الصوم المقبول لدى الله
كيف ولماذا نصوم؟
كيف ولماذا نصوم؟
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب داود كوكباني
للجميع
لماذا نصوم في الكنيسة؟ مع أنّ المسيح جاء وحرّرنا من الشريعة مركّزاً على الروح. لذلك إذا كان الصوم هو شريعة ليست نابعة من الروح، فهذا الصوم لا معنى له في المسيحيّة، خاصّة وأنّ كتاب العهد الجديد لا يملك أي نص يفرض الصوم على المؤمنين.
لنتذكّر بعض النصوص:
بالطبع، كلما كانت المخطوطات قديمة، كلّما كانت أقرب إلى الواقع، لماذا؟ لأنّ الناسخ يجرؤ أن يزيد على النص لا أن يحذف منه إلاّ سهواً. وأن ينقّص من النص سهواً، هذا لا يمرّ إلا في مخطوطة أو أثنين وليس في مجموعة من المخطوطات القديمة.
إذاً هذا فيما يتعلّق بالعهد الجديد.
في أولّ الكنيسة وبكتب معاصرة للعهد الجديد، مثلاً كتاب تعليم الرسل الإثني عشر يتكلّم عن الصوم: الكلام يشبه كلام الإنجيل بحسب القديس متى، ولكنّه يزيد هذه الفكرة: إذا أردتم الصوم، لا تصوموا يومي الإثنين والخميس أي مع اليهود بل صوموا الأربعاء والجمعة، ومن هنا أتت قطاعة الأربعاء والجمعة. لماذا؟ لأنّ الذي يهمّ الكنيسة هوَ أن يكون إيمانها كاملاً متكاملاً، وليس بدعة يهوديّة، لذلكَ أرادوا أن يتميّزوا عن اليهود.
إذا في الواقع، الأمر بالصوم هو غير موجود لا في نصوص الكنيسة الأولى ولا في كتب العهد الجديد.
لكن كيف دخل الصوم على الكنيسة؟ ومَن أدخله؟
مَن أدخل الصوم: هُم الموعوظون وليس المعمّدون. مَن هُم هؤلاء: هم الذين كانوا يتحضّرون للمعموديّة. كانوا يتعلّمون في جماعاتهم التعليم المسيحي لمدّة ثلاث سنوات. وكانوا يقضون خمسون يوماً مع الأسقف؛ سبعة أسابيع تحديداً. وفي نهاية هذه الأسابيع السبعة، كانوا يقبلون سرّ المعموديّة في ليلة الفصح أي سبت النور مساءاً. وهذا للتعبير عن عبورهم من الموت إلى القيامة، والعمادات الأولى في الكنيسة من بعد تنظيم الروزنامة الليتورجيا في بداياتها، كانت تتمّ ليلة الفصح وليس ليلة الغطاس إذ في تلك الأيام لم تكن موجودة ليلة الغطاس.
إذاً بدأ الموعوظون يقولون أنّ هذه الفترة مع الأسقف (سبعة أسابيع) يجب أن نكون فيها متفرّغين كلّياً للإصغاء إلى كلمة الله، لأن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله، من هنا بدأ الموعوظون يصومون.
إذاً الغاية الأولى من الصوم كانت الانقطاع عن كلمة العالم للانقطاع إلى كلمة الله. إذا أن أساس الصوم مرتكز على الكلمة. فلننتبه كم هو شبيه بالصوم القرباني الذي فرضه مار بولس بسبب الذي كان يُعاش في كورنتس. قال: تناولوا الطعام في بيوتكم ومن ثمّ تعالوا واحتفلوا بعشاء الربّ. ومع التطوّر أصبح الصوم انقطاع من الخبز البشري للانقطاع إلى الخبز السماوي. وإذا قرأنا في الفصل السادس من إنجيل يوحنا نجد في القسم الأول، كلمة خبز تعني كلمة الله، وفي القسم الثاني نجد الكلمة ذاتها ولكن بمعنى جسد المسيح؛ وهذه هي أقسام القدّاس. من هذا المنطلق بدأت فكرة الصوم في الكنيسة.
