التوجيه الرسولي ١٩٩٩
الآب والتضامن الأخوي
الآب والتضامن الأخوي
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب خوان فيكّي إدموندو نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
لنلتفت إليه بحب بنوي لنكون مع الشباب بناة تضامن أخوي
“تبارك الله أبو رينا يسوع المسيح” (اف 3:1).
لنلتفت إليه بحب بنوي لنكون مع الشباب بناة تضامن أخوي.
” أني أحبك حبًّا عظيمًا، ولو لم يبقَ عندي سوى لقمة خبز، لقسمتُها بيني وبينك”
(دون بوسكو)
العام الجديد1999 هو السنة الأخيرة للألف الميلادي الثاني وهو السنة التحضيرية الأخيرة ليوبيل الألفين، كما كتب قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته “إطلالة الألف الثالث”: “السنة1999، السنة الإعدادية الثالثة والأخيرة، ستكون لتوسيع آفاق المؤمنين، وفق نظرة المسيح بالذات: نظرة إلى الآب الذي في السماوات”(أنظر متى 45:5) الذي منه أتى وإليه يعود (أنظر يو 21:16). “الحياة الأبدية هي أن يعرفونك أنت الإله الحقّ والذي أرسلته يسوع المسيح ” (يو3:17). الحياة المسيحية كلّها مسيرة حجّ كبيرة نحو بيت الآب، الذي تبيّن كل يوم حبّه المطلق لجميع خلائقه البشرية، وبنوع خاص للابن الضال”(أنظر لو15 :11-32)، مسيرة حجّ تعني كل إنسان في حياته الباطنية، وتنتظم فيها الجماعة المؤمنة وتشمل البشرية بأسرها.
وهكذا يغدوا اليوبيل بتركيزه على شخص المسيح، فعل تسبيح عظيم للآب: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا في المسيح الذي باركنا في المسيح بكل بركات الروح واختارنا منه قبل إنشاء العالم تنكون أمامه قديسين لا عيب فينا في المحبة” (أف 1: 3-4) (إطلالة الألف الثالث،49).
فكيف يجب أن نوجّه “مسيرتنا نحو الآب في هذه السنة؟ توجيهات الحبر الأعظم تخصّ الكنيسة الجامعة، بينما التوجيه الرسولي لدون فيكي، رئيسنا العام، يخصّ العائلة السالسية فقط. ولكن لا داعي للارتباك، لأن توجيه الرئيس العام يركّز على وجه من وجوه المحبة، أي الفضيلة الإلهية التي يدعونا قداسة البابا إلى أبرزها خلال هذه السنة، كما يقول في الرسالة عينها: “فينبغي لنا إذن بنوع خاص هذه السنة أن نُبرز فضيلة المحبة الإلهية ذاكرين تأكيد يوحنا الجامع الرائع في رسالته الأولى على” أن الله محبة” (4 :8-16). أن المحبة بوجهها المزدوج: حبّ الله وحبّ الإخوة، تختصر مسيرة المؤمن الأخلاقية، ففي الله منبعها وإليه مآلها”(إطلالة…،50).
1- الله ينبوع المحبة وإليه نلتفت كأبناء محبين
ذكّرنا الحبر الأعظم قبل قليل “أن الله محبة” وأن مسيرتنا نحو اليوبيل يجب أن تصبح فعل تسبيح عظيم للآب. علينا، قبل كل شيء، إن نقف أمام الله الآب وقفة سجود، متأمّلين صورته كما كشفها لنا الابن المتجسد يسوع المسيح.
توجّه يوما فيلبيس، أحد الإثني عشر، إلى يسوع وقال له:” يا سيّد، أرنا الآب”. فأجابه يسوع الجواب المشهور: “من رآني، رأى الآب (يو14 :9)، وكأنّه دعاه جميع التلاميذ إلى اكتشاف وجه الآب في شخصه.
فمن هو الآب؟ يبدأ فانون الإيمان بالله الآب، لأن الآب الأقنوم الأول للثالوث الأقدس ويقال عنه إنه “خالق السماء والأرض”، لأن الخلق بداية أساس جميع أعمال الله، ولكن صورة الله الآب كما نعرفها اليوم لم تتّضح إلا بواسطة يسوع الذي عرّفنا إليه: “لا من أحد يعرف الآب إلا الابن ومن شاء أن يكشفه له” (متى11 :27).
