دون بوسكو والعائلة
نظرة حب وتعاون ومسؤولية
نظرة حب وتعاون ومسؤولية
سالزيانيات
الأب السالسي فيتّوريو بوتسو
للجميع
لننظر إلى من نحن مسؤولون عنهم وكأنهم أولادنا
كانت أيام يوحنا بوسكو الأولى وادعة باسمة في كنف والد ووالدة يكنّان له حبّاً وعطفاً، إلا أن سرعان ما تحوّل الفرح والابتسام إلى حزن ودموع حينما تيتّم الطفل في الثانية من عمره، فسمع من فم أُمّه الحنون الكلام المؤلم: “قد أمسيتَ منذ الآن يتيم الأب”.
توارى الوالد، ولكن الأمّ كانت المرأة القوية الفاضلة التي تُعنَى بتربية أولادها على أكمل وجه وتكبّ على تدبير الشؤون المنزلية وعلى الأشغال الزراعية الشاقّة بشجاعة، حرصاً على كرامتها وبرهاناً على مسؤوليتها. فأصبحت “ماما مرغريتا” ركن العائلة وأضفت عليها طابعاً مميّزاً أثّر في حياة يوحنا تأثيراً بالغاً. وبالحقيقة، استوحى دون بوسكو من أمّه ما طبّقه لاحقاً في “الأسلوب الوقائي”، فجذور هذا النهج التربوي نجدها في بيت “البكّي” وفي المناخ العائلي، المفعم بالحبّ والبساطة والفرح والمسؤولية السائد فيه.
هذا الجوّ ترسّخ وتكثّف في مركز دون بوسكو في تورينو لما قرّرت “ماما مرغريتا”، بقرار بطولي، مغادرة منزلها والانتقال إلى المدينة لتشارك ابنها الكاهن في اهتمامه بالمشرّدين واليتامى. ففي مقرّها الجديد أصبحت أُمّاً لعشرات، بل مئات الفتيان الذين ليس لهم أُمّ، وأعطتهم حبًّاً وحناناً كانوا بأمس الحاجة إليهما.
كان دون بوسكو قد وعى تماماً أن شخصيته تكوّنت ونمت في جو العطاء، وأراد أن تكون رسالته تطبيقاً لرسالة الأهل، وبخاصة الأفضل منهم، لينمو أبناؤه في جوّ عائلي حقيقي.
في رسالة وجّهها عام 1883 إلى أبنائه الرهبان حول جودة “الأسلوب الوقائي” كتب: “يجب ألاّ تنسوا أنكم تكونون بمثابة الأهل بالنسبة إلى الشبان الذين كانوا دائماً أعزاء عليَّ فأصبحوا موضع اهتمامي، ودروسي، وخدمتي الكهنوتية، ورسالة رهبنتنا السالزيانية. لذلك، إذا كنتم آباء حقيقيين لتلاميذكم، ليكن لكم قلب الأب…هذا القلب الوالدي يرفض التصرّف تحت ضغط الغضب… لننظر إلى من نحن مسؤولون عنهم وكأنهم أولادنا. نحن في خدمتهم على مثال يسوع الذي جاء ليطيع وليس ليتسلّط، حتى أنه ينبغي لنا أن نخجل بكل ما يبدو فينا وكأنه تسلّط، إذ نحن لا نسودهم إلا لنخدمهم بفرح أكبر… بما أنهم أبناؤنا، يجب أن نتفادى الغضب عندما نعاقبهم على أخطائهم، أو على الأقلّ أن نخمده حتى لا يظهر. لنتجنّب إذًا النفس المضطربة، والنظر المحتقر، واللسان اللاذع، ولنشعر بخلاف ذلك، بمشاعر الرحمة لوضعهم الراهن وبأمل كبير لأجل مستقبلهم، وهكذا نكون آباء حقيقيين…تذكّروا أن التربية شأن القلب وفعل حبّ…لنسعَ إذن إلى أن نكون محبوبين” (بالإيطالية: Studiamoci di farci amare).
كل مركز من مراكز دون بوسكو هو عائلة موسّعة، يتمثّل بتماسكها وديناميتها، ويستقي من قوتها الداخلية التزام المبادرة والنشاط اللذان ينمّيان، بدورهما، المحبة من خلال عطاء لا حدّ له.
كان دون بوسكو من بين هؤلاء، فكان مربياً حقيقياً ومثالياً لأنه نقل القيم بحياته وبتصرّفاته قبل أن ينادي بها، ونقلها أيضاً عبر الأجواء التي خلقها في مؤسّسته (الأوراتوريو) والتي أثّرت على تلاميذه إلى حدّ أنهم كانوا يفضّلون البقاء معه على العودة إلى بيوتهم حتى انتهاء العطلة الصيفية.
حقًّا كان المناخ التربوي الغني السائد في بيت دون بوسكو مناخاً تتفاعل فيه التربية والقداسة الإنسانية لتبلغ قمم القداسة المسيحية، كما حصل لدومنيك سافيو، المراهق القديس، الذي اكتشف في صداقة يسوع البُعد الحقيقي الكامل لإنسانيته الفتية.