التوجيه الرسولي لعام ٢٠٠٣
لنجعل من كل عائلة وجماعة “بيت الاتحاد ومدرسته”
لنجعل من كل عائلة وجماعة “بيت الاتحاد ومدرسته”
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب باسكوال شافيز نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
المقدمة:
هذا هو التوجيه الرسولي الأول للرئيس العام الجديد، دون باسكوال شافيز، المكسيكي الجنسية، وهو أول خليفة دون بوسكو لا يتحضّر من أصل إيطالي. نرى في ذلك علامة من علامات الأزمنة وإشارة واضحة إلى تأقلم الموهبة السالسية في جميع البلدان ومع جميع الثقافات والحضارات، خاصة وأن توجيهه الرسولي الأول يتضمّن دعوة صريحة إلى نشر وتوسيع حدود الاتحاد والشركة لتطال كل بيت وكل جماعة في جميع أنحاء العالم.
جوهر التوجيه مأخوذ من الرسالة الرسولية “نحو ألفية جديدة” التي وجّهها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى رعاة الكنيسة وأبنائها في نهاية اليوبيل الكبير لسنة2000. في الفصل الرابع، وعنوانه “شهود المحبة”، يدعو البابا المسؤولين وجميع المؤمنين إلى وضع برامج رعوية تستلهم “الوصية الجديدة”: “كما أحببتكم، أحبوا أنتم أيضا بعضكم بعضا” (يو13/34)، أي وصية المحبة الأخوية وتجسّدها. فهذا هو التزام الأول لكل جماعة مسيحية. أمّا الالتزام الآخر الذي يجب اتخاذه بحزم ووضع برامج تطبيقية له فهو عيش وتوطيد الوحدة أي الشركة koinonia التي تجسّد “جوهر سرّ الكنيسة وتُظهره” (نحو ألفية جديدة،42). والطريق إلى ذلك، على حد قول البابا، “أن نجعل من الكنيسة بيت الاتحاد ومدرسته: فهذا هو التحدّي الكبير الذي نواجهه في بدء هذه الألفية، إذا شئنا أن نكون أمناء وأن نعطي جوابا لترقّبات العالم العميقة” (المرجع عينه،43).
التوجيه الرسولي لهذا العام يندرج إذن في إطار هذا البرامج الرعوية التي يدعو البابا إلى وضعها حفاظا على ثمار اليوبيل الكبير وتمديدا لها. دون شافيز، بدوره، يتوجّه إلى العائلات، أي إلى جميع الأعضاء العلمانيين في العائلة السالسية وفي مقدّمتهم المعاونين والمعاونات، وإلى الجماعات، أي إلى الأعضاء المكرّسين ويدعوهم إلى أن يجعلوا من عائلاتهم وجماعاتهم “بيت الاتحاد ومدرسته”. قيمة البرنامج الرعوية تكمن في تطبيقها، لكيلا تبقى حبرا على ورقة، والتوجيه الرسولي يعطى كل عام للعائلة السالسية لينفذ باستعمال كل الوسائل الموجودة في تصرّفنا. على هذا الأساس، بعد التعمّق في مفهوم الاتحاد والشركة، سأطرح بعض التوجيهات العملية، قابلة للتطبيق في عائلاتنا وجماعاتنا، كي تتجلّى فيها المحبة بكل أبعادها.