أكيد أن أبرز الطابع الروحي في الأبوّة البشرية قد ساعد على تفهّم أبوّة الله في العهد القديم، ثم أصبحت الأبوّة الإلهيّة النموذج الذي تستمدّ منها كل أبوّة وجودها وقيمتها، كما يقول بولس الرسول: “لهذا أجثو على ركبتيّ للآب، فمنه كل أبوّة في السماء والأرض” (أف3 :14-15).
لم يتوصل شعب العهد القديم إلى إطلاق الاسم “أب” على الله عن طريق التفكير، بل عن خبرة حيّة عاشها لما اختبر الحماية الإلهية وعنايته في الظروف الصعبة وتيقّن من سيطرة الإله الواحد على الآلهة الكاذبة والبشر. فالفكرة الأساسية أن الله أب فلأنه يحرس شعبه ويقدّم له القوت الجسدي والروحي، فيقابل الشعب هذه العناية بالخضوع والثقة.
علاوة على ذلك، فمنذ عهد داود أخذ الأنبياء ينادون بالأبوّة الفريدة ليسوع. فمعه وصلت صورة الله كأب إلى ذروة كماله. علّمنا يسوع أن ندعو الله” أبانا” (وليس “أبي”) لأن جميع البشر أعضاء جماعة واحدة وجميعهم إخوة. ومع ذلك، فإن كل واحد منا شخصيا هو ابن الله. فنحن، كما ورد في الإنجيل مرارًا، أطفال الله و “أبناء الملكوت” وعلينا يسكب الآب بسخاء الخيرات الضرورية، وأهمّها الروح القدس مظهر اتساع حنانه الرحيم. فعلى الإنسان أن يعترف بتواضع بهذه الأبوة الوحيدة (متى23 :9) وأن يعيش كطفل يناجي أباه (7 :7-11)، ويضع ثقته فيه (6 :25 -34)، ويخضع له مقتديًا بحبّه للجميع (5: 44 -45)، وبتسامحه (18 :33)، وبرحمته (لو6 :36)، وبكمال ذاته (متى5 :41).
2- الله أبو ربنا يسوع المسيح
إذا يسوع إلى اكتشاف وجه الله الآب في شخصه، فلأنّه هو صورة الآب الحقيقية الوحيدة، لكونه الابن الوحيد. لذلك تتّخذ أبوّة الله ليسوع معنىً خاصًا فريدًا كما يتجلّى في الإنجيل. فيسوع يميّز دائمًا في تعليمه بين “أبي” و “أبيكم”، للدلالة على أن علاقته الشخصية بالآب فريدة، لا مثيل لها. الابن الحبيب هو الابن الوحيد، المتّحد مع الآب اتحادًا عميقًا، إلى حدّ أنه يسبر غور جميع أسرار الآب، وهو وحده يستطيع أن يكشفها، كما سبق وذكرنا: “لا من أحد يعرف الآب إلا الابن ومن شاء الابن أن يكشفه له” (متى 11 :27). وبالواقع، يسوع هو الذي كشف البُعد المتسامي الموجود في اللفظين “آب” و”ابن”. كان يطالب بسلطة تتجاوز مستوى المخلوق وكان يخاطب أباه قائلاً: “أباً” (مر14 :36)، الذي يعادل لفظنا” يا بابا”. وهذا النوع من الدالّة التي جوهر أسرار الله، وعلاقة يسوع بأبيه السماوي أساس حياته.
3- يسوع المسيح صورة تضامن الله مع الإنسان
تجلّى سر الحياة الإلهية عندما تجسّد الابن لنا عن الآب. فالوجه الأبوي الذي كشفه لنا هو وجه “الآب الرحيم وإله كل عزاء” (2 قور1 :3). عند ميلاد يوحنا المعمدان أعلن الله رحمته، لأن الاسم “يوحنا” يعني “الله حنّان، رحيم”، أمّا يسوع الذي اسمه يعني “الله يخلّص” فهو تجسّد الرحمة الإلهية. أخبرنا يسوع عن الآب وعرّفنا عليه بأعماله وأقواله وأخيرًا بموته على الصليب وقيامته.
