الصوم طريقة للاتحاد بالرب
التسليم لعمل الروح القدس
التسليم لعمل الروح القدس
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب السالزياني داني قريو
للجميع
يؤكد علم النفس أنّ في أعماق الإنسان غريزة جبارة تحرك مسيرة حياته، هي “غريزة أن يكون مميزاً، متفوقاً، مرموقاً” هذه الغريزة مصدرها حقيقة الإنسان الذي ينزع دوماً إلى الخلود، ويرفض الفناء ويود أن يصبح إلهاً، ومصدرها أيضاً توهج الجمال في أعماقه، فهو عاشق بطبيعته لما هو جميل، متناسق رائع، وهذه الغريزة هي نقطة انطلاق الفنون والآداب والفلسفات وكل تراث البشرية من العلوم والحضارة.
الإنسان كائن ينزع دوماً إلى ما وراء الأفق، يود أن يكتشف ما وراء الزمن، يبحث عن أسرار المادة، يعشق التفوق والتميز إنها بقايا “الحس الإلهي” في أعماقه، إنها جذوره المقدسة الإلهية، إنها حقيقتي أنا وأنت وكل كائن عاقل، فنحن نرفض أن نفنى، نتوق إلى البقاء والخلود، نعشق الإبداع والمغامرة والتحدي، نسعى إلى أن يكون “الأنا” فينا عظيماً..
الشيطان يقول” ألق بنفسك من فوق الهيكل”، هنا الخلط بين الألوهية والكبرياء، الاستعراض وكسر قوانين الطبيعة” الجاذبية” هنا يتحول الأمر إلى استعراض نظري باطل، ومعجزة مبهرة تضخم “الأنا” فالشيطان يدرك تماماً أن المسيح قادر على ذلك، ويرغب في أن يتحول المسيح إلى بطل معجزات، إلى سوبرمان إلى شخص “يبهر” العيون، يشجع الشيطان المظاهر الدينية ليفرغ العمق الروحي.
والمسيح يضع القيمة الروحية المضادة لكل هذه الأمور: “لا تجرب الرب إلهك” لم يتنكر المسيح لقدراته الفائقة لم ينف سلطانه وقوة معجزاته، لكنه وضع القيمة العظمى، وهي الإنسان قوي بالنعمة، بالاتحاد بين إرادته وإرادة الخالق، بالتسليم لمشيئة الله ولوصاياه، هنا يضع المسيح المبدأ العظيم” القداسة ليست استعراضاً، ليست أعمالاً تكسر قوانين الطبيعة وتخترق أسرارها، القداسة هي اتحاد الإنسان بالله، بإرادة الله” التحامنا به.
ما هو الصوم؟
ما هو الانقطاع؟
الفرق بين الاستسلام والتسليم؟
الصوم ليس فرض أو إجبار، إنما طوع. والصوم بحاجة لقناعة تامة، قناعة على حجم كل واحد لا زيادة ولا نقصان. الصوم بحاجة إلى التزام وبالقناعة (1بط5/8) “كونوا قنوعين راسخين). إذا لم نكن مقتنعين بالصوم الأفضل ألا نصوم”.
الصوم أو الصلاة:
يجب أن يكون هناك قضية ما حتى أصوم لها أو أصلي من أجلها. حتى عندما أدرس أو أعمل، فأنا أدرس لأنجح، أعمل لأحقق ذاتي أو لأكسب مالاً، أمام أي عمل عليّ أن أسأل نفسي. لماذا أعمل هذا العمل؟
الصوم والصلاة حاجة يومية يجب أن تدخل في الأمور اليومية.
