المُصالحة والتوبة Reconciliatio et paenitentia
إرشاد رسولي
إرشاد رسولي
اسم القسم
من كتبها؟
موجّه لمن؟
بشأن المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم
أيها الإخوة الأجلاّء والأبناء الأعزاء، السلام والبركة الرسولية.
مقدمة
أصل الوثيقة ومعناها
1- إن المصالحة والتوبة، عندما يدور الكلام عليهما، يحملان رجال هذا العصر ونساءه على العودة مجدداً إلى الكلمات – بعد تحويلها إلى لغة التخاطُب المتداولة اليوم – التي استهلّ بها مخلّصنا ومعلّمنا يسوع المسيح تبشير بقوله: ” توبوا وآمنوا بالإنجيل” (1)، أعني تقبّلوا البشارة، بشارة المحبة، وتبني أبناء الله وبالتالي الأخوّة.
لماذا تعود الكنيسة مجدداً إلى هذا الموضوع وإلى هذه الدعوة؟
إن الرغبة في معرفة إنسان اليوم والعالم المعاصر أفضل معرفة، وتفهّمهما، وحلّ ما يواجههما من معضلات، وهتك ما يغلّفهما من أسرار، وتمييز ما يعتمل فيهما من خير وشر، دفعت، منذ زمن بعيد الكثيرين إلى استنطاق هذين الإنسان والعالم. وهذا الاستنطاق هو من شان المؤرخين، وعلماء الاجتماع، والفلاسفة، واللاهوتيين، وعلماء النفس والشؤون الإنسانية، والشعراء، والمتصوّفين: وهذا الاستنطاق المشفوع بالعناية والاهتمام، والمليء في الوقت عينه بالرجاء، هو على الأخص من شأن الرعاة.
ويعود ذلك جليّاً في كل صفحة من صفحات الدستور الرعوي الهام من المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني المبدوء بعبارة فرح وأمل، وعلى الأخص في مقدمته المستفيضة، الملأى بالحكم. ويظهر، فضلاً عن ذلك، في بعض الوثائق التي نشرها أسلافنا الأجلاء، بحكمتهم ومحبتهم الرعوية، الذين تميّزت حبرياتهم بحدث تاريخي، نبوي، هو هذا المجمع المسكوني.
وترى عين الراعي، كما يرى سواه من الناس، أن هناك، بالإضافة إلى ما يتميّز به العالم وأناس هذا العصر، انقسامات كثيرة، خطيرة ومؤلمة.
عالم محطّم
2- وتظهر هذه الانقسامات في العلاقات القائمة بين الأشخاص والجماعات وحتى بين المجموعات البشرية الكبرى: فينشب الخلاف بين الأمم والأمم أو بين البلدان المتناوئة التي تسعى جادّة إلى السيطرة. ولا يصعب الاهتداء إلى أسباب هذه الخلافات، أعني الصراعات التي تشتدّ بالمواجهة والمشادّة، بدلاً من أن تُحَل بالحوار.
وعندما يبحث المراقبون الناشطون في أسباب هذه الانقسامات يرون أنها تختلف اختلافاً كبيراً: فمن الفوارق المتعاظمة بين الجماعات والطبقات الاجتماعية والمناطق، إلى الصراعات العقائدية، ومن تضارب المصالح الاقتصادية إلى النزاعات السياسية، ومن التنافر القبلي إلى التمييز الناشئ عن أسباب اجتماعية ودينية. وهناك، فضلاً عن ذلك، بعض أمور ماثلة أمام أعين الجميع، تبدو كأنها تبرز وجه الانقسامات المثير للشفقة، وهي أمور تنبع من هذه الانقسامات وتظهر خطورتها بطريقة لا يمكن دحضها. ويمكننا أن نذكر، بين مشاكل عصرنا الاجتماعية:
– امتهان حقوق الإنسان الأساسية، ولاسيما حقّه في المحافظة على الحياة، وعلى حياة كريمة. وإن أخزى ما يخزي أن هناك سيلاً من الكلام الأجوف، لم يُعرَف من ذي قبل، يدور في الوقت عينه، على هذه الحقوق ذاتها.
– الحبائل المنصوبة لحرّية الأفراد والجماعات، والإغراءات التي تستهدف لها، ولا تُستثنى حرية الاعتراف بالإيمان الخاص المعرّضة، أكثر من سواها، للامتهان ولأخطار كبيرة.