كان عماد يسوع في الاردن ذروة تضامن الله مع البشر مع البشر واستباق لما اكتمل على الصليب. كانت أمام الله الأزلية كلها ليفكر، ولكن، لما قرّر أن يقدّم ذاته للعالم، لم يجد سوى طريقة شائنة، لا تليق بالله كما يتصوّره الإنسان. وقف كانسان مجهول، آتيًا من بلدة لا قيمة لها (الناصرة: أيخرج منها شيء صالح؟) وانضمّ إلى الخاطئين. وقف في صفّ واحد مع الذين يطلبون معمودية التوبة. فيسوع ظهر كالابن عندما شارك حالة الإخوة الأكثر احتياجا والآب السماوي بارك رسميًّا هذا الموقف: “هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت”.
لذلك، كان خيار يسوع الأساسي التضامن الأخوي: تضامن مع الفقراء. وُلِدَ في مغارة حقيرة، ثمّ شارك أبسط الناس في حمل أتعاب الحياة اليومية وصعوبة النموّ الإنساني، وكأنه يريد أن يذكّرنا أن كل ما نعتبره عاديًا، بل تافهًا، هو المكان المفضّل للالتقاء به.
علينا أن نعترف بأننا لا نستطيع أن نفهم تمامًا، ولكن كل ما جرى في حياة يسوع أبلغ من كل خطاب ويوصلنا إلى اكتشاف وجه الله الآب فتضامن يسوع مع الإنسان قاده إلى أقصى درجة من الضعف، وفي هذا الضعف بالذات تجلّت قدرة حبّ إلهي لا مثيل له. تعاطفه معنا، نحن الخطأة، أتى به إلى أبعد أن يذوق معنا ولأجلنا الموت. ابن الله تواضع وشارك الإنسان حتى في الموت فارتفع إلى حياة جديدة. فاختيار آدم الجديد عكس اختيار آدم القديم.
معمودية يسوع صورة موته: غطس في مياه نهر الاردن وفي الوقت عينه غطس في خطايا الناس. فنحن خرجنا مطهّرين وهو محمّل بشرّنا: “ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا”(2قو 5 :21).
اختار يسوع أن يكون مع الإنسان في ظرف محدّد، عندما ينفصم في ذاته وينفصل عن الآخرين، عندما ينهمك في محدوديته وفي خطيئته، في شرّه وفي موته. يعني ذلك أن الله يكون “عمانوئيل” أي “الله معنا” فعلاً لما نحن نتخبّط في وحدتنا وضياعنا ونحتاج إلى ألفة لا أي إنسان أن يقدّمها لنا. وكأن حنانه جعله يتجاوز حدود غربتنا وعزلتنا. هذه هي إحدى مفارقات الله في تصرّفه معنا: يلاقينا حيث يفكّر أنه غائب، أي في سلبياتنا، في ضعفنا وفي ضعفه. خلقنا بقدرته وخلصنا بعجزه.
لما انفتحت السماء فوق يسوع وهو نهر الاردن، انفتحت من جديد فوق الإنسان، بعد أن كانت قد أغلقت منذ خطيئة آدم. فكأن اختيار يسوع بأن يكون مثل الخاطئ بين الخاطئين قد أزال كل بعد بين إله والإنسان. فتضامن يسوع معنا جعل الله حاضرًا في كل مكان. كان التضامن الحل الوحيد الذي اختاره الله لابنه، بينما كان أمرًا مشوّقًا للابن أن يحتفظ بحاله، أي أن يكون ابنًا لإله سيّد وقدير. اختار “الانزعاج”، فكان ابنًا لإله “خادم”، محبّ فقير متواضع.
هذا هو تضامن مع الإنسان، فنحن، كتلاميذ يسوع، لما نعيش التضامن الأخوي مع الناس، وبخاصة مع المحتاجين، أو لما نعيش التضامن مع الشباب، كالسالزيان، لا يمكننا أن نتمثّل بتضامن آخر سوى تضامن الله مع الإنسان، فحينئذ يأخذ بُعدًا جديدًا، هو بُعد إلهي.