1- الكنيسة سر في الاتحاد الصميم بالله ووحدة الجنس البشري
هذه الكلمات يحدّد المجمع الفاتيكاني الثاني هوية الكنيسة في مطلع وثيقته “نور الأمم”(عد 1)، ويشرح المعنى اللاهوتي للسر: هو علامة عمل للسر: هو علامة عمل الرب وأداته، بقوة الروح القدس. فالكنيسة، بكيانها وبأعضائها، علامة وأداة في الاتحاد الصميم بالله، أي تكشف سر الله الثالوث، تبشّر به، تشهد له وتنشره، أي تكشف سرّ الله الثالوث، تبشّر به، تشهد له وتنشره، أي تجعله حاضرا وفاعلا في كل زمان وفي كل مكان. لذلك يقول القديس قبريانوس: تظهر الكنيسة الجامعة “شعبا يستمدّ وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس” (المرجع عينه،4). والكنيسة رسولية ليس فقط لأنها قائمة على الرسل، ولكن، وقبل ذلك، لأنها تصدر عن رسالة الابن، وعن رسالة الروح القدس، وفاقا لقصد الآب. هدف الرسالة النهائي هو الاشتراك في الاتحاد الكائن بين الآب والابن: على التلاميذ أن يعيشوا الاتحاد فيما بينهم ببقائهم في الآب والابن لكي يعرف العالم ويؤمن. ولهذا الهدف صلّى يسوع: “ليكونوا كلهم واحدا، كما أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضا واحدا فينا، لكي يؤمن العالم أنك أرسلتني” (يوحنا17/21). من هذا المنطلق، يقول البابا في مكان آخر: “المرسل (وكل مسيحي مرسل) هو مرسل أصلا بما هو عليه، بصفته عضو في الكنيسة التي تعيش بعمق الوحدة في المحبّة، قبل أن يكون مرسلا بما يقول وبما يعمل” (يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي،23).
ما ينطبق على الكنيسة ككل، ينطبق على كل واحد من أعضائها، فكل مسيحي مدعو إلى أن يعيش في الاتحاد الصميم بالله ليكون للآخرين علامة حب ووحدة. قال يسوع: “أُثبتوا فيّ وأنا فيكم” (يو15/4). إن الشركة السرية التي تربط بين الرب وتلاميذه وبين المسيح والمعمّدين، شركة حية ومُحيية، تجعل من المسيحيين مُلكا للمسيح وليس ملكا لأنفسهم، على مثال أغصان الكرمة التي تحيا بحياة الكرمة.
“عن شركة المسيحيين بالمسيح تنجم شركة المسيحيين فيما بينهم، لأنهم جميعا أغصان الكرمة الواحدة التي هي المسيح. إن الربّ يسوع يقدّم لنا هذه الشركة الأخوية على أنها انعكاس عجيب للحياة الإلهية الخاصة، حياة الحبّ القائم بين الآب والابن والروح القدس، ومشاركة سرية للمؤمنين في هذه الحياة” (يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي” العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، 18). هذا الاتحاد الصميم، أي هذه الشركة، هو سر الكنيسة بالذات. ولكن، يجب إدراج هذا المفهوم في واقع الحياة ليكون الاتحاد منظورا وملموسا.
نعلم أن الكتاب المقدّس يستعمل صورا عديدة ليعبر عن الشركة التي تربط المسيحيين بالمسيح والمسيحيين فيما بينهم: صور الحظيرة والقطيع والكرمة والبناء الروحي والمدينة المقدّسة، ولاسيما صورة الجسد، لأن الجسد يكون حيا وفاعلا بقدر ما تحييه الروح وتتكامل أعضاؤه بتعدّد وظائفها. فعلى هذه الصورة، الواردة في رسائل بولس الرسول، يركّز المجمع الفاتيكاني الثاني في الوثيقة التي ذكرناها ويقول: “إن يسوع المسيح، إذا أرسل روحه إلى إخوته، الذين جمعهم من كل الأمم، جعل منهم جسده السرّي. وفي هذا الجسد، تتدفّق حياة المسيح في المؤمنين…وكما أن جميع أعضاء الجسد البشري، على تعدّدها، لا تؤلّف إلا جسدا واحدا في المسيح (1قو12/12). هكذا يتجلّى في بناء جسد المسيح تنوّع في الأعضاء وفي الوظائف. واحد هو الروح الذي يوزّع مواهبه المختلفة لخير الكنيسة، على قدر غناه، ويقدر ما تحتاجه الكنيسة من خدمات (اقو12/1-11)” (نور الأمم، 7).
