التوجيه الرسولي ١٩٩٥
دعينا إلى الحرية
دعينا إلى الحرية
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب ايجيديو فيغانو نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
نحيي أسلوب دون بوسكو الوقائي ونطبّقه بتربية الشباب على القِيَم
“الحرية”، أكثر كلمة يستعملها الناس: كلنا نستعملها ويستعملها أيضًا الرئيس العام في توجيهه الرسولي لهذا العام الجديد 1995. واستعملها قبلنا وقبله الفلاسفة والمفكّرون وجميع الذين كافحوا للحصول عليه وللدفاع عنها، كما استعملها الأنبياء والرسل وخاصة يسوع المسيح. هذه الكلمة إذن مهمّة جدًّا بمفهومها على الصعيد الإنساني، لأنها تدلُّ على واقع أساسي في حياة كل إنسان وفي كل مجتمع.
يستشهد دون فيغانو ببولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية (غل 5/13)، حيث يقول إن الحرية الحقيقية مشروطة بالتحرّر من الجسد، أي من الأهواء الأنانية وتهدف إلى نموّ المحبة في خدمة جميع الناس. هذا هو المفهوم المسيحي للحرية. نحن إذن مدعوون إلى النظر في الحرية ودورها الأساسي في التربية من خلال نهج دون بوسكو التربوي، أي من خلال الأسلوب الوقائي، لأننا سالزيان. كلنا يعلم أن التربية على حسن استعمال الحرية هي أهمّ رسالة يقوم بها المربّون، إلى أي مدرسة تربوية انتموا وأي نهج تربوي نهجوا، لأن الحرية في صلب الواقع التربوي والتربية الحقيقية تتلخّص في حسن استعمال الحرية. مَن فَشلَ في هذه المهمّة، إن كان في البيت أو المدرسة أو الكنيسة، فشلَ في رسالته التربوية، لأنه فشل في تكوين الإنسان الذي هو هدف التربية.
فضلاً عن ذلك، يوحي توجيه الرئيس العام باهتمامات قداسة البابا الواردة في رسالته “تألُّق الحقيقة” (وقد كانت هذه الرسالة موضوع محاضرة في الشهر الماضي). أمّا اليوم فسأستعملها كمرجع من المنظار السالزياني، أي المنظار التربوي. دون فيغانو يشدّد على أهمّية إحياء الأسلوب الوقائي ليس لأننا نسيناه أو أهملناه، ولكن ليذكّرنا أن هذا الأسلوب هو أساسي بالنسبة إلينا كأبناء وتلاميذ دون بوسكو ويجب أن يميّزنا في ممارستنا التربوية. لذلك لا نفتّش عن أوجه جديدة، ولكن كيف يمكننا أن نطبّقه في التربية المعاشة، أي للإجابة عن تساؤلات وحاجات وتطلّعات الشباب، لأننا نعلم كم هم متعطّشون إلى ممارسة الحرية وعيش القيم الحقيقية، بشرط أن يتعرّفوا إليها بمفهومها الصحيح. وربما نحن أيضًا بحاجة إلى التعمّق في جميع المفاهيم الواردة في توجيه دون فيغانو …
لذلك سأتكلّم عن:
1- مفهوم القيم
قيمة الشيء هي الثمن الذي يعادله وقيمة الإنسان هي قدره. القيم، باختصار، ما يشكّل قيمة الإنسان الحقيقية. بالمفهوم الجاري هي المُثُل العليا، أي مجموعة القواعد السلوكية الأساسية والمعيارية التي تحظى بالإجماع في مجتمع سليم ومنظَّم من أجل رعاية العلاقات الإنسانية.