فالصائم إذاً كان الموعوظ الذي يستعدّ لاستقبال كلمة الله التي عبر سرّ المعموديّة سوف تعبر فيه من خلال موت وقيامة المسيح. هذه كانت الفكرة الأولى.
الفكرة الثانية: مع تعاقب الأجيال أصبح المعمّدون بفترة الموعوظيّة، يتذكّرون موعوظيّتهم، فيصومون وينقطعون أكثر إلى كلمة الله. وهكذا انتشر تدريجيّاً الصوم في الكنيسة. وفيما بعد نظّمته الكنيسة بقوانين وقالت إن نهار الأحد لا نصوم لأنّه ذكرى قيامة الرب، ولا السبت لأنّه ذكرى تمام الخلق القديم.
والسؤال المطروح الآن هوَ: ما علاقة هذا الصوم بصوم يسوع المسيح؟
هناكَ مَن يفكّر أن الكنيسة تعيش هذا الصيام تشبّهاً بصوم يسوع المسيح. وهذا غير صحيح. وإلاّ لكان الصوم الأربعيني وليس الخمسيني، سبعة أسابيع (ستّة أسابيع وأسبوع الألآم). وفي ختام الأسبوع السادس، وتحديداً يوم الجمعة من الأسبوع السادس نقرأ في الكنيسة المارونية نص تجارب يسوع. ماذا عن هذه التجارب:
نلاحظ في هذا النص أنّ الشيطان يتكلّم مع يسوع ثلاث مرّات:
وفي كلّ مرّة، جواب يسوع كان مأخوذاً من كلمة الله.
كلمة مكتوب، كلمة مهمّة جدّاً، والمقصود هنا ليس بحسب المفهوم الإسلامي، أي أن الله كتب له، بل أن هذا هو كلام الله.
إذاً سلاح يسوع لمقاومة التجربة لم يكن الصوم، بل كلمة الربّ.
أنا لا أصوم لأغلب التجربة، أنا أصوم حتى أتقَوّى بكلمة الله، كي تعطيني القوّة على الخطيئة وفي التجربة. فكلمة الله تقوّيني على الخطيئة.
هذا يعني، بأنه عندما طلب الشيطان من يسوع أن يحوّل الحجارة إلى خبز، قال له: كلمة الله الموجودة في داخلي هي أقوى بكثير من صرخة معدتي الجائعة.
كلمة الله الموجودة في داخلي هي أقوى بكثير من غريزة البقاء الموجودة فيَّ. أليس هذا معنى الصليب؟
أنا أؤمن أنّ كل طاقات الحياة الموجودة فيَّ لا تؤمّن ليَ الحياة. وحدها كلمة الله تؤمّن لي الحياة. فصومي وامتناعي عن الطعام الذي يؤمّن ليَ الحياة البيولوجيّة هو تأكيد على إيماني بأن ركيزة حياتي هيَ كلمة الله.
إذاً يسوع المسيح اكتشف عمق معنى الصوم، وصومي ليس تشبّهاً بصوم يسوع المسيح. أن تفهم عمق معنى الصوم هوَ أن تؤمن بأنّكَ لستَ مجرّد جزء أمام الله: وهذا يعني بأنه لا يحقّ لجزء فيكَ أن يصير كلّكَ. مثلاً، المعدة ليست كلّ الإنسان، إذا شبعت فهذا لا يعني أن المشكلة انتهت، وإن لم تشبع فهذا لا يعني أنّكَ ميت. إن انتهت حياتك البيولوجيّة فهذا لا يعني أنّك ميت. فالموت البيولوجي هو جزء من حياتك وليس كلّ ذاتك. كل ذاتك هي كلمة الله التي قالت لكَ: كُنْ فكنتَ.
كيان الإنسان مرتبط بالكلمة وجوهر هذه الكلمة هو حبّ، إذاً أنا ابن الحبّ.