4- التضامن الأخوي في مسيرة اليوبيل
يرسم قداسة البابا في رسالته “إطلالة الألف الثالث” بعض الخطوط العملية لتكون هذه السنة مسيرة نحو الآب. ومن بين الاقتراحات المطروحة، يدعو إلى تجسيد هذا الموقف ويقول: “إن الالتزام بالعدالة والسلام في عالم مثل عالمنا، الموصوم بمثل كل هذه النزعات وبفوارق اجتماعية واقتصادية لا تطاق، هو مظهر مميّز لتهيئة اليوبيل والاحتفال به. على المسيحيين (…) أن يكونوا صوت جميع فقراء العالم، فيقترحوا أن يكون اليوبيل وقتًا مناسبًا للتفكير مثلاً بتخفيض هام، إن لم يكن إسقاط عام، للديون الدولية التي تضغط بثقلها على مصير أمم كثيرة. ويمكن لليوبيل أيضًا أن يوفّر فرصة للتأمل في غير ذلك من تحدّيات هذا العصر…” (إطلالة الألف الثالث، 51).
لبى الرئيس العام دعوة قداسة البابا، فبدوره يدعونا إلى التركيز على تحدٍّ عصري ينسجم تمامًا مع رسالة دون بوسكو وتطبيق الروح السالسية. هذا التحدّي هو التضامن: تضامن مع الشباب، “الفئة الأضعف والأثمن في المجتمع البشري” (دون بوسكو)، وتربيتهم على التضامن.
أ) التضامن والمشاركة مع الشباب المحتاجين ومع الفقراء عموما
هو جوهر رسالة دون بوسكو، فجميع القوانين التي سلّمها كمؤسّس إلى أبنائه من رهبان وراهبات ومعاونين، تنصّ بكل وضوح على خياره المفضّل للفقراء والمنبوذين (قوانين السالزيان2 ،26؛ قوانين الراهبات6 ،65؛ نظام المعاونين 1 ،13). انطلق دون بوسكو في عمله مع الشباب المشرّدين والمنبوذين من قناعته الراسخة بأن الله دعاه وأرسله إليهم ليكونوا بمثابة الراعي الصالح، أي ليحمل فيما بينهم، بصورة منظورة وملموسة، حنان الله الآب. فإن أيقونة الراعي الصالح كانت ولا تزال المفضّلة عند جميع أتباع دون بوسكو، لأنها تلخّص ملامح الرب الأكثر تأثيرًا على نهجه التربوي وممارساته مع الشباب. وأهمّ هذه الملامح: تفضيل الصغار والفقراء، الاهتمام بإيصال البشرى والشفاء والخلاص بدافع ملحّ من الملكوت الآتي، الوداعة وبذل الذات، العمل لجمع التلاميذ في جماعة متماسكة ومتضامنة.
إذا نظرنا إلى العالم اليوم، القريب والبعيد، لاحظنا أن هنالك جماهير من الأطفال والشباب والبالغين تنقصهم الخيرات الأساسية ليتمتّعوا بحياة كريمة، ويتخبّطون في مشاكل لا تُحصَى، إن على الصعيد العائلي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. كلهم ينتظرون إشارة تضامن ومشاركة. إليهم يتوجّه حنان يسوع وحنانه يتجاوز العاطفة الإنسانية. لكونه الابن المتجسّد يريد أن يسكب عليهم حنان الآب وببلسم به جراحاته وآلامهم لأنه يريد سعادة كل إنسان ومات ليوفّرها للجميع.
يسوع يسلّم اليوم هذه الرسالة إلى تلاميذه ويدعونهم إلى تلاميذه ويدعوهم إلى تخطّي الشعور بالعجز أمام ضخامة المشاكل باللجوء إلى التعمّق في دراستها واكتشاف أسبابها وإيجاد طرق علاجها بوسائل عملية، وفي أوّلها المشاركة في تقسيم الموارد ومضاعفة الإمكانات بحبّ فياض ليس له حدود.