لذلك كل إنسان وكل مجتمع يسعى إلى التمثُّل بها أو على الأقل يرغب في ذلك، ومن هنا نتحدّث عن إنسان مثالي أو مجتمع مثالي. القيم بهذا المفهوم، تُسمَّى أيضًا الخلقية (ethique) وتتميّز عن الدين والإيمان الذي هو أساسًا علاقة بالله، أنها قيم إنسانية، تنبثق عن طبيعة الإنسان كونه عاقلاً وبالتالي قد توجد على السواء عند المؤمن وغير المؤمن، في المجتمعات الدينية والعلمانية. ونلاحظ أحيانًا ولو بدا الأمر غريبًا، أن القيم الإنسانية تحظى في بعض المجتمعات العلمانية بتقدير أكبر من تقديرها في المجتمعات الدينية وهذا يدلّ على أن هناك تربية خلقية تسعى إلى إنماء الضمير الخلقي والحكم على الأشياء بصرف النظر عن الدين والإيمان وهذا هو النهج التربوي المطبَّق في الأوساط العلمانية الغربية، التي كثيرًا ما نسمّيها بالأوساط والمجتمعات الحديثة، كأن إبعاد الله والدين من حياة الفرد والمجتمع والاكتفاء بما هو إنساني محض انتصار للحداثة وكأن هذا التحرُّر هو ميزة الإنسان الراقي المتطوِّر.
أكيد أن مفهومنا للقيم لا يكتفي بهذا المعنى وبهذا المستوى، وإن كان هذا المفهوم مهمًّا جدًّا بالنسبة إلينا أيضًا. دون بوسكو حدّد غاية تربيته بشعاره: “مواطنون مخلصون ومسيحيون صالحون” وهكذا جمع بين القيم الإنسانية والإيمان، لأنه كان ينظر إلى الإنسان بالمفهوم المسيحي وكان مقتنعًا أن الإيمان يُضفي على القيم طابعًا خاصًّا، لأن عيش هذه القيم في إطار اختبار إيماني، وتحديدًا الإيمان المسيحي، يتجلّى تجليًا فريدًا، لأنه يعيد إلى ينبوع القيم وهو الله. فالقيم تستمدّ من الله وجودها وقوتها العميقة وتعكس إرادته الحكيمة حيال الإنسان ومصيره.
مسألة القيم والخلقية هي مسألة ملحّة في عالم اليوم، وخاصة هنا في لبنان بعد 16 سنة حرب جرفت القيم وشوّهت مفهومها وكثيرًا ما أخلتها من مضمونها الاجتماعي وحتى الأخلاقي فأبرزت الأنانية والفردية في مقاربة الشؤون الحياتية على حساب الموضوعية. ولكن ليست الحرب وحدها مسؤولة عن انهيار أو تراجع القيم، بل أسباب أُخرى مختلفة كما نرى في أغلب المجتمعات. حسب علماء علم الاجتماع أهمّ أسباب انهيار أو تراجع القيم والأخلاق في عالم اليوم هي:
أ) امتداد العنف. ب) امتداد التعصب وعدم التسامح. جـ) التطور التكنولوجي الذي يقلّب المقاييس والقناعات الراسخة. د) انتشار نماذج المجتمع الاستهلاكي وإدخال مقاييسه إلى الحياة الخلقية كأن الحياة سوبر ماركت تشتري فيه ما تشاء وتترك ما تشاء. هـ) نموّ العلوم الإنسانية بعيدًا عن اعتبارات أخلاقية مرجعها الله.
نعيش إذن في ارتباك كبير ولا يطال هذا الارتباك الشبيبة فقط، بل العائلة والمدرسة والكنيسة والوطن. يشكّ الآباء والأمهات والمربّون في صحّة ما يجب عمله، والشباب الذين هم بحاجة إلى نماذج يقتدون بها أو يرفضونها، لا يجدونها ولا يتلَقُّون ما يساهم في تكوين الشخصية. ولعلّ هذا الوضع يعود إلى تراجع الشجاعة في عالم اليوم، تراجع الأهل والمربّون عن ممارسة مسؤولياتهم، متذرّعين بالحجّة أن على حقّ كل طفل هو الاعتراف بكرامته وحريته. هذا صحيح، كما هو صحيح أن الطفل وحده لا يستطيع أن ينمّي الطاقات الموجودة فيه. إنه بحاجة إلى غيره. وحقّه إلى المساعدة، أي التربية، هو من أهمّ حقوقه.