في التجربة الثانية “… تحملك الملائكة…” وطبعاً يصفقّ لك الناس.
هذا يعني وكأن الشيطان يقول ليسوع: أصبحت إنساناً ولبستَ جسد الضعف لتخلّص الناس، وما هذه القصّة، فأنتَ قادر أن تتمجّد، فإذا رميتَ بنفسك من فوق، سوف تأتي الملائكة وتحملك، هذا ما قاله أبوكَ وبالتالي تصفّق لكَ الناس وتتمجّد.
هل تعرفون ما معنى هذا؟
بكل بساطة، هذا يعني أنّ كل مشروع التجسّد الذي دخل فيه يسوع لا ينجح. ولكن ليس هذا المطلوب. وما أجمل جواب يسوع: “مكتوب، لا تجرّب الربّ إلهك”… أبي يريد الخلاص بالتجسّد وسيتم بالتجسّد. لا أريد أن أقتل الإنسان الذي فيَّ، فهو أيضاً مرتبط بكلمة أبي، لقد أعطاني جسداً وقلتُ له هاأنذا.
وفي التجربة الأخيرة… بعدما أصعده إلى قمّة جبل عالٍ وأراه كلّ ممالك الأرض قال له: أسجد لي وخذ هذا كلّه. أسهل طريق… أخضع لي وخذها.
أتخيّل في هذه اللحظة يسوع تذكّر آدم عندما قال له المجرّب: افعل ما أريد وتصير مثل الله، تعرف الحياة، تعرف الخير والشر. وجواب يسوع، ليس من الممكن أن أكون لكَ، لا أستطيع أن أكون إلاّ لله. لأنّه مكتوب: “للربّ إلهكَ تسجد وإياه وحده تعبد”.
الصوم إذاً هو إصغاء لكلمة الله الحقّة.
لقد لاحظنا أن في التجربة الثانية، استشهدَ الشيطان بكلام الله وقال له: مكتوب…” فهو يعرف أيضاً كلام الرب، ولكن كيف؟
أتريد أن تقرأ كلام الربّ حتى يعمل فيك، أو تريد قراءته حتى تعمل من خلاله ما أنتَ تريد. هذا هوَ الفرق بين قراءة يسوع لكلمة الله وقراءة إبليس. إبليس يريد أن يثبت مقاصده من خلال هذه القراءة. أمّا يسوع فهمّه أن يثبّت مقاصد أبيه. لقد غرف إبليس من الكتاب المقدّس ذاته الذي غرف منه يسوع. ويبقى السؤال: كيف تتعامل أنت مع هذه الكلمة؟
إذاً الصوم هوَ انقطاع عن ذاتك لتقبل الكلمة التي تكوّن ذاتك على طريقة الله وليس انغماس بذاتك، فتستعمل الكلمة لتكبرّك على قدر ذاتك. فكم من الأوقات استعمل كلام الله كي احصل على راحة الضمير.
(وعلى سبيل المثال، تكّلم معي أحدهم بخصوص ” Euthanasieالموت الرحيم” فقد كان يريد أن يستعمل هذا النوع من الموت كي يخلّص قريباً له مريضاً، من العذاب. وعندما عبّرتُ له عن موقفي الذي هوَ موقف الكنيسة، رفض وقال: مكتوب في الإنجيل أنكّم تحمّلون الناس أحمالاً ثقيلة وأنتم لا تمسّونها بإحدى أصابعكم”. صحيح إنّ هذه الآية موجودة في الإنجيل ولكن كيف استعملها؟ فقد كان مقتنعاً بموت هذا الإنسان فارتكز على الإنجيل ليبرّر موقفه. فقلت له: الإنجيل يقول أيضاً، “لا تقتل” ويسوع أتى لتكون لكَ الحياة وليس الموت… ومع كل آيات أخرى شرحتها له، بقي متمسّكاً بكلمته… وفي النهاية قلت له أتمّنى لو كان هذا المريض بوعيه الكامل لسألناه ماذا يريد، هل الموت أم الحياة؟
أستطيع استعمال كلمة الله ولكن في الواقع هذه الكلمة ليست إلاّ تفكيري. فمعنى هذه الآية التي استعملها هذا الإنسان مرتبط بموقف الفرّيسيّين، فهم فعلاً كانوا يتطلّبون من الناس أشياء ولا يمسّونها بإحدى أصابعهم، ولكن هنا الأمر يختلف… فلو قلتُ لهذا الرجل لا يحقّ لكَ أن تقتل مريضاً بهذه الطريقة وسمحت لذاتي في هذا الأمر لكانت هذه الآية في مكانها.