نستنتج من هذه المبادئ الواضحة جدّا استنتاجا واحدا، لا مفرّ منه: لا يحقّ لأي شخص، ولا لأي جماعة أو جمعية في الكنيسة، الانطواء على الذات والتزام العزلة الانفرادية، لأن هذا يتناقض مع هوية “الكنيسة-الشركة” فعلى كل مؤمن “أن يعيش في مشاركة متواصلة مع الآخرين، وفي وعي عميق جدا للإخوة، وفي فرح المساواة في الكرامة، فضلا عن نيّته في أن يستثمر مع الآخرين الكثير الثمين الموروث” (العلمانيون المؤمنون بالمسيح،20). هذا هو مضمون التوجيه الرسولي لهذا العام، لما يطلب من جميع العائلة السالسية أن يجعلوا من عائلاتهم بيتا ومدرسة للاتحاد والشركة.
2) عيش الاتحاد والشركة في العائلة، بيت الشركة ومدرستها
كثيرا ما نسمع، بمناسبة الأكاليل، أن العائلة المسيحية تتمثّل بالعائلة المقدسة، أي عائلة الناصرة، ونطلب حمايتها. فهذه العائلة الفريدة والمباركة كانت بكل معنى الكلمة، “بيت الإتحاد والشركة”، بل هي العائلة الوحيدة في العالم التي عاش أعضاؤها الثلاثة الاتحاد والشركة بشكل تام ونموذجي لأنها كانت تحضن ابن الله، مصدر الاتحاد والشركة. ومع ذلك، لكونها عائلة بشرية، تعرّضت لتقلّبات العائلات عموما: عانت من فقر واضطهاد ومنفى، عرفت الفرح والألم، الأحداث السارة والمؤلمة في حياة كل واحد من أعضائها، شاهدت فصل ابنها عنها، لأنه كان يجب على يسوع أن يقوم بما لأبيه (راجع لو2/50).
العائلة المسيحية تكون على صورة عائلة الناصرة، أي بيت الاتحاد والشركة، صورة منظورة لشركة الثالوث الأقدس، إذا وعت هويتها كجماعة كنيسة مميّزة وبالتالي وعت وظيفتها ضمن الكنسية، “أعني تلك التي تضعها في خدمة بناء ملكوت الله، على مر العصور، بشركتها في حياة الكنيسة ورسالتها” (يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم،49). فكما كانت عائلة الناصرة أداة بشرية استعملها الله ليجسد قصده الخلاصي، وكما أن الكنيسة، المكوّنة من بشر، امتداد لرسالة الفادي، كذلك العائلة المسيحية، هذه “الكنيسة المصغّرة”، أي هذه “الكنيسة المنزلية”. تكون بدورها صورة حية وتمثيلا تاريخيا لسر الكنيسة.
الكنيسة الأم تولد العائلة المسيحية وتنشئها وتبنيها، تكشف لها هويتها الحقيقية، أي ما هي وما يجب أن تكون، بحسب قصد الرب، تقويها بنعمة السيد المسيح لتتقدّس، تدفعها وتقودها إلى خدمة المحبة من خلال بذل الذات والتضحية. العائلة المسيحية بدورها تدخل في سر الكنيسة لتشارك على طريقتها في القيام برسالة الخلاص الخاصة بالكنيسة. فالأزواج والوالدون المسيحيون لا يتقبّون محبة المسيح ليصبحوا جماعة “مخلّصة” وحسب، بل ليُعوا إلى “نقل” محبة المسيح هذه إلى إخوتهم. وهكذا تكون العائلة المسيحية رمزا وشهادة ومشاركة في أمومة الكنيسة (راجع الوضع عينه،49). هذا هو عيش الشركة وتعليمها ونقلها. فالقيام بهذه الوظيفة بوعي وفعالية، تقوم العائلة بوظيفة كنسيّة خاصة وفريدة. وكل شيء فيها في خانة الشركة وفي تنميتها.