– مختلف أنواع التمييز العنصري والثقافي والديني إلى ما سوى ذلك.
– العنف والإرهاب.
– التعذيب وأساليب القمع الظالمة، غير المشروعة.
– تكديس الأسلحة التقليدية والنوويّة، وسباق التسلح، والنفقات الحربيّة التي يمكن التخفيف بها من شقاء الشعوب المتخلّفة اجتماعيّاً واقتصادياً.
– توزيع ثروات العالم ومنافع الحضارة توزيعاً غير عادل، يبلغ ذروته بتنظيم الشؤون الاجتماعية تنظيماً، تتباعد معه، يوماً بعد يوم، الشقة الفاصلة بين أحوال الأغنياء وأحوال الفقراء (2).
وإن شدة هذه الانقسامات تجعل من العالم الذي نعيش فيه، عالماً محطّماً في أساساته (3).
والكنيسة، وإن كانت لا تؤلّف مع العالم كياناً واحداً، وإن لم تكن من العالم، فهي قائمة في العالم، وهي معه في حوار (4)، فلا عجب إذا ما ظهرت في بنيتها آثار الانقسامات ونتائجها، هذه الانقسامات التي يعاني منها المجتمع البشري. والكنيسة، فضلاً عن الخلافات بين الجماعات المسيحية التي تعصف بها منذ قرون، تعاني، في هذه الأيام، هنا وهناك في داخلها وبين أعضائها، من انقسامات ناشئة عن اختلاف الآراء وتباين الاتجاهات في الحقل العقائدي والرعوي (5). وتبدو هذه الاختلافات أحياناً غير قابلة للشفاء. وهذه التمزّقات، وإن بدت، لأول وهلة، مذهلة، يمكن الاهتداء إلى أصولها لدى إنعام النظر، وهي تعود إلى هذا الجرح الذي يثخن صميم النفس البشرية. وهذا ما ندعوه، في ضوء الإيمان، الخطيئة، بدءاً بالخطيئة الأصلية التي يحملها كل من الناس معه منذ مولده، والمنتقلة إليه كإرثٍ عن والديه، حتى الخطيئة التي يرتكبها كلٌّ من الناس بإساءته استعمال ما أعطيه من حرية.
الحنين إلى المصالحة
3- وفي الواقع أن من ينظر إلى هذا الأمر، بما ينبغي من الدقة، يرى في قلب الانقسام، رغبة واضحة لدى ذوي الإرادة الصالحة والمسيحيين الحقيقيين، في حسم الخلافات، وتضميد الجراح، وإقامة وحدة جوهرية، على جميع المستويات. وتثير هذه الرغبة، لدى الكثيرين، توقاً أكيداً ملحّاً إلى المصالحة أو “حنيناً”، وإن لم تُستعمل هذه الكلمة.
إن بعضاً من الناس يعتقدون أن هذا حلم قد يصبح دعوة مالية إلى تغيير المجتمع. بيد أن سواهم يرون أن لا سبيل إلى إدراكه، إلاّ بعد مشقّة كبيرة، حتى لكأنه هدف يقتضي لبلوغه كثير من التفكير العميق والعمل الجادّ. وفي كل حال إن الرغبة في مصالحة صادقة، ثابتة، هي دونما شك، قضية من قضايا مجتمعنا الإنسانية، تعبّر عنها إرادة لا تلين في السعي وراء السلام. وهذا أمر فيه من الإلحاح قدر ما في الانقسام من الأخطار، رغم ما في ذلك من تناقض.
وبعد فلا يجوز، أن تكون المصالحة أقل رسوخاً في النفس من الانقسام. وتكون الرغبة في المصالحة أو “الحنين” إليها، والمصالحة عينها كاملتين، فاعلتين، على قدر ما تنفذان إلى هذا التمزّق الأصلي – بغية إبرائه- وهو في أساس سائر التمزّقات أعني، على ما أشرنا إليه، الخطيئة.
نظرة المجمع
4- إن كل مؤسسة أو منظمة تهدف إلى خلاص الإنسان وفق غاياته الأساسية، يجب أن تتبصّر مليّاً بأمر المصالحة لتدرك ما لها من معنى، وكبير أهمية، وترتقب ما يصدر عنها من نتائج لا بدّ منها للقيام بالعمل المطلوب.
