من أمراض التربية: هَوَس السرعة
La Frenesia
La Frenesia
مواضيع تربويّة
عن مجلة السالزيان الدورية نقلها للعربية الأب السالزياني بشير سكر
للجميع
التسرّع هو عدو “الانتظار”
استوقف صحفيّ يوماً عابر سبيل تقدّم في السن وسأله: “ما أجمل شيء تتذكّره عن أيام الطفولة؟
أجاب الرجل: ” أتذكّر يوم كنا أبي وأنا نتنزّه بمفردنا ساعة المساء، وفجأة توقّف أبي.”
(كان عمر الرجل يومها خمس سنوات).
وتابع الصحفي: “ولماذا تذكرت ذلك اليوم؟”
” لم أكن أتوقع أن يتوقّف أبي ليقطف من جانب الطريق زهرات أحَبَّ أن يقدّمها إليّ، لكنه توقّف فعلاً “.
الأبناء يحفظون في الذاكرة محطات التوقّف!
إن هَوَس السرعة يهدّد التربية. وهذا هو ما يهمّنا بنوع خاص. نحن نعتبر أن المجالات التي تهدّد فيها السرعة التربية هي متشعّبة في يومنا، نختار منها اثنين:
المجال الأول:
هو محاولة “تجاوز الطفولة”. التسرّع هو عدو “الانتظار”. وهو ما يجعلنا في زمن السرعة هذا نعتقد أن مرحلة الطفولة هي وقت ضائع: وبالتالي فسن البلوغ وحده ذو قيمة! ولكن إحراق الطفولة هو دكّ أساس الحياة. وهذا ما نؤكده مدعومين يقيناً من معطيات علم النفس وعلم التربية، والأسباب متعددة:
لأنّ من الطفل يولد الرجل. ولأن بعد بلوغ العاشرة من العمر يصعب تغيير بعض العادات. ولأن مَن غرس شوكاً فلا ينتظر جني الياسمين. ولأن السنوات الأولى من العمر هي الأكثر هشاشة فهي “سنوات مصيرية” على حد قول المختصّين.
عالم النفس الأمريكي “أرنولد جيسيل” لم يتردد في القول: “إن النمو النفسي الذي يتحقق في السنوات الخمس الأولى بالغ الأهمية!” والأستاذ “ماريو لودي” يؤكد: “خلال السنوات الأولى من العمر يتعلّم الطفل 80% مما سوف ينفعه طول الحياة”.
الطبيبة النفسانية “أليس ميللر” تخلص إلى القول: “مازال الرأي العام بعيداً جداً عن أن يدرك أن كل ما يحدث للطفل في السنوات الأولى من العمر سيحمل تبعيّات لا مفرّ منها إلى مجتمع المستقبل: اضطرابات نفسية، إدمان، إجرام… فهذه ليست إلا تعبير يحكي خبرات تعود إلى مطلع العمر”.
هل الطفولة إذاً هي وقت ضائع؟! إن مرحلة الطفولة هي فرصة فريدة لن تتكرر أبدا ً. فلنترك إذاً الطفل يعيش طفولته (وهذا لا يعني أن يستمر طويلاً طفلاً!)
فلندعْه يلعب ويركض ويحلم ويتخيّل ويفضل البطاطا المقلية على الحساء ويعتقد أنه لمس القمر بإصبعه ويقفز في برك الماء ويبعثر أوراق الشجر الجافة في الخريف (…)
الطفل كلّي الطفولة اليوم سنراه الشاب كلّي الشباب غداً والرجل كلّي الرجولة في المستقبل!
يقول الكاتب “بول كريبيت”: “إن كنا نحب حقيقة أولادنا فلن نجبرهم على قضاء يومهم بين المدرسة والمسبح ودروس البيانو والكمنجة وتمارين الجمباز ودورات الحاسوب بهدف استنزافهم! ”
(…)
المجال الثاني:
الذي نجد فيه هوس السرعة يهدّد التربية هو: عدم استهلاك أرائك (مقاعد) المنزل!!
وهو ضرر أعظم مما يبدو لأول وهلة.
المنزل الذي لا تُستَهلك فيه الأرائك هو منزل بلا روح!
الأرائك غير المستهلكة تعني أن سكان البيت يركضون باستمرار، لا أحد يتوقّف، لا أحد يجد الوقت لينظر في عيني الآخر، لا أحد يجد الوقت ليشعر بالسعادة!
البيت الذي لا تُستَهلك فيه الأرائك هو مقرّ لتغيير ملابس، هو فندق منامة، هو مطعم نثرثر فيه خلال الأكل ونغادر المائدة دون دفع الحساب!
البيت الذي لا تُستَهلك فيه الأرائك هو كل شيء ولكنه ليس الأسرة!
ومع الأسف، هذه هي نتيجة هوس السرعة: خراب الأسرة!
الأسرة (ولا نقصد بها المنزل السكني) تعيش على محطات توقّف: محطة العشاء التي يشارك فيها الجميع مساء حول مائدة واحدة، محطة المحادثات، محطة ارتشاف القهوة، محطة الإصغاء إلى الآخرين، محطة العطلة الأسبوعية، محطة الأوقات الحميمة…
الطبيب النفساني “فولفيو سكابارّو” يصرّح فيقول: “الهجوم الأكبر على الأسرة اليوم غير وافد من الخارج فقط، وإنما من الداخل أيضاً، من هوس السرعة في وتيرة الحياة، من افتقاد الوقت للتواجد معاً، من افتقاد الوقت للإصغاء إلى الأبناء وللحوار…