بعد الصوم “قاده الروح” أي ليس يسوع الذي يسير. بعد العماد لم يتباهى، انظروا أنا فلان الفلاني أنما ترك ذاته كالطفل أمام إرادة الروح. نحن كثير من المرات عندما نعمل أشياء حسنة أو يقال فينا أمر جيد لا أحد يستطيع أن يهدّينا، نصبح الأول والأخير، أما يسوع نراه هنا يسلّم ذاته للروح. لم يستعن المسيح بألوهيته في البرية عاش مثلنا قال له الشيطان: إن كنت ابن الله “فمر أن تصير هذه الحجارة أرغفة”. جاع يسوع جاءه الشيطان، في المحن يأتي الشيطان. يسوع استعان بالصوم ليلتحم بالرب.
الصوم لا قيمة له إذا لم يدخل في روح الله، فالصوم ليس لإرهاق الجسد وحسب أو لإذلال النفس إذا لم يكن له هدف ما لا حاجة له. يسوع واجه الضعف البشري بالصلاة والصوم. مهما كانت قوة الجسد كاملة عندما تصوم عندما تتجرد تضعف ولكن يسوع استعان بالصوم ليحفظ ضعفه البشري من الهلاك. لم يستعن بألوهيته أنما استعان بالصوم ليلتحم بالرب أكثر فأصبحت قوته قوة الرب لأنه أصبح ملتحماً به أصبح واحداً معه رغم أنّه إنسان كامل. فبدل أن يضعف بالصوم أصبح الصوم له قوة “في الضعف تكمن قوتي” لم يستعن بألوهيته ليعلمنا الطريق الذي علينا أن سلكه لأنه لو استعان بألوهيته لقلنا أنّه إله لذلك استطاع أن يصوم ويتخلى….
وحتى تحافظ بشريته على قوتها استسلم للروح، قاده الروح للبرية. لكي يسير حسبما يريد الروح، صام ليحافظ على الالتحام.
صام يسوع 40 يوماً كيف استطاع أن يقاوم الجوع وقساوة البرية لم يأخذ يسوع قوته من ذاته بل من تسليمها للروح. لم يأخذ يسوع قراره من جوعه. ورغم جوعه ظلَّ مصمماً على قراره التزم بقراره لم يدع غرائزه تحركه ترك الروح يقوده. “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (متى 4/34). لم يسير يسوع حسب غرائزه أو حسب متطلبات جسده إنما وجّه قوة الروح الذي قاده بعد المعمودية. ونحن عندما نصلي يجب أن نوجّه روح الله نحو ضعفي، أجدد ضعفي وأطلب من الروح معونة لهذا الضعف. عليّ أن أكتشف منطقة الضعف وأسلمها للروح لا أدع غرائزي أو أصدقائي أو المجتمع أو الموضة (الشيطان) توجهني، بل الروح يوجهني، فأنا سلمته هذا الضعف ليدعمه بالتالي أصبح هو المسؤول.
كثير من الأحيان يدخل الشيطان إلينا من باب التحليل كما فعل مع يسوع. فسّر الآية الكتابية وحرّفها ووجهها للشخص الغير المناسب والوقت الغير مناسب، فرد عليه يسوع بآية كتابية أخرى. وضع الشيطان آية لا بمكانها وألقاها لمن لا يجب القول أمامه “ارمي نفسك فيرسل…) أراد أن يظهر المسيح بمظهر “سوبرمان” لكن المسيح ترك الروح يقوده.
التسليم للروح والانقياد له عن طريق الصوم والصلاة هي القوة الكبرى لمواجهة كل الأخطار. فنحن يجب أن نستثمر الروح الذي أخذناه بالمعمودية.
فالصوم هو ارتداد لكل شخص. فبالصوم تأتي الارتدادات الشخصية فالجماعة بأفرادها ترتد وتلتمس الله أكثر من الصلوات العادية أما بالصوم الشخص ذاته الذي يختار طوعاً الأسلوب الخاص لحياته ليغير نمط مسيرته القديمة. فبالصوم نفتح المجال للروح وبالتالي تأتي الإلهامات.
ارتداد، استسلام، إلهام.