إذاً، الانقطاع عن كلمة العالم يحرّرني من عدوى أن أحجّم كلمة الله على مستوى رغباتي. فالمطلوب هوَ أن أنّمي رغباتي حتى تصبح على مستوى كلمة الله.
تقولون إن الصوم هو تمرين للإرادة. هذا جيّد، لكن هذا الأمر ليس بحاجة إلى مسيحيّة حتى يُعاش. فصومي يجب أن يكون مرتبطاً بروحيّة كلمة الله التي تكبّرني.
ومنكم مَن يقول، “إماتة”، هذه الكلمة استُعملت كثيراً في الكنيسة وأصحبت مع الأسف مبتذلة وفقدت معناها. يتباهَون ويقولون “أنا لا آكل (مثلاً) الشوكولا طيلة فترة الصوم، أو أنا لا أدخّن خلال الصوم… وهذه إماته أعيشها…
هذا جيّد ولكن أين المعنى الصحيح للإماتة؟
إماتة الجسد ليست بأن نؤلم الجسد. وكلمة جسد أوصلتنا إلى التباس كبير. في الكتاب المقدّس وخصوصاً في العهد الجديد الجسد يعنى شهوات العالم. والمعنى العميق لكلمة إماته الجسد، هو إحياؤه، أي إدخاله بسرّ موت وقيامة يسوع المسيح. وما فعلناه نحن هو تحجيم الإماتة بممارسات وأصبح الأمر متوقّف على العذاب. بمعنى آخر، كلّما كنتُ مقهوراً في صيامي، كلّما كان يسوع مسروراً. “ترى مَن هوَ هذا الإله الذي يفرح بعذاب الإنسان”؟
في هذه الطريقة نحن نعبد إلهاً وكأنّه ساديّاً، فالساديّ بعلم النفس هو التلذّذ بعذابات الآخر. يسوع المسيح لا يريدك أن تتعذّب، وما يهمّه من إماتة الجسد هوَ أن ترتبط بما تمّ في عمادِكَ أي بموت الإنسان العتيق الذي فيك وإحياء الإنسان الجديد. وانطلاقاً من هذا المفهوم العميق تتصرّف. أن تأكل أو لا تأكل أن تدخّن أو لا تدخّن، فهذا الأمر مرتبط بالمعنى الذي تعبّر عنه. مثلاً عندما أتناول الشوكولا وأقول للربّ شكراً على هذه العطيّة، وأقول للشوكولا أنتَ لست ربّي ولستَ إلهي، وممنوع أن أخضعَ لكَ، بل للربّ وحده، فهوَ الذي قال: “أنا هوَ الربّ إلهكَ ولا يكُنْ كلَ إلهٌ غيري”.
من هنا أقول لكلّ مَن يريد أن يكون إلهي: أنتَ لستَ ربّي، حتى بالنسبة إلى العلاقات الجنسيّة فالمسيحي كان ينقطع عن العلاقات الجنسيّة خلال كل فترة الصوم أي مدّة الخمسين يوماً.
الفكرة الأساسيّة هي إن بالإماتة يجب أن أموت عن كلّ شيء في حياتي إلهه غير يسوع المسيح. أن أموت يعني أن أدخل بفعل التوبة والتحوّل. وعندئذ أتعامل مع الطعام على أنّه عطيّة من الله وليس الله، وأقول للربّ: في سبيل ملكوتكَ، هناك أهمّ من عطيّة الطعام، فالطعام يؤمّن لي الحياة البيولوجيّة أما قربانك فيؤمّن ليَ الحياة الأبديّة.
