دون بوسكو والسياسة
خدمة الوطن والكنيسة خدمة نزيهة
خدمة الوطن والكنيسة خدمة نزيهة
سالزيانيات
الأب السالسي فيتّوريو بوتسو
للجميع
“أدّوا لقيصر ما لقيصر، والله ما لله” (مر 12:17).
يتّسم كل إنسان بسمات عصره وشعبه وثقافته، ولا يخرج دون بوسكو من إطار هذه القاعدة العامة. جرت حياته في القرن التاسع عشر (1815-1888)، في إيطاليا، وتأثّرت كثيراً بالأحداث والتقلّبات الاجتماعية والسياسية التي اجتاحت تلك البلاد وأدّت إلى وحدتها السياسية تحت ظلّ نظام ملكي واحد، على حساب عدّة دويلات اختفت عن الخرائط الجغرافية، ومنها الدولة البابوية.
إن الانطلاق من هذا الإطار التاريخي ومعرفة القواعد الفكرية التي وضعتها الدروس والكتب ورسمها التوجيه الروحي في ذهن يوحنا بوسكو منذ قراره بأن يكون كاهنا، ضروريا لتفهم شخصيته ومواقفه من مختلف القضايا، ولا سيما السياسية.
لا شك في أن دون بوسكو، بفضل رسالته تجاه الصبيان المشرّدين، قد ذهب صيته بين الناس وبلغ السلطات الكنسية والمدنية التي وقفت منه موقف المتفرّج الحائر أوّل الأمر، ثم موقف المؤيّد أو المعارض. وكان سبب الاختلاف في مواقفها منه التفاوت الحاصل في تفسير وتقدير ما يقوم به على الصعيد الاجتماعي وما له من انعكاسات سياسية. فمنهم من يفسّر عمله سياسيا ويرى فيه كاهنا ثوريا، قد يهدّد بمبادراته ومشروعاته الجريئة، الاستقرار والأمن، ومنهم من يرى فيه كاهنا غيورا، مسالما، لا يريد إلا الخير “صبيانه الأعزاء” ونشر وتوطيد ملكوت الله.
ما هي الحقيقة؟ أي ما هي نظرة دون بوسكو إلى رسالته الاجتماعية وما هي سياسته في هذا المضمار؟ وأخيرا ما هو موقفه من الأحداث التي كان شاهدا أو مشتركا فيها شخصيا؟
القواعد الفكرية:
في سنوات الشباب والتأهّب للكهنوت تعلّم كيف ينظر إلى الأمور ويحكم عليها. والأمر الذي يلفت الانتباه هو ذهنه، أو حسّه التاريخي، الذي تلقّاه ومكّنه من مراقبة العصر الذي عاش فيه ومن النظر إلى مستقبل الكنيسة والعالم بواقعية وهدوء، بعيداً من القلق والتشنّج.
كان معظم رجال الدين آنذاك ينظرون إلى عواقب الثورة الفرنسية نظرة النقد والشجب، وهم عاجزون عن إدراك أن “الحرية والمساواة والإخاء” قيم مسيحية، لأنهم منغلقون ومتقوقعون في “نظام كاثوليكي محافظ”، قوامه التحالف بين العرش والمذبح، آفاقه ضيّقة وانهياره قضاء محتوم عليه في آخر المطاف.
بيد أنه كانت تنشر في الخفاء، وحتى في البيئات الكنسية، أفكار أخرى، قوامها “التحرّر الكاثوليكي”. إن أنصار هذا المبدأ كانوا يعترفون بقيمة المبادئ العظيمة التي نادت بها الثورة، ولكنهم كانوا يستنكرون ما نتج عن تطبيقها من عنف ولا سيما التسلّط الذي تميّز به حكم نابليون.