إذا اعتبرنا طاقات الحياة الموجودة في كل طفل، وهي المقدرة على المعرفة، على العلم، على الحبّ، على البناء، على التواصل، على العيش مع الآخرين وأن يبني معهم مدينة الإنسان، الحضارة والثقافة، المقدرة على الانفتاح على الله وإقامة علاقات معه، هل نفكّر أن الطفل وحده يعي جميع هذه الطاقات وينمّيها تلقائيًّا ويستطيع أن يتخطّى آفاق الحياة الفانية ليدخل في عالم الله والقيم، ما لم يجد أهلاً ومربّين ومعلّمين ومرشدين يؤمنون بهذه الطاقات والقيم، يعيشونها بشجاعة، يشهدون لها ثم يعلّمونها؟
ألا نرى أحيانًا والدين ومربّين يستحون من التكلُّم عن القيم كأنهم مشلولون أو عاجزون ولسانهم معقود، بينما ينطلق لسانهم إذا دار الحديث حول مواضيع اقتصادية أو اجتماعية أو ترفيهية أو … تافهة؟
وإذ نحن بصدد القيم وإبرازها بشجاعة وإقدام، لا بد أن نشير إلى خبر معروف وهو أن المجلّة الأمريكية TIME التي تختار لغلاف آخر عدد من كل سنة شخصية بارزة وتُعلنها “رجل السنة” (أو امرأة السنة)، قد اختارت وأعلنت البابا يوحنا بولس الثاني “رجل السنة” لعام 1994، وبرّرت اختيارها بهذا القول: “في عام تذمّر فيه كثيرون من انهيار القيم الأخلاقية أو حاولوا تبرئة تصرّفاتهم السيئة، وقف البابا يوحنا بولس الثاني ودافع بشجاعة عن رؤياه للوجود، داعيًا العالم إلى اتّباعه على هذا الطريق”.
مشكلة غياب القيم هي أساسًا مشكلة غياب النماذج القيمية، وفيما يختصّ بلبنان، هذا ما يظهر من تحقيق أُجْرِيَ قبل بضع سنوات. فالشباب اللبنانيون الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و27 سنة يشكون من فقدان المرجعية بالنسبة إلى سلطة تنظّم الممارسات. كما يشكون من افتقار المجتمع اللبناني إلى نماذج قيمية تُثير الإعجاب ورغبة التماثل.
إذا كان هذا هو الوضع، أليس هذا الحقل حقلاً مفضلاً للعمل السالزياني، وألا نجد في توجيه الرئيس العام حافزًا على التفكير واتّخاذ المواقف والتطبيق بأسلوب دون بوسكو؟ لو كان دون بوسكو هنا، في لبنان، في هذا الظرف بالذات، مع هؤلاء الشباب، كيف يتصرّف؟ نحن، كعائلة سالزيانية، نعمل على نطاق محدود في لبنان، ولكن لا بدّ لنا من جمع واستثمار كل طاقات وغنى تراثنا الروحي والتربوي لخير الأطفال والشباب الذين نحن مؤتمنون عليهم.
2- مفهوم الحرية الإنسانية وعلاقتها بالقيم
من مفهوم القيم ننتقل إلى مفهوم الحرية لأنه توجد علاقة وثيقة بين الاثنين. أبدأ وأقول أن القيم لا تتناقل بالولادة ولا بالوراثة. ويدلّ على ذلك التفاوت القائم أحيانًا بين الأهل وأولادهم، وبالمبدأ نفسه يُفَسَّر تاريخ الشعوب والأمم والدول، فخلقياتها ترتفع حينًا وتنهار حينًا آخر. إنه لمن المفارقة أن التطوُّر الاقتصادي والتكنولوجي لا يواكبه دائمًا التطوُّر الأخلاقي، بل غالبًا ما يحدث هو العكس، كما سبق وقلت.
