لأتذكر كل تفصيل فهذا يعيق العملية لا بل يوقفها بكل بساطة. هاتين القراءتين تجعلني أعرف ذاتي بشكل أفضل وكما قلنا تحررني.
النظرة الخارجية تكون دائماً أكثر موضوعية. لهذا السبب عندما آخذ بعين الاعتبار ما يقوله الآخر عن ذاتي يساعدني على فهمها بشكل أفضل. قد يبالغ الآخر فليكن! ولكن حتماً هناك الكثير من الصواب فيما يقوله عني وبالتالي من الضروري أخذه على مجمل الجد وهذا عامل مهم في معرفتي لذاتي. بينما في الواقع ردة الفعل المباشرة والعفوية أمام هذا الأمر تكون الدفاع والتبرير وهذا خطأ فادح.
إذا كنت مؤمناً فلا شك بأن الإنجيل إن عرفت كيف أقرأه يساعدني كثيراً في هذا المجال. هذا يعني أن الإنجيل يقول لي من هو الإنسان وأين أنا من إنسانيتي. فكل الشخصيات التي نراها في الإنجيل، بالرغم من وجودها تاريخيا، فهي في الوقت نفسه، وهذا هو المهم، تمثل مواقف أو ردود أفعال عشناها أو نعيشها أو سنعيشها لاحقاً. بهذه الطريقة الإنجيل هو عامل مهم في مسيرة معرفتي لذاتي. بالطبع الباب مفتوح لكل أنواع الوسائل المساعدة في هذا المجال وكل فرد يختار الوسيلة التي تناسبه.
باختصار، معرفة الذات تتطلب الوقوف مع الذات ومواجهتها بكل بساطة وصراحة ودون خوف. المهم أن أقبلها كما هي ساعياً لتنمية الإيجابيات على حساب السلبيات. وخصوصاً أن لا داعٍ مطلقاً للسرعة (ما حدا راكد وراي). نتيجة هذه المعرفة هي الانسجام مع الذات وهذا مصدر سعادة وفرح كبيرين، يجعل من أقوالي إلى حد لا بأس به عمل وأخيراً هذه المعرفة تقودني إلى الحرية. فالحرية الحقيقة، خلافاً لما نعتقده بشكل عام ليست الحرية الخارجية إنما الحرية الداخلية وبشكل خاص الحرية أمام سلبياتي وجروحات الماضي.