ب) أنواع الفقر
أمامنا سيناريو جديد يتغيّر بسرعة، نتيجة عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية ويرسم ملامح جديدة للمجتمع، الأمر الذي يفرض علينا، ولو جزئيًّا، مراجعة التزاماتنا لتحديد سلّم جديد للأولويات في القيام برسالتنا. لمن نتوجّه ومن نخدم؟ كيف نتوجّه إليهم وكيف نخدمهم؟ ما هي المواقف الإنجيلية التي نتبنّاها والرسائل الإنجيلية التي ننشرها؟ ما هي المناهج التربوية التي ننتهجها لمواجهة التحدّيات الجديدة والمشاكل الملحّة؟
يتميّز عالم اليوم بظواهر اجتماعية متفاقمة، تتلخّص بكلمة واحدة: الفقر. إنه مأساة البشرية، مأساة روحية ومادية. أبعاده كلها مأساوية وتأثيره على الأشخاص والشعوب مدمّر. للفقر أسماء ووجوده عديدة: الجوع، الأمّية، الأمراض، التهجير، البطالة، عمل الأطفال، وضع النساء في بلدان كثيرة، استعمال الضعفاء، العيش في بيئات لا تضمن الحد الأدنى من مستوى معيشة يليق بالإنسان، أنواع التهميش المختلفة الخ…
بحسب إحصاءات البنك الدولي مليار و500 مليون نسمة يعيشون تحت الحد الأدنى (370 دولار للشخص الواحد، أي دولار واحد لكل يوم)، وعدد هؤلاء يزيد كل سنة 25 مليون. 800 مليون يعنون الجوع. 11 ألف طفل يموتون كل يوم من الجوع. 40% من النساء في البلدان النامية وزنهنّ تحت المعدّل ويعانِين من فقر الدم، وثلث الأطفال يعاني تأخرًا في النموّ الجسدي والفكري…
وليس الفقر نصيب البلدان النامية فقط، فهناك أشكال أخرى تطاول البلدان الغنية حيث يتزايد الإجرام والأمراض العقلية وعدد الانتحارات وبطالة الشباب والتهميش على أنواعه وغير ذلك من أنواع الفقر والضيق الاجتماعي. فكل ذلك حصيلة ما يسمّى بمدنّية الاستهلاك. على الصعيد الدولي هنالك ظاهرة الديون الدولية التي تتراكم وتضغط بثقلها على مصير أمم كثيرة، لأنها عبئًا لم يعد يُطاق، فالدّين العامّ يحول دون إمكانية الإنماء ويخفّض الإنتاج ومستوى المعيشة ويلقي بتلك الدول على شفا الكارثة.
واجبنا الأول أمام هذه الظواهر العالمية أن نعي أن هنالك علاقة بين بعض أنواع الفقر ونمط حياتنا، لأن العولمة (globalisation) جعلت الترابط في الخير والشر أمرًا محتومًا. تفتخر بعض الدول والشعوب بنظامها الاقتصادي والإنتاجي، ولا شك أن فيه فضلاً كبيًرً، ولكن كثيرًا ما يهمّش هذا النظام الشخص الإنساني. فكم هي الضحايا البريئة لتطبيقه. نقرأ في الصحف ونسمع في الأخبار عن توصيات وتقارير المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية، فهي تعرب، في أغلب الأحيان، عن مجرّد منطق اقتصادي أو تفرض سياسة مالية معيّنة لا تأخذ بعين الاعتبار المشاكل الاجتماعية أو احتياجات الضعفاء. وكأن الرحمة والتضامن كلمتان يُمنَع النطق يهما في بعض الأوساط.
كسالزيان، نعني بنوع خاص أن جميع أنواع الفقر تُوقِف وقد تدمّر قدرات الشخص التربوية وتصيب الأطفال والشباب قبل سواهم. لذلك نلفت أنظارنا إلى هؤلاء لأنهم حصادنا، كما أشار الرب إلى دون بوسكو. من منا لا يعرف أولادنا وشبابًا يعانون الضيق والفقر المادي والنقص التربوي والثقافي، المشاكل العائلية، الوحدة، الإذلال والاستغلال؟ إذا رأينا هذا الوضع ولم نقم بشيء، فكأننا رفضنا مواجهة التحدّيات وتلبية الحاجات وكأننا انسحبنا من جبهة رسالتنا وتراجعنا عن التزامنا المسيحي.
حبّ الكنيسة للفقراء والاعتناء بهم، أي خدمة المحبّة، جزء لا يتجزّأ من وجهها، يشهد له التاريخ وتقليد مجيد.