هل يوجد تفسير منطقي لهذا الوضع؟ بتفسير مبسّط جدًا وبكلمة واحدة أقول: الحرية. حرية الإنسان التي هي أعلى هبة من أعطاها الله للإنسان بعد الوجود. ولكنها سلاح ذو حدين، وككل سلاح يجب أن نتدرّب على استعماله. واستعمال الحرية ليس لعبة نلعبها، لأن نموّ الشخصية وفشلها مرهونان بحسن استعمال الحرية أو سوء استعمالها. لذلك كل حديث عن القيم يمر حتمًا عبر الحديث عن الحرية.
للحرية مفاهيم وتعابير مختلفة وصور مختلفة. الحرية بالمفهوم الجاري عند أغلب الشباب ولي الشباب فقط، تعني التحرُّر من القيود والقواعد والمراجع والتمتع باستقلالية تامة في التفكير والممارسة. إذا كان حرًّا فعليًّا، يجوز له أن يعمل ما يشاء، وإلا أصبحت الحرية كلمة فارغة، لا معنى لها. هذا التفسير للحرية تمتدّ جذوره إلى تيارات فلسفية مختلفة تتلخّص بفلسفة الأنوار التي تُعتَبر نقطة الانطلاق للحداثة الغربية، فهذه الحداثة أصبحت في مجتمعات كثيرة، في كل أنحاء العالم، معيار التطوُّر، بصرف النظر عن جذورها التاريخية والفكرية، وعمّا تتضمّنه من التباس، بل من أخطاء في مبادئها. لماذا، مثلاً، نصرّ على أن نقبل بصورة عمياء أو عشوائية كل ما يأتي من الغرب وكأنه نموذجي في جميع المجالات؟ هل نعتقد أن هذا الموقف هو ممارسة حقيقية وسليمة لحريتنا؟ ألا نفكّر أبدًا أن في هذا الموقف أحيانًا خضوعًا لضغوط ظاهرة أو خفيّة لا نستطيع أو لا نريد أن نعترف بها ونتخلّص منها؟ هل نعي هذا الوضع وما فيه من خطورة وأن التبعية بدون تمييز هي نفي للحرية؟
في لقاء الشبيبة في حريصا، في أيلول الماضي، ورد موضوع الحرية بكل أبعاده وفي نقاش تساؤلات الشباب حول هذا الموضوع طُرِحت عدة أسئلة تعبّر عن مشاعرهم الواعية، فأنا اخترت بين هذه الأسئلة تلك التي تختصّ بالضغوط من الناحية الفكرية، لأننا لا نعي دائمًا هذا النوع من الضغوط، هي الأخطر.
أين حريتنا أمام اللوحات الإعلانية التي تقطع رؤيتنا وتفكيرنا عند كل مفرق وزاوية؟
أين حريتنا أمام الضغط الإعلاني الذي يُولّد فينا رغبات لتجربة جميع الموادّ الاستهلاكية التي نحن بغنى عنها؟
أين حريتنا عندما يُخلِق لنا الآخرون حاجات ليست وليدة مجتمعنا؟
أين حريتنا ونحن مُجبَرون على مماشاة “الموضة” في المأكل والملبس وحتى في بلع الثقافة المستوردة؟
وماذا يبقى لي من حرية التفكير والتحليل عندما أقضي ساعاتي أمام وسائل سمعية – بصرية لها تأثير غير مباشر على تفكيري، وطبعها صورًا في ذهني بعيدة كل البعد وأحيانًا مخالفة للمبادئ التربوية التي أنشئتُ عليها؟
وهل نحن أحرار إذا كانت وسائل الإعلام تسيطر على تفكيرنا بشكل خفي ومدروس وربما انعكس الأمر على تصرّفاتنا أيضًا؟