ولا يمكن كنيسة يسوع المسيح أن تهمل السعي إلى هذا الهدف. فهي تجهد بنشاط الأم وحكمة المعلّمة، دائبة، لكي تكشف في المجتمع البشري، ما عدا علامات الانقسام، علامات البحث عن المصالحة، وهي علامات واضحة لها أقوى مدلول. والكنيسة تعرف أنه أُعطيت بصورة خاصة القدرة على المناداة بما للمصالحة من معنى ديني صحيح عميق وأنها أوكلت إليها رسالة للقيام بهذه المناداة، وهي فيما تفعل ذلك، تسهم في شرح ما لقضية الوحدة والسلام من تعابير ومفاهيم.
وما انفكّ أسلافنا يبشرون بالمصالحة ويستحثّون عليها الناس أجمعين وكل جماعة أو فئة منهم رأوها ممزّقة ومقسّمة (6). وإنّا نحن، بدافع داخلي وإذعاناً منّا لإلهام علوي – ونحن على يقين من ذلك – وتلبية لنداءات العائلة البشرية، أبرزنا موضوع السلام بطريقتين مختلفتين، لكن كلتيهما تلفت النظر وتسترعي الاهتمام:
أولاً بدعوتنا مجمع الأساقفة إلى الجمعية العامية السادسة، وثانياً بجعلنا المصالحة محور السنة اليوبيلية التي قرّرناها احتفالاً بذكرى مرور 1950 سنة على الفداء (7). ولمّا كان لا بدّ من اختيار موضوع يعالجه المجمع، وافقنا كل الموافقة على الموضوع الذي اقترحه عدد من إخواننا في الأسقفية، وهو موضوع المصالحة الواسع، والمرتبط كل الارتباط بموضوع التوبة (8). إن لفظة توبة ومفهومها لا يخلوان من التعقيد. إذا ربطناها بالتبديل أو التغيير الذي ترجع إليه الأناجيل، فإن التوبة تعني التغيير الذي يحدث في أعماق القلب تحت تأثير كلام الله وبالنظر إلى الملكوت (9). ولكن التوبة تعني أيضاً تغيير الحياة تجاوباً مع تغيير القلب، وبهذا المعنى إن عمل التوبة يكتمل بهذا: اعملوا…. ثماراً تليق بالتوبة (10). وهكذا تصبح الحياة كلها مطبوعة بطابع التوبة، تسعى باستمرار إلى بلوغ الأفضل. ولكن عمل التوبة لا يكون صحيحاً وفاعلاً ما لم يترجم إلى أفعال وأعمال توبة. وبهذا المعنى تعني التوبة في المفردات المسيحية اللاهوتية والروحية التقشف أي جهد الإنسان العملي، اليومي الرامي، بمساندة نعمة الله، إلى خسران الحياة من أجل المسيح، وهذه هي الطريقة الوحيدة لإيجادها (11)، وإلى خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد (12) وقمع ما هو جسدي فيه وتغليب ما هو روحي (13)، والتسامي باستمرار فوق ما هو أرضي، سعياً إلى ما هو في العلى حيث المسيح (14). وهكذا تكون التوبة تبدّلاً نابعاً من القلب، تترجمه الأعمال في حياة المسيحيين بكاملها.
وترتبط التوبة في كل من هذه المفاهيم ارتباطاً وثيقاً بالمصالحة، لأن المصالحة مع الله والذات والآخرين، تقتضي إزالة هذا الشدخ الكائن في أعماق النفس، وهو الخطيئة، وهذا لا يتم إلاّ بالتحول الباطني أو التبدّل الذي يثمر في الحياة بأعمال التوبة.
وقد فسحت وثيقة المجمع الأساسية (المسمّاة الخطوط الكبرى)، المعدّة فقط لطرح الموضوع وشرح بعض جوانبه الأساسية، في المجال للجماعات الكنيسة، حيثما هي في العالم، للتفكير، طوال سنتين تقريباً في هذه الجوانب من الموضوع – أي التبدّل والمصالحة – التي تهمّ الجميع، وبالتالي لأخذ دفع جديد منه للحياة المسيحية والرسالة. وتعمّق البحث، بعد ذلكن لدى إعداد عمل المجمع إعداداً قريباً، من خلال أداة العمل التي أُرسِلت إلى الأساقفة ومعاونيهم في الوقت المناسب، ثم عالج آباء المجمع، طوال شهر، مع الذي دعوا إلى حضور الاجتماع الخاص، الموضوع وما يتعلّق به من مسائل عديدة مختلفة، بشعور عالٍ من المسؤولية، وصدر عن النقاش والدرس المشترك والبحث الدائب الدقيق ما يشبه الكنز الكبير الثمين، وقد عرضته باختصار في جوهره الاقتراحات الأخيرة.