هناك مَن يمتنع عن المناولة لأنّه لم يستطع أن يقاوم أكل الشوكولا، مثلاً، قبل القدّاس. هذه كارثة، فالأكل هنا ما زال هوَ الإله وبالتالي ما معنى الصوم القرباني؟ أتى بولس ليقول: ألاحظ أنّ مظاهر الغنى عندكم هي أهم من القربان الذي ستتناولونه، لذلك يجب أن تأكلوا في بيوتكم ما دمتُم تريدون عبادة بطنكم وشهواتكم. اذهبوا وأعبدوا إلهكم خارج مكان العبادة المسيحيّة ما دمتم تريدون المحافظة على التمييز بين طبقتكم العالية والطبقة الفقيرة.
فالصوم إذاً هوَ الاعتراف بأن لا إله إلا الآب والابن والروح القدس.
وأيضاً قلتم أنّه تكفير، سأشرح معنى كلمة تكفير التي استعملت كثيراً. ما معنى هذه الكلمة؟ مَن الذي كفّرَ عنّا؟ لمَن كفّرَ عنّا؟ …
التكفير يكون إمّا للآب أو للشيطان. للشيطان هذا غير ممكن، إذاً للآب.
يسوع كفّرَ عنّا للآب.
أطلب الانتباه إلى هذه النقطة، فهنالك بعض الأمور بحاجة إلى توضيح.
سأسير خطوة خطوة بمنطق التكفير.
هناك مَن يقول، يسوع كفّر عن الإنسان لأنّه أهان الآب. العدالة تقتضي، عند الإهانة، أن نكفّر، أن نعوّض للآب.
لكن كيف؟
إذا كنتُ لا أملك إلاّ ليرة واحدة فكيف أستطيع أن أعوّض لشخص ما بمليار ليرة؟ ومن أينَ لي هذا المبلغ؟
وأكثر من هذا، إذا كنتُ لا أستطيع أن أعوّض لإنسان فكيف لي أن أعوّض لله؟
والتفكير السائد هوَ أن يسوع جاء وقال للآب: لا تغضب، الإنسان لا يستطيع التعويض، سأنزل أنا وأعوّض لك، سأدفع الثمن…
هل تعرفون ما معنى هذه؟
هذا يعني أنّي قسّمتُ الله. يعني أن يسوع أشفق على البشريّة وقال سأدبّر الأمر أمّا الآب فهوَ يطالب بحقّه. هذا الأمر غير مقبول أبداً.
هل يُعقل أن يحبّنا الابن أكثر من الآب؟ هذا تشويه لصورة الآب.
المشكلة أنّ الإنجيل يحتوي الآيتين. “هكذا احبّ الله العالم حتى أنّه أرسل ابنه الوحيد…”
ومن ناحية ثانية: “ما جئتُ لأُخدَم بل لأَخدُم وأبذل نفسي فداءً عن كثيرين…” وهذا يحتاج إلى شرح.
أولاً: ما معنى كلمة فداء؟ وهل تحوي معنى آخر؟
في بعض شرائع العهد القديم، نجد شريعة تقول: إذا تزوّجَ رجلاً ومات قبل أن يكون له ولد، على أخيه أن يأخذ امرأته، أن يفتدي أخاه. ما معنى هذا الكلام.؟
لأنّه مات دون أن يكون عنده ولد، هذا يعنى أنّه انتهى. يأتي الأخ يقول لا يمكن أن يموت أخي، والولد الذي سيولد هو لأخي.
الفداء الذي حقّقه يسوع ليس لإرضاء الآب ولا تعويضاً على الآب، بل لأنّه يرفض موت الإنسان. ولا ننسى بأن يسوع والكنيسة عقدا زواجاً. وحتى يسوع يرفض أن يموت الآب. لماذا؟
لأن الآب يحيا بأبنائه. أفهموا معنى هذه الكلمة جيّداً، فأنا لا أقول بأن الله يموت. هذا يعني أن يسوع المسيح عمِلَ عمَل الفداء حبّاً بالإنسان وحبّاً بأبيه وليس تعويضاً لأبيه.