وأخيرًا، أين حريتنا أمام إغراءات التيارات الفكرية الجديدة والبدع الدينية التي تقدّم وجباتها الدسمة بشكل شهي يجعلنا ننجرف مع مبدأ “افعل ما يحلو لك”؟
لا نقل أن هذه التساؤلات لا تخصّنا…. هي تخصّنا لأنها واقعية، ونحن، كسالزيان، نريد أن نمشي مع الواقع. لذلك نريد أن نبحث عن جواب يتوافق مع قناعاتنا الإيمانية والتربوية. إذا أدّت التيارات الفلسفية الحديثة إلى الاستقلالية والفردية على مستوى السلوك الأخلاقي، كأن الإنسان أصبح المرجعية الوحيدة لنفسه، علينا أن نُلفت نظرنا ونستلهم الكتاب المقدّس وتعليم الكنيسة. إذا خلقنا الله على صورته ومثاله، أليست الحرية الحقيقية من علامات التشابه مع الله؟ بلى، هذا التشابه المميّز يكمن في حرية الإنسان وسيطرته على نفسه وإرادته. وبالعكس، فإن إنكار التشابه مع الله وفصل الخليقة عن الخالق يجعلان الإنسان يتخبّط في الظلام ولا يدري أين يتوجّه وكيف يتصرّف. وهذا، بالحقيقة، فقدان الحرية.
الحرية إذن هي هبة من الله ووسيلة لنتشبّه به من خلال تطبيق الناموس الذي وضعه الله في كل إنسان ليميّز بين الخير والشر. لا تتعارض الحرية والناموس، لأن المصدر واحد، أي الله، وأكثر من ذلك، فإن تطبيق الناموس من خلال الحرية ينمّي الإنسان ويجعله يحقّق ما تصوره الله له، كأن الناموس هو انعكاس النور الإلهي فينا، وكأن الحرية الحقيقية هي المشعل الذي يحتوي على هذا النور ونحن نحمله ونرفعه ليضيء خطانا. فإطفاء النور يعني إطفاء المشعل، أي إطفاء الحرية. لذلك، لا حرية بلا قيد أو شرط، وشريعة الله لا تضعف الحرية، بل تحميها وتوجّهها إلى تحقيق الذات الحقيقي وتبلغ بها إلى الكمال.
من هنا نقول أن القيم والقوانين الأخلاقية، أي البعد الأخلاقي للإنسان، لا تنبع من العمل الإنساني فقط كأنه المشرّع الوحيد لنفسه، بل إن كل ما في الإنسان هو شعاع من صورة الله المطبوعة فيه، وبالتالي لا توجد قيم إنسانية لا تدخل في مشروع الخلاص الإلهي. ونحن، كمربين مسيحيين، لا يجوز لنا أن نخرج من هذا الإطار: نربي على القيم، نربي على الحرية الحقيقية، وبعملنا هذا نشارك في تطبيق مشروع الله الخلاصي، وكأننا نُدخل كل طفل وكل شاب في هذا المشروع. (وهذا ما تعنيه الكلمة “معاون”: نحن معاونو الله). وكسالزيان، لا ننسى الجانب الوقائي لتربيتنا، أي أن الوقاية خير من العلاج. هدفنا إذن أن نسعى، قدر الإمكان، كي يتفادى الشباب الاختبارات السيئة التي تؤثّر تأثيرًا سلبيًا على نموّ الشخصية وتؤدّي أحيانًا إلى الانحراف مع كل ما يرافقه من قنوط ويأس إلى أقصى العواقب أي الانتحار، وهذه ظاهرة جديدة في العالم. في اليابان، مثلاً، انتحر 130 تلميذًا من الصفوف التكميلية والثانوية في الفترة بين نيسان 1993 وآذار 1994.