وعندما بحث المجمع الأمر، لم يتجاهل أعمال المصالحة (وقد مرّ بعضها دون أن يسترعي الانتباه لأنه من الأمور العادية اليومية) التي تصلح، بطرق مختلفة، لفضّ الكثير من الخلافات، وحسم الكثير من النزاعات، وإزالة الانقسامات، صغيرة كانت أم كبيرة، وإعادة الوحدة. لكن همّ المجمع الأكبر كان منصبّاً على اكتشاف الأصل الحقيقي الكامن في صميم هذه الأعمال المتفرّقة. أي المصالحة في “ينبوعها”، إذا صحّ التعبير، التي تعمل في قلب الإنسان وضميره.
وإن موهبة الكنيسة الخاصة وميزتها الفريدة، فيما يتعلّق بالمصالحة وواجب إجرائها على كل صعيد، تهدفان إلى العودة بها دائماً إلى هذه المصالحة في “ينبوعها”. وتشعر الكنيسة، بما لها من رسالة خاصة، بأن من واجبها أن تذهب إلى هذا التمزّق الأول، تمزّق الخطيئة، لتحمل إليه الشفاء والمصالحة، وتعيد إذا صحّ التعبير، المصالحة الأولى التي هي المبدأ الفعّال لكل مصالحة حقيقية. وهذا ما وضعته نصب عينيها واقترحته من خلال المجمع.
وقد تحدّث الكتاب المقدس عن هذه المصالحة، ويحثّنا على السعي إليها بكل قوانا (15)، لكنه ينبّهنا أيضاً إلى أنها، قبل كلّ، عطيّة، يجود بها الله برأفته على الإنسان (16). وتاريخ الخلاص – سواء أكان خلاص البشر أجمعين أم خلاص كل من الناس، في أي زمان كان- إنما هو تاريخ المصالحة الرائع، الذي صالح فيه الله الآب العالم بدم ابنه الذي صار إنساناً وبصليبه، وأنشأ هكذا عائلة المصالحين الجديدة.
والمصالحة ضرورية، لأن الخطيئة أحدثت شدخاً أحدث بدوره سائر أنواع الشدوخ في نفوس الناس وفيما حولهم. ولكي تكون المصالحة كاملة، فه تستدعي حتماً التحرّر من الخطيئة التي يجب رفضها في عمق أعماق أصولها. لذلك يترابط التبدّل والمصالحة برباط داخلي متين، بحيث لا يمكن الفصل بينهما أو التحدث عن الأول دون الثاني.
وتحدّ المجمع أيضاً عن مصالحة العائلة البشرية جمعاء، وعن ارتداد قلب كل من الناس، وعودته إلى الله، معترفاً بذلك ومعلناً أن وحدة البشر لا يمكن أن تتحقق ما لم يغيّر كل من الناس ما في نفسه. والتغيير الشخصي هو السبيل الذي لا بدّ منه، والمؤدي إلى الألفة بين الناس (17). وعندما تُعلن الكنيسة نبأ المصالحة المفرح أو تقترح إجراءها بواسطة الأسرار، فهي تقوم بدور نبويّ حقاً، فتشير إلى شرور الإنسان الجارية من الينبوع الفاسد، وترشد إلى أصل الانقسام، وتوقظ الأمل بالمقدرة على التغلّب على التوترات والنزاعات بلوغاً بهذه الوسيلة إلى الألفة والسلام، على جميع مستويات المجتمع البشري وفئاته. فهي تحوّل واقعاً تاريخياً مطبوعاً بطابع الحقد والعنف إلى حضارة محبة، وتقدّم إلى الجميع مبدأً نابعاً من الإنجيل والأسرار، هو مبدأ المصالحة في “ينبوعها” التي تجري منها كل بادرة مصالحة أو عمل مصالحة، حتى على الصعيد الاجتماعي.