استوعب دون بوسكو هذه الأفكار المتضاربة واستطاع، فيما بعد، بتغير الظروف والأحوال، أن يتجاوزها وأن يتكيّف مع المستجدّات الاجتماعية والسياسية من دون أن يمسّ بالمبادئ أو يشوّه هويته وكرامته الكهنوتيتين أو يتخلّى عن ولائه الراسخ للحبر الأعظم. ما كان يجري على الساحة الإيطالية، في مختلف المناطق وشتى المجالات، لم يكن خاليا من الالتباس، فدون بوسكو يراقب بحذر ويسعى إلى أن يسلم من فخّ السياسة الذي وقع فيه “الكهنة الوطنيون”، فاصطدم بهم عندما تأكّد له أنهم يريدون أن يستخدموا البابا لأمر واحد، هو هدفهم السياسي.
سياسة دون بوسكو الاجتماعية:
في أثناء ذلك، وإلى جانب التاريخ الكبير، كانت تتوالى في بيته “الاوراتوريو” أحداث التاريخ الصغير اليومي: التعب الخفي لخير الصبيان، والكفاح الصامت في سبيل دفع الديون…مع تغذية الأحلام التي كانت تتحقّق على مرأى من الجميع وتُثير الإعجاب.
ففي حين كان كارل ماركس ينشر البيان الشيوعي (1848)، وفلاسفة آخرون يلقون نظرة “عملية” على طبقات المجتمع وينادون بالانقلابات والثورات السياسية، كان دون بوسكو يلقي على الطبقات عينها نظرة “علمية”، أي “سياسية” حقّة، لأن السياسة ليست في إعلان المبادئ وإطلاق الشعارات، بل ترجمتها إلى ما فيه خير المجتمع وخدمة الناس.
خدمة الشباب كان هدفه الأسمى، ومخطّطه لإنقاذهم بشتى الوسائل يدلّ على وضوح أفكاره في هذا المضمار وعلى اقتناعه الثابت بأن الشبيبة هم “الشريحة الأكثر رفاهية والأكثر قيمة داخل المجتمع البشري”، فلذلك يستحقّون كلّ تقدير واهتمام من خلال “سياسة” تختصّ بهم وتجيب عن مطالبهم لينموا “مواطنين مخلصين ومسيحيين صالحين”.
يبقى أن دون بوسكو قال يوما للمطران بونومللي، أحد أصدقائه: “أدركت أنه، إذا أردت عمل شيء من الخير، وجب عليَّ ترك كل سياسة جانبا”. لا شكّ أنه قصد بذلك “الابتعاد عن التدخّل في المنازعات الاجتماعية. وهي جزء من برنامج الأحزاب السياسية، فلم يشأ أن يكون مع واحد ضد آخر. ولو صنف كاهنا اشتراكيا، لكان فقد، لوقته، كل مساعدة تأتيه من الميسورين، وكان يحتاج عندئذ إلى المساعدة لأنه لم يشأ أن يترك الأحداث مشرّدين في الشارع. إنه يفعل الخير، بل يفعل كثيرا من الخير حقا للفقراء” (ت.بوسكو، دون بوسكو صديق الشباب، ص 195).
كان اختيار دون بوسكو إذًا “محاربة نتائج الظلم الاجتماعي” وليس “محاربة أسباب الظلم عينه”، وكان يعترف بأن موهبته تختلف عن غيرها من المواهب التي نالها رجال دين آخرون، وكانت كلها غنية بالثمار المفيدة لشعب الله. فقال في هذا الصدد: “لا تخلو الكنيسة من أناس يحُسنون معالجة هذه المسائل العويصة والعسيرة؛ في الجيش أناس جُعلوا للمحاربة، وأناس وكل إليهم الاهتمام بالأمتعة وسائر الأعمال، وهي أيضا ضرورية للتعاون في سبيل النصر” (ذكريات السيرة، ج3، ص487).
دون بوسكو جندي يحارب في الخطوط الأمامية إلى جانب الشباب ولأجلهم وبترك لغيره من العلماء والسياسيين وضع الخطوط العريضة لسياسة ولأجلهم ويترك لغيره من العلماء والسياسيين وضع الخطوط العريضة لسياسة اجتماعية قد تؤثّر على المدى البعيد في تغيير المجتمع ووجهه.