هذه هيَ الكفّارة التي عاشها يسوع المسيح. فهو لم يقل أبداً أنّه أتى ليخلّص الإنسان من الموت أو من الخطيئة. فقد قال: جئتُ لتكون لهم الحياة والحياة بوفرة.
ومعنى الصليب ليس العذاب، وأن يسوع تحمّل الأوجاع من أجلنا. لقد قال يسوع لبنات أورشليم: “لا تبكين عليَّ بل عليكُنّ وعلى ابنائكنّ”. وكأنّه يقول في النهاية أنتم الأموات وليس أنا.
فالصليب لا يعني الألم بل الأمانة للحب. وعندما يقول يسوع: “مَن أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويتبعني ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني”، هذا لا يعني أن تجلد جسدَكَ كل يوم. فهو يقول لكَ أن تحبّ كل يوم مهما كان الثمن. حتى ولو كان الألم أو المرض، حتى ولو كان الموت الجسدي أي خروجك من هذا العالم. (الأم تيريزا، غمرت الأبرص رغم احتمال انتقال العدوى إليها، لتقول له أنّه محبوب، والله لن يتركه).
ونحن اليوم، نريد أن نحمل الصليب ونقول كيف لا نتعذّب؟
لماذا تفتّش عن العذاب؟
لماذا تريد أن يكون عذابك هو إلهك؟
هل تعرف أن العذاب يستطيع أن يكون إلهك على طريقتين:
فلا الأولى ولا الثانية مسيحيّة.
أنا لا أخاف من الموت ولكن لا أفتّش عنه. الانتحار مرفوضٌ في المسيحيّة، وأيضاً عدم الاهتمام بالصحّة مرفوض.
وأنا، إذا كنتُ لا أبصِر إلاّ من خلال ال 16% الباقية لي في عينٍ واحدة، أستطيع أن أصبحَ قدّيساً وأساعد غيري على أن يصبح أيضاً قدّيساً. وإذا عرفتُ يوماً أن هناك أمكانيّة لأبصرَ جيّداً فإنّني لا أتأخّر. فأن أحمل الصليب مع يسوع وبفرح هذا لا يعني أن أرفض العلاج. ومن جهة ثانية أقول: يا يسوع خذ مني الستة عشر بالمئة، أنا لا أريدها. فأنا لا أخشى من الألم لكن أقبله حتى ولو خسرت كلّ شيء.
قبل أن أصل إلى الختام أريد أن أتوقف على فكرة في نص أشعيا 58.
الصوم الذي يرضي الربّ، يظهر الموقف السلبيّ من أجل موقف إيجابي. الامتناع بحريّتك عن الطعام هو لمؤازرة الممتنع غصباً عنهُ عن الطعام، حتى يتسنّى له أن ينقطع عن الطعام بحريّته.
الفكرة من العطاء هي أن تحررّ… وكم من الأوقات يصبح العطاء وسيلة استعباد؟
أعطي الفقير من أجل أن استعبده، أريد أن أمتلكه ويصبح تحت رحمتي، لذلك لا أساعده للتفتيش عن عمل.
المطلوب أن أرمّم الإنسان لا أن اضعه تحت رحمتي.
ماذا يعني أن أضعه تحت رحمتي؟
لنتخيّل امرأة أخذت قراراً بأن تحبس ابنها في رحمها، لا تريده أن يخرج. ماذا يحصل؟ يختنق الولد ويتمزّق الرحم…
الولد يجب أن يخرج من رحم أمّه.
وكلمة رحمة أتت من رحم. فعندما ترحم أحداً هذا يعني أنّكَ تولده من جديد. المطلوب أن ترحمه لا أن تبقيه في الرحم. ولم يرسلنا الآب إلى هذه الدنيا إلاّ لأنّه رحمنا. قال لكَ: انطلق، كُنْ أحداً، كُنْ انتَ… أنا أعطيكَ الحياة، انطلق وارحم، لا تحبس الناس برحمكَ فبهذا تقضي عليهم وعلى ذاتك.