وسيدور البحث في هذا الإرشاد على مثل هذه المصالحة التي هي نتيجة التبدّل. ذلك أن آباء المجمع – على مثال ما حدث في نهاية جمعيّات المجمع العامة الثلاث السابقة – دفعوا هذه المرّة أيضاً بحصيلة عملهم إلى أسقف روما، وراعي الكنيسة جمعاء، ورأس مصفِّ الأساقفة، بوصفه رئيساً للمجمع. فقبلنا المهمّة بطيبة خاطر على أنها واجب خطير من واجبات خدمتنا، وهي مهمّة الأخذ من كنز المجمع العظيم، لنقدّم لشعب الله، كثمرة لهذا المجمع، رسالة عقائدية ورعوية في موضوع التوبة والمصالحة. وسنبحث إذن في القسم الأول في الكنيسة لدى قيامها بمهمّة المصالحة وتشديدها على عمل تغيير القلوب الذي يعانق الإنسان معه الله مجدّداً، ويعانق الإنسان أخاه الإنسان، ويعانق الإنسان الخليقة جمعاء. وفي القسم الثاني سنبيّن السبب الأساسي لكل تمزّق أو انقسام بين الناس وعلى الأخص تجاه الله، وهذا السبب هو الخطيئة. وسنعرض أخيراً الوسائل التي تستطيع الكنيسة بواسطتها أن تعمل على المصالحة التامة بين الناس والله، وبالتالي على مصالحة الناس فيما بينهم وتستحثهم على هذه المصالحة.
إن الوثيقة التي ندفع بها إلى أبناء الكنيسة وإلى جميع الذين يتطلّعون إلى الكنيسة باهتمام وإخلاص، سواء أكانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، هي بمثابة جواب على ما طلبه منا المجمع. وهذه الوثيقة – وهذا ما نريد أن نعلنه، إرضاء لواجب الحقيقة والعدالة – هي صنع المجمع عينه. وإن ما تنطوي عليه هذه الصفحات، إنما هو صادر عن هذا المجمع أيضاً: عن إعداده البعيد والقريب، وأداة العمل، والمداخلات في قاعة المجمع أو في اللجان، وعلى الأخصّ، عن الاقتراحات الثلاث والسبعين. إنّا نجد هنا حصيلة العمل المشترك الذي قام به الآباء ولم يغب عن صفوفهم ممثّلو الكنائس الشرقية التي تملك كنزاً لاهوتياً، روحياً، وطقسياً وفيراً، جليلاً حتى بالنسبة إلى الموضوع الذي يهمّنا هنا. وفضلاً عن ذلك، إن مجلس أمانة سرّ المجمع هو الذي قيّم، فور نهاية المجمع، في دورتين هامّتين، نتائج ما أنجز هذا المجمع من أعمال وأعطى من توجيهات. وهو الذي أبرز أهم ما في المقترحات من نقاط، وهو الذي رسم أخيراً الخطوط الكبرى الملائمة، لوضع الوثيقة الحاضرة. وإنّا إذ نشكر جميع الذين قاموا بهذا العمل، نريد، أمانة منّا لرسالتنا، أن نعرض ما بدا لنا في كنز المجمع العقائدي والرعوي أن فيه فائدة لحياة الكثيرين من الناس، في هذه الفترة الرائعة والعصيبة من التاريخ.
ويطيب لنا أن نقوم بذلك – وهذا له مدلوله الكبير – فيما لا تزال ذكرى السنة المقدسة حيّة في قلوب الكثيرين، وقد انقضت في جوّ توبة وارتداد ومصالحة. وليكن هذا الإرشاد الذي نوجهه إلى إخواننا في الأسقفية ومعاونيهم، وإلى الكهنة والشمامسة والرهبان وجميع المؤمنين رجالاً ونساءً من ذوي الضمير المستقيم، لتنقية إيمان كل منه الشخصي، وتنميته وتعميقه. وليكن كخميرة صالحة لتوطيد السلام والأخوّة والأمل والفرح في القلوب وهي قيم نابعة من الإنجيل الذي يجب أن يقبل ويكون موضوع تأمل ويُترجم في الحياة اليومية، على مثال الطوباوية مريم العذراء، أم سيدنا يسوع المسيح الذي حسن لله أن يصالح الجميع به (18).
تابع القراءة بتحميل الملف