بالصوم تنتقل المعركة منّا إلى الرب تكون معركة الرب. الرب هو الذي يواجه الخطر عنّا، بالتالي المعركة تكون مع الله وليست معي. أي من اعتدى عليك يكون قد اعتدى على الله. ظل يوسف يفكر كيف يترك مريم أما عندما نام وترك الفكرة دخل الله وبدأ يعطي الحل. عندما لا نفكر بالمشكلة يدخل الرب لأنك عندما تفكر بالمشكلة تكون مشغول بالمشكلة أما عندما لا تفكر بالمشكلة تفسح مجال باب الحرية أمام الله ليتدخل.
هؤلاء الذين يضعون على بيوتهم أو في سياراتهم النعل، العين، الحذاء. يسلّمون أمورهم لهذه الشعوذات (للشيطان) لأنهم لا يريدون أن يتغيروا أن يرتدوا يريدوا أن يظلوا على نفس الأخطاء على نفس النواقص. فإذا لم نثق بقدرة الله نتمسك بأفكارنا ونبقى على نفس الروتين بالتالي لا تقدم في حياتنا الروحية أي لا معنى لحياتنا أي لا معنى من وجودنا.
يقول الشيطان: “ألق بنفسك من علو، ستحملك الملائكة كما هو مكتوب في الوحي”، الشيطان يحفظ الكتاب المقدس، ويردد الآيات، فليس حفظ الآيات عن ظهر قلب مفتاح القداسة بل العمل بها وجعلها نوراً لدرب الحياة. (هنا مغالطة شيطانية واستخدام شرير لآيات الكتاب المقدس، كما يستخدمها البعض في أعمال السحر والشعوذة، ليس الوحي أداة للسحر وللخرافة، ليس الوحي لإرهاب النفوس وتخويفهم، ليس الوحي “سلطان وقوة” لمن يحفظه عن ظهر قلب، وإنما الوحي نور لمسيرة الحياة ولتأمل العقل، الوحي لمن يحمل الآيات المقدسة سيفاً يسلطه على ضمائر الناس، فالوحي رحمة وحب ومغفرة، الوحي نفس الله وحاشا أن يكون إلا سلاماً وراحةً وأمناً، أنه أسلوب شيطاني قد يستخدمه البعض لفرض سلطانه على ضمائر المؤمنين، يقول الشيطان: “ستحملك الملائكة فالشيطان المتكبر المتمرد يمارس كبرياءه ويسعى لكي يخضع له المسيح ويقلّده في الكبرياء وحاشا للمسيح، أن يقع في فخ إبليس، إن أغلب مفسري الكتاب المقدس يشيرون إلى أن إبليس لم يصدق أن الله صار إنساناً ولم يتبين سر التجسد ولذا غامر بتقديم فخه ليوقع هذا الإنسان “المسيح” كما أوقع من قبل الأنبياء (آدم وموسى في خطيئة الجسد، سليمان الذي بنى معابد لأصنام زوجته..).
وحتى لحظات التجارب لم يكن المسيح قد كشف عن شخصه الإلهي، لكنه أقام البداية وضع حجر الأساس لحضارة القداسة والمحبة، وأعلن عن خلق جديد الإنسان العهد الجديد، إنسان الضمير الحي والنقاء الداخلي بدلاً عن إنسان الطقوس المظهرية والعبادة الخارجية، ليس من المسيحية أن نبحث عن معجزة مبهرة، أن نصدق رؤى كاذبة أنؤمن بظهورات خيالية، ليس الإيمان معجزات لكسر قوانين الطبيعة وإنما الإيمان جهاد يومي لحفظ وصايا الله، ونقاء الضمير.
فالوجود كله معجزات متدفقة في الجماد والنبات والطير، أن طلوع الشمس بهذه الدقة معجزة، أن ألوان الزهور معجزة أ أن نمو الطفل معجزة، وأعظم المعجزات أن أعيش مؤمناً حقيقياً في عالم يضج بالباطل