القسم
مواضيع تربوية
مواضيع تربوية
الأب السالسيّ داني قريو
للجميع
’’لا شيء يُظهر عظمة المسيحي كما يُظهرها تواضع الفكر‘‘
في عالمٍ تتباين فيه الثقافات وتتعدد فيه المستويات، إيّاك أن تجذب الأنظار في بيئة فقيرة – ولا أعني بالفقر هنا الجانب المادي فحسب، بل يشمل أيضاً الفقر الفكري، والاجتماعي، والنفسي، كضيق الأفق، وصَغار النفس، وعقد النقص.
هنا يتجلّى الذكاء العاطفي والاجتماعي في أبهى صوره، إذ يُمكِّن المرء من إدراك تعقيدات التعامل البشري وفهم تأثير البيئة المحيطة على الفرد. فإن كانت بيئتك – سواء كانت عائلتك، أصدقاءك، أو محيطك الاجتماعي – تعاني من الفقر أو السلبية أو التفاهة، فاحذر كل الحذر من لفت الانتباه، لأن ذلك قد يعود عليك بالخسارة، بل بالخطر المحدق.
فالنجاح والتميّز في مثل هذه الأوساط لا يُعدّان فضيلة، بل يُنظر إليهما كتهديد. لن يتقبّل الجميع رؤيتك تنمو، تتقدم، وتسمو. بل إن بعضهم سيتملكهم الحسد، وتشتعل في صدورهم نار الغيرة، ويدفعهم ذلك إلى الكيد والتآمر، مستخدمين النميمة، والمكائد، والخداع، لإسقاطك وإعادتك إلى مستواهم المتدني.
وقد أشار علماء النفس إلى أن الشعور بالحرمان، أو ما يُعرف بـ”الفقر النسبي”، يُعدّ من أبرز العوامل التي تؤدي إلى سلوكيات سلبية مثل العدوانية والغيرة. ففي دراسة نُشرت في مجلة ’’ذا نيويوركر‘‘، أوضح الباحث كيث باين أن الأفراد الذين يعانون من مشاعر الحرمان يصبحون أكثر ميلاً لاتخاذ قرارات متهورة وخطِرة، نتيجة ما يعانونه من ضغوط صحية ونفسية متراكمة.
وقد نبّه الرب يسوع مستمعيه قائلاً: ’’لا تُعطوا الكلاب ما هو مقدّس، ولا تُلقوا لآلئكم إلى الخنازير، لئلّا تدوسها بأرجلها، ثم تلتفت إليكم فتمزّقكم‘‘ (متى ٧: ٦).
وكذلك حذّر القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: ’’لا شيء يُظهر عظمة المسيحي كما يُظهرها تواضع الفكر‘‘.
وفي ضوء هذه التعاليم، يُنصح الذين يعيشون في بيئات فقيرة أو سلبية بأن يتحلّوا بالحكمة، ويصونوا تواضعهم، وألّا يُظهروا تفوّقهم أو إنجازاتهم، بل على العكس، أن يتّسموا بالبساطة وخفة الدم، ويتجنّبوا لفت الأنظار ما أمكن.
أمّا إذا انتقل الإنسان إلى محيط عمل يتّسم بالجدية والانضباط، فهو مدعو حينئذٍ إلى أن يكون لافتًا للنظر، إذ إنّ ذلك قد يعود عليه بالفائدة في بيئة إيجابية تثمّن الكفاءة والالتزام، ولا تحارب النجاح بل تحتضنه وتدعمه.
في مثل هذا السياق، قد يكون لفت الأنظار سبيلًا إلى فرصٍ مهنية أفضل، وتقدير من أصحاب القرار، وربما دعوات للقاءات مهمة تُفتح من خلالها آفاق جديدة. حين يكون الإنسان في المكان المناسب، فإنّ بريق تميّزه لا يُعدّ تهديدًا، بل مصدر إلهام، شريطة أن يُحسن استخدامه بحكمة واتزان.
أما في البيئة الفقيرة، فالجميع متذمّر، منشغل بالآخرين، غارق في تفاصيل الأحداث، مستهلكٌ لما حوله دون إنتاج يُذكَر، وتدور الأحاديث كلها في فلك الغيبة والشكوك؛ فلان اشترى سيارة جديدة، ومن يدري بأي وسيلة جمع المال؟! وفلانة لجأت إلى حقن البوتوكس لتُخفي عيوبها!! وفلان دبّر تأشيرة سفر، بالتأكيد بأسلوب مشبوه!! وفلانة رأيتها تعود إلى منزلها في ساعة متأخرة، على الأغلب هي من النوع الذي في بالي وبالك…
أما في المحيط الغني والإيجابي، فالسمة الغالبة هي الدفء، والجدية، والقدرة على الإنجاز؛ إنه محيط يسعى إلى تطوير أفراده، يعمل بروح الفريق، يثمّن المواهب، ويمنحها المساحة لتزدهر. وهذا ما يجعل مَن فيه يتقدّمون ويتطوّرون على الدوام.
وهكذا، تبرز أهمية التمييز والحكمة في توقيت وكيفية مشاركة مواهبنا وإنجازاتنا مع الآخرين.