ربما نفكّر أن مثل هذه الحالات لا تعنينا لأنها غير واردة عندنا، كأن الانحرافات وانتحارات الشباب غير موجودة في لبنان. ولكن الذين يتصفّحون الجرائد أو يكونون على علم بما يجري في السجون اللبنانية حيث زُجّ بمئات الشباب، لا بدّ أن يقتنعوا أن لبنان لا يخرج عن القاعدة العامّة. الفارق بين مجتمعنا وبعض المجتمعات الأخرى ليس في درجة الفضيلة أو الرذيلة، ولكن نفضل أن نجهل أو نخبئ الواقع، حرصًا منا على المظهر والكرامة، بينما تعرض الفضائح الأخلاقية في بعض البلدان في شتى وسائل الإعلام وتوصف بكل تفاصيلها إشباعًا للغرائز وإثارة للفضول المرضي.
يبقى أن أحسن علاج لجميع أنواع الانحرافات أو، إيجابيًّا، لوضع الحرية الإنسانية على السكة الصحيحة هو تربية الضمير والتركيز على جمال الفضيلة وجميع الجوانب الإيجابية الموجودة في كل واحد من الشباب. لا ننسى أبدًا ما قاله دون بوسكو: “في قلب كل ولد، مهما كان شقيًّا، وتر يرنّ للخير، فواجب المربي أن يفتّش عنه ويعزف عليه”.
3- دور الضمير وتربيته
يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور الراعوي “فرح ورجاء” (عدد 16): “يكتشف الإنسان في أعماق ضميره وجود شريعة لم يسنّها لنفسه ولكن عليه أن يخضع لها. إن هذا الصوت الذي لا ينفكً يحرجه ليعمل الخير ويحبه ويتجنّب الشر، يدوّي في الوقت المناسب في صميم قلبه، “اصنع هذا وتجنّب ذلك”، لأن هذه هي شريعة وضعها الله في قلب الإنسان. فالضمير هو أعمق ما في الإنسان من مركز، هو المَقدِس الذي يلقى فيه الله وحده ليسمع صوته”.
يحدّد المجمع بهذه الكلمات دور الضمير، أي يربط فيه المكان الرابط، أي صلة الوصل بين الحرية الإنسانية وشريعة الله، بين الحرية والقيم عمومًا. وجود الضمير إذن يتجلّى من خلال حكم داخلي صادق خير أو شر ما يعمله الشخص أو ينوي القيام به، وفي الوقت نفسه حول واجب القبول أو الرفض، أي واجب القيام به أو تجنبّه. بتعبير آخر، لا يأمر الضمير بصنع الخير وتجنّب الشرّ بوجه عام وشامل، بل يحكم كل فعل بمفرده، مؤيدًا أو مستنكرًا أو مدينًا. إنه يثبت سلطة الحقيقة والقيم ويعيد الإنسان إلى الخير المطلق، أي الله الذي هو مصدر الحقيقة والقيم. فبالنهاية الإصغاء إلى الضمير هو إصغاء إلى الله، لأن الإنسان، من خلال حكم الضمير، يدرك ويعترف بقيمة الوصايا الإلهية.
ليس الضمير إذن غريزة عمياء، ولا عاطفة، بل حكم يصدر من العقل الذي يعي مسؤولية، أو بالأحرى، حسب تعبير الكتاب المقدس، من “القلب” حيث كُتِبَت إرادة الله (روم 2/15). ومن الممكن أن يكون لنا قلب من حجر (مز 11/19) أو قلب منفصم (يعقوب 1/8)، وبالتالي أن يحدث خلل في الضمير أو أزمة في الفكر والسلوك الأخلاقي، أي في ممارسة الحرية.
في الأجواء السطحية والمشوَّشة التي نعيش فيها يتعذر الرجوع إلى الذات، إلى الداخل، إلى الضمير، وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه. قد قال القديس أوغسطينوس منذ قرون عديدة: “عُدْ إلى ضميرك وسائله… أيها الإخوة، عودوا إلى داخلكم في كل ما تفعلون وتطلّعوا إلى الشاهد، أي الله”.