سياسة” أبانا الذي في السموات” :
سبق وذكرنا اصطدام دون بوسكو “بالكهنة الوطنيين”، فهو قد عبّر عن اختلافه معهم بتعبير يتضمّن مبادئ اتجاهه وممارساته: “سياستي هي سياسة “أبانا الذي في السموات”، وحدّد بهذا القول موقفه من الأوضاع السياسية الهائجة والمشبوهة ومن نسبية سياسة الأحزاب، القابلة للتبدّل بتغير الظروف. “لن أكون لحزب من الأحزاب”، صرّح بشدّة غير مرة، واعتمد أُسُسا أمتن من اتّجاهات اليمين أو اليسار: النفوس يخلّصها والأحداث الفقراء يقوتهم ويربّيهم.
ومع ذلك، فلم يكن بإمكانه أن يبقى مكتوف الأيدي ومتفرّجا محايدا أمام الأحداث الخطيرة التي هزّت علاقات الدولة بالكنيسة والتي تميّزت بنزاع طويل ومجابهة عنيفة، أبرز مظاهرها إلغاء الرهبانيات التأمّلية ومصادرة أملاكها، ورفض تعيين الأساقفة من قبل الكرسي الرسولي، وقد طفح الكيل أخيرا عندما فتح الجيش الحكومي مدينة روما، مقرّ البابا وعاصمة الكثلكة، وأعلن إلغاء الدولة البابوية فأصبحت المدينة الخالدة عاصمة المملكة الإيطالية.
وسط هذه الأجواء الساخنة وكأنها إنذار بقرب نهاية العالم، (يؤذي فعليا بنهاية عصر تاريخي للكنيسة وليس بنهاية الكنيسة)، وقف دون بوسكو موقف المؤمن الشجاع والنبي الجريء، اللذين لا يغيب الرجاء عن حياتهما أبدا. نظرا إلى الأحداث، تأمّل استعدّ للعمل، ثم تحرّك من منطق الإيمان وقوته. وإذا بالكاهن المتواضع، المرتدي ثوبا باليا واللاعب مع الصبيان، يأخذ يهدد البلاط الملكي، متنبئا “بجنازات عظمية” فيه، ما لم تُلْغَ القوانيين الظالمة، وإذا به يقف مرّة أخرى في وجه رئيس الوزراء ويقول له: “اعلموا، يا دولة الرئيس، أن دون بوسكو كاهن على المذبح، كاهن في كرسي الاعتراف، كاهن بين صبيانه، (…)، كاهن في بيت الفقير وكاهن في قصر الملك والوزراء” (ذكريات السيرة، ج8، ص534)، معرباً بذلك عن رفضه للمساومة وللتنازلات في ما يتعلّق بحقوق الله وخير النفوس؛ ولكنه أبى، في الوقت عينه، تفهما تاما لمجرى التاريخ الجديد.
لذلك، لما حوّلت الكنيسة والدولة تسوية خلافهما حول تعيين عشرات الأساقفة على الكراسي الشاغرة، اتّفقتا على أن يلعب دون بوسكو دور وسيط غير رسمي فنجح في مهمّته لمِا كان من شأن عظيم عند البابا بيوس التاسع وعند بعض رجال الدولة أيضا الذين اعترفوا له بالتجرّد والحسّ الواقعي واللباقة.
الخاتمة
إن الصورة التي تتبلور أمامنا عبر هذه اللمحة عن مواقف ومداخلات دون بوسكو السياسية لهي صورة كاهن قديس التزم، قبل كل شيء، بدعوته الشخصية ورسالته نحو الشبيبة. غير أنه لم يخشِ أن يتدخّل، عند الضرورة، في الأمور السياسية. كان ذلك من منطلق هويته الكهنوتية دائماً، لا ينال مكاسب شخصية، بل ليخدم الكنيسة والوطن خدمة نزيهة، كما يليق بتلميذ ليسوع يتمسك بقوله: “أدّوا لقيصر ما لقيصر، والله ما لله” (مر 12:17).