الإنسان مهمُّ جدّاً في نظر يسوع، جلس وأكل مع الخطأة ليقول لهم أنّ قيمة الإنسان كبيرة في نظر الآب.
وأنتَ، عليكَ أن تُعطي، لكنك لستَ أهمّ من الذي يأخذ. عليكَ أن تعطي ذاتك لا فضلاتك.
انتبه، حتى ولو أعطيت آخر قطعة خبز موجودة عندك ونمتَ جائعاً، فقط من أجل أن تحافظ على مركزك فهذا لا قيمة له. أنتَ الرحم الذي يعطي الحياة. وكما قال جبران: أولادكُم ليسوا لكم. عليكَ أن ترحم حتى يربح الآخر وليس أنتَ. وإلاّ صومكَ لا معنى له.
أخيراً، أتى يسوع ليحقّق مشروع الخلاص. قاده الروح إلى البريّة وهناك صام. أتخيّل الشيطان مرتعباً، لقد خسر المعركة. ها هوَ يحاول ضرب الركن بعد الآخر. وصل إلى عند يسوع وقال له: إن كنتَ ابنَ الله فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً”… أجابه يسوع: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
لم ينجح مشروع إبليس، راح يفتّش عن زاوية ثانية، ركن آخر من أركان عمارة الخلاص حتى يضربه.
في هذا الوقت، أتصوّر يسوع يفكّر ويقول: مسكين إبليس، طلب أن أحوّل الحجارة إلى خبز حتى أشبع وهوَ لا يعرف بأن إرادة أبي أن أصيرَ أنا خبزاً لتشبع البشريّة.
للمرّة الثانية أتى إبليس يحاول ضرب مشروع الخلاص. أصعَدَ يسوع إلى رأس الهيكل وقال له: القِ بنفسكَ فتحملكَ الملائكة… مرّة أخرى، لم ينجح إبليس، ذهب يفتّش عن شيء آخر.
من جديد أتخيّل يسوع يتأملّ ويقول، مسكين إبليس، يريد أن ألقي بنفسي إلى الأسفل حتى تحملني الملائكة ولا يدري بأن أبي ألقى بي من السماء والبشريّة حملتني، لن تُصدَم فقط رجلي بحجر، بل سوفَ اتعَلّق على الصليب وأرمى إلى قعر الموت وهناك أحمل كل البشر وأصعدُهم من الموت إلى الحياة، أُصعِدُهم إلى عند أبي.
محاولة أخرى للشيطان. ها هوَ يقترب من يسوع ويطلب منهُ أن يسجدَ له ويعطيه كلّ ممالك الأرض. كالعادة الفشل ينتظره.
مرّة أخرى أتخيّل يسوع يقول: مسكين إبليس، يطلب منّي أن أركع على رجليه حتى أصبح ملك على ممالك الأرض، لا يدري أنّني أتيت حتى أركع على أرجل الإنسان وأغسلها حتى يستحق أن يكون في ملكوت أبي… وغاب الشيطان سنة وسنتين وثلاثة… ودخل في يهوذا، وبيلاطس، بهيرودس وقيافا… وقال انتهى كلّ شيء ها هوَ على الصليب.
في هذا الوقت، لم يتكلّم مباشرة كما فعل في البريّة، دخل في اليهود وقالوا ليسوع:
إن كنتَ ابنَ الله انزل… حتى اللصوص قالوا له: إن كنتَ ابنَ الله خلّصنا وخلّص نفسك.
مسكين الشيطان لا شيء ينجح معه.
ها أنّ يسوع يصرخ لأبيه: “يا أبتي بين يديكَ أستودِعُ روحي”. وصَرَخَ قائد المئة: “في الحقيقة كان هذا ابنُ الله”. وصرخ الشيطان “انتهيت”.