يحقّ لكل إنسان أن يتصرّف بحسب ضميره وحريته ليتّخذ القرارات الأخلاقية بصورة شخصية، ولكن لا يتحوّل التساؤل الأخلاقي وكذلك البحث عن القيم إلى مجرّد قضية شخصية وفردية. فمع الحفاظ على البعد الشخصي يجب أن نُعلِن أنه من الممكن أن يربّى الضمير، بل لا بدّ أن يربى ليكون ضميرًا واعيًا حقًّا، أي ضميرًا قادرًا على اتّخاذ القرارات اللازمة. ولكن، قبل أن نتحدّث عن تربية الضمير في الأطفال والشباب، يجب أن نتساءل: هل فكّرنا قبل كلّ شيء بتربية ضميرنا وهل نهتم بهذه التربية بصورة مستمرة؟
تربية الضمير معضلة من معضلات التربية، بل تحدٍّ كبير نواجهه في القيام برسالتنا ومحكّ عمق تربيتنا وتنشئتنا. نلاحظ أن جميع القواعد السلوكية التي لا تتحوّل إلى قناعة راسخة، ليس فقط تفقد معناها في إطار مجموعة القيم الشخصية، بل تصير مجهولة تمامًا، كأن لا وجود لها. يعاني الشباب من هذا الوضع نتيجة عمرهم والمرحلة الدقيقة التي يمرّون بها والتي تتميّز بضعف الإرادة. الأطفال والشباب أمام موجبات الضمير في حال ضعف يسمعون صوته لكنه خافت وضعيف، يرون اتّجاه السير ولكن الإشارات غير واضحة، وبالتالي مواقفهم أيضًا غير واضحة أو ملتبسة أحيانًا، وسبب ذلك الضغوط والإغراءات المختلفة التي يتعرّضون لها ويمكن أن نلخّصها بكلمة واحدة: “الموضة”. في عالم اليوم حيث تكثر الاقتراحات والعروض والخيارات، يتعذّر على الإنسان غير الواعي تمامًا أو المتمرّس، فرز وغربلة القيم المقترحة ليصل إلى خلاصة شخصية متماسكة. الشباب عادة يجمعون المقاييس والمرجعيات بدون تمييز وغالبًا ما يضيعون في غابة الأفكار والمواقف الجديدة، ظنًّا منهم أن كل جديد هو جيّد ومقبول.
رغم هذه الحدود المتوقَّفة على العمر وقلّة الخبرة، فإن ضمير الشباب منفتح عفويًّا على قيم الحضارة الجديدة التي محورها الإنسان (فرح ورجاء 55): ذوق الحرية، كرامة الإنسان المطلقة، الاهتمام بمشروع الحياة الذاتية، الحاجة إلى الصدق والاستقلالية … الخ. ومن الواضح أن جميع هذه القيم تعكس ملامح واهتمامات إنجيلية.
وإلى جانب هذه القيم يتطلع شباب اليوم إلى رفع نوعية الحياة عمومًا ويركّزون ليس فقط على الحاجات الحياتية الشخصية، بل على ما يخصّ المجتمع والوطن والأرض برمّتها من هنا التطلّع إلى السلام والعدالة والتضامن وحماية البيئة. هذه القيم تصب كلها في بناء عالم يليق بالإنسان أي، مسيحيًّا، في بناء حضارة المحبة. المسألة هي كيف يستطيع المربي أن يجمع بين هذه التطلّعات الإيجابية، ولكن غير الكافية وحدها، وبين اللقاء الشخصي من قبل كل شاب وفتاة مع الله في عمق ذاته أو، بالأحرى، كيف يستطيع أن ينمّي هذه التطلّعات ويوجّهها إلى ينبوعها.
بشكل عام يجب أن نربي على نظرة إيمانية لا تخشى مواجهة القيم، بل يوجّهها ويدخلها إلى إطار القانون والوصايا والإنجيل بواسطة خطوات متكاملة.