هنالك قديسون وقديسات، مؤسسات رهبانية وخيرية وعدد متزايد من العلمانيين الذين جعلوا خدمة المحبة محور حيلتهم. تطوّر تعليم الكنيسة الاجتماعي ويرتفع صوتها اليوم في جميع المحافل الدولية للدفاع عن الإنسان، وبخاصة الإنسان الضعيف المنبوذ المحروم. فأصبح اليوم حبّ الفقراء المفضّل بُعدًا ضروريًّا للروحانية المسيحية، كما يقول قداسة الباب في رسالته العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”(1987): هذا الحب المفضّل “إنما هو شكل خاص من الأولوية في ممارسة المحبة المسيحية (…). واليوم نظرًا إلى البُعد العالمي الذي أخذته القضية الاجتماعية، فإن هذا الحبّ المفضّل، والقرارات التي توحي لنا بها، لا يمكنها ألا تشمل الجماهير الكثيرة من الجائعين، والمتسوّلين، والذين لا ملجأ لهم، والذين تنقصهم العناية الطبية وقبل لكل أولئك الذين يعوزهم الرجاء بمستقبل أفضل” (عدد42).
5- مسيرة العائلة السالسية
لم تتأخّر العائلة السالسية بفروعها المختلفة في تلبية دعوة الكنيسة، لأن حبّ الفقراء المفضّل يندرج، كما ذكرت، في صميم رسالتها، ولو يوجّه بنوع خاص نحو الشبيبة. كانت ممارسات دون بوسكو مع الشباب متنوعة، ولكنها ارتكزت دائمًا على نهج تربوي يسوده العقل والإيمان والمودّة. فالأسلوب الوقائي اختبره وطوّره مع المشرّدين والمهمّشين قبل أن يختبره مع صبيان “عاديين”. ففي لقاءا ته مع المعاونين ومع السلطات المدنية كان يدعوهم دائمًا إلى التعاون معه في تربيتهم لتحريرهم من البؤس المادي والروحي، لإبعادهم من السجن ومن خطر الفساد الأخلاقي وفقدان الإيمان. وكانت عنده قناعة أن لمشاريعه المختلفة بُعدًا اجتماعيًّا أكيدًا. وبالفعل تعاطى مع مشاكل الصغار ودافع عن حقوقهم، بما فيها الحقّ في الترفيه، فطوّر مفهومه بأساليب حديثة فكان صاحب المبادرات الجزئية مع الشباب في هذا المضمار.
أكيد أن الأطفال والشباب الفقراء المحتاجين هم في صميم الرسالة السالسية كما أرادها دون بوسكو لفروع العائلة الروحية التي أسّسها، فهذا الاهتمام ينبع من كثافة المحبة الرعوية، أي محبّة الراعي الصالح التي تعكس حنان الآب السماوي. فمن هذا المنطلق، كسالزيان، نعي اليوم توسّع مظاهر الفقر وأنواعه في المجتمعات المختلفة وما يليه من أوضاع تمس بكرامة الإنسان في صميمها. ولكن لا يكفي أخذ علم وخبر بالموضوع ولا التأسّف أو إدانة هذا الوضع، مع أن كل ذلك ضروري كخطوة أولى. الميزة السالسية هي العمل، والعمل لا يعني تحريك اليدين فقط، بل تحريك جميع الطاقات الشخصية وتنسيقها مع طاقات الآخرين، لأن “في الاتحاد قوة”، كما كان يقول دون بوسكو.
6- مبادرات عملية
يتميّز دون بوسكو بجرأة مبادراته الاجتماعية وسرعة التدخّل لتلبية حاجات عصره ومحيطه فأعرب من خلالها عن عمق إحساسه وتضامنه.
كلنا مقتنع أن ما نقوم به كل يوم لعيش دعوتنا ورسالتنا السالسية هو “جيّد” و”مفيد”. ولكننا مدعوون هذه المرة إلى القيام بشيء إضافي، مميّز وغير روتيني، أي بفعل تنبّؤي يكون للذين يستفيدون منه ولجميع المشاهدين تطبيقًا مباشرًا وملموسًا للإنجيل، أي فعل محبة مميّز.
هذه رغبة قداسة البابا ورغبة الرئيس العام أيضًا. استخدموا مواهبكم وقوة إبداعكم واعملوا بديناميكية دون بوسكو، والله يوفّقكم.
وكل عام وأنتم بخير.