الخطوة الأولى هي مساعدة الشباب على اكتساب قدرة كافية على التمييز الأخلاقي، أي أن يميزوا بين الخير والشر، بين الخطيئة وبني الخطيئة، بين عمل الله في شخصهم وفي التاريخ. هذا التمييز محور تنشئة الضمير، لأنه يمكّن الإنسان من ممارسة استقلاليته ومسؤوليته بصورة أخلاقية. وكمسيحيين، لا بد أن تمرّ هذه الممارسة عبر مواجهة الإنجيل وتعليم الكنيسة. مهما كانت هذه المهمّة صعبة، لا يجوز لأي مربي مسيحي أن يتنازل عن متطلّبات الإنجيل وأن يساوم على حساب المبادئ الأخلاقية. هما الدور الأساسي تلعبه قناعات المربي الشخصية وقدرته على الإقناع بكلامه وخاصة بشهادة حياته.
الخطوة الثانية هي التنشئة النقدية (المميّزة) حول بعض النماذج الثقافية والعادات والتقاليد الاجتماعية والتيارات الفكرية والسلوكية، التي تتعارض مع القيم الإنسانية. فالابتعاد عن الكنيسة وتعليمها وإهمال الالتزام الديني كثيرًا ما ينشآن من إيمان لا يتفاعل مع الثقافة، أو من ثقافة دينية ناقصة، كأن نصيب الإيمان والثقافة أن يتعارضا أو يسيرا على خطّين متوازيين لا يلتقيان أبداً.
الخطوة الثالثة هي التنشئة على قراءة الأحداث في ضوء الإنجيل. مقاييس كلمة الله تطبّق على كل الأحداث وعلى جميع أفعال الإنسان، من المنطلق أن تجسّد ابن الله هو محور التاريخ وأن الواقع الإنساني يرتكز على العلاقة بالله الآب وبالابن المخلّص.
الخطوة الرابعة هي أن نتذكّر ونذكّر أن حياة الإنسان محفوفة بالسرّ، بل بالأسرار. إلى جانب سرّ الخلاص وسرّ حلول الروح القدس في نفوسنا، يوجد أيضًا سرّ وجود الشر وسرّ الخطيئة. كل واحد منا يشعر بضعفه، وبالتالي يجب أن يعرف حدوده وإمكانياته الحقيقية.
وأخيرًا، لا بدّ لكل إنسان أن يواجه القانون، بمعناه الشامل وبوجوهه المختلفة: الإلهي، الإنساني، المدني، الكنسي، لأنه يشكّل قاعدة التصرّفات والممارسات الشخصية والاجتماعية، ودوره أن يضيء ويؤيّد نمو الاختبار الذاتي.
الخاتمة
في الختام، كل ما قلته، والأشياء الكثيرة الأخرى التي كان من الممكن أن تقال حول هذا الموضوع، تكون تطبيقًا مباشرًا لتوجيه الرئيس العام. دورنا، كسالزيان، أن نشارك في تنشئة الشباب ونساعدهم على التفكير والعمل كشباب ومؤمنين مسيحيين، بأسلوب دون بوسكو. متطلّبات الممارسة السالزيانية ألخصها أخيرًا في ثلاث نقاط:
ألا نفصل الإنسان من المسيحي والقيم الإنسانية من القيم المسيحية، لأن ما هو مسيحي خميرة واكتمال ما هو إنساني. وهذا بالذات ما كان يعنيه دون بوسكو. بشعاره التربوي: “مواطن مخلص ومسيحي صالح”، أي مواطن مخلص لأنه مسيحي صالح.
أن يضيء الإيمان التزام حياتنا اليومية من خلال قناعتنا العميقة أن اختبار دون بوسكو الروحي (أي الذي مصدره الروح القدس) أصبح قاعدة متينة وثابتة لروحانيتنا وبالتالي للروحانية التي ننقلها إلى الشباب.
أن تكون اهتماماتنا الروحية “رسولية”، أي ألا نتقوقع على ذاتنا بعيش روحانية فردية وداخلية فقط، بل أن نشارك مشاركة فعلية وفعالة بعمل الروح الذي يعمل فينا ويقدّسنا ويعمل من خلالنا لتقديس العالم وترسيخ الإنجيل في المجتمع.