العائلة جماعة حياة ومحبّة متماسكة. يعني ذلك أن كل ما يجري في العائلة، له طابع جماعي نوعا ما، ولو اختلفت الأدوار: على الزوجين إذن في وقت معا “كزوجين” (couple) وعلى الوالدين والأولاد “كعائلة” أن يكونوا بالإيمان “قلبا واحدا ونفسا واحدة” (أعمال، 4/32) فيما بينهم ليستطيعوا أن يقوموا بشكل فعّال بأعمال الخدمة من أجل الجماعة الكنسيّة والمدنيّة.
وفضلا عن ذلك، إن العائلة المسيحية تبني ملكوت الله في التاريخ بهذه الوقائع اليومية التي تتناول “وضع حياتها” وتحدّده، أي مقوّماتها، مثل الشمول والفرادة والوحدة والأمانة والخصب، والقيم العائلية الأساسية، مثل الاحترام والتضامن والتعاون والخدمة السخية، لأنها كلها مظاهر المحبة وحب الحياة، فبدونها لا تقوم العائلة. ولكن أهمّ ما يمكن أن يتبادل في العائلة المسيحية الثروات الروحية الموجودة فيها، وقد تلقّت دعما قويا من نعمة سر الزواج، وفي مقدّمتها الإيمان. ففي عالم ابتعد عن الإيمان أو يجهله أو يعاديه، تلعب العائلات المؤمنة دورا هامّا كمراكز إيمان حي ومشعّ. بالحقيقة، في نطاق العائلة، يكون الوالدان “لأولادهم في شؤون الإيمان، أوّل المعلّمين بالقول والمثال”، ويعنون “بدعوة كل منهم، ولا سيما الدعوة المقدسة” (نور الأمم،11). فيل ليت تصبح كل العائلات المسيحية جماعات نعمة وصلاة، ومدارس للفضائل الإنسانية وللمحبة المسيحية.
3-واجبات أعضاء العائلة لتعزيز الاتحاد والشركة
تتقاسم الواجبات في نطاق العائلة بين واجبات البنين وواجبات الوالدين وهدفها واحد، لأي توطيد الاتحاد والشركة في داخلها. هنالك وصية إلهية تحدد احترام البنين، صغارا كانوا أو كبارا، لوالديهم: “أكرم أباك وأمك”. لا أذكر نصوصا أخرى عديدة وردت في الكتاب المقدس في هذا الصدد، ولكن نعلم جميعا أن الاحترام البنوي يعزّز انسجام الحياة العائلية كلها. علاوة على ذلك، كمسيحيين، لا نستطيع أن ننسى أننا لم نتقبل الحياة الجسدية فقط من والدينا، بل عطية الإيمان ونعمة المعمودية والحياة في الكنيسة أيضا.
أما واجبات الوالدين، كما سبق وذكرت، فلا تقتصر على إنجاب الأولاد، ولكن تمتدّ إلى تنشئتهم الخلقية وتربيتهم الروحية، وهما حقّ وواجب لا يجوز التنازل عنهما. في العائلة المؤمنة، ينظر الوالدان إلى أولادهم نظرتهم إلى أولاد الله، لذلك يربّونهم على تتميم شريعة الله بأن يكونوا هم أنفسهم مطيعين لمشيئة الآب السماوي. لكونهم المسؤولين الأولين عن تربية أولادهم، يظهرون هذه المسؤولية بوضع قواعد متينة وثابتة للبيت الذي أسّسوه. فهذه القواعد تتمثّل، على سبيل المثال، بالحنان والمسامحة وإنكار الذات والحكم السليم والسيطرة على الذات وإخضاع الأبعاد الطبيعية والغريزية للأبعاد الداخلية والروحية وإعطاء الأمثال الصالحة لأولادهم، وحتى بالاعتراف أمامهم بنقائصهم الخاصة. وفي مجال الإيمان، فبشهادة حياة مسيحية منسجمة مع الإنجيل، وتعليم الصلاة وإشراك الأولاد منذ الطفولة في حياة الكنيسة الخ… فكل ذلك، إذا أضيف إلى الحبّ الطبيعي الذي يغذّي العلاقات المتبادلة، يستطيع أن ينمّي استعدادات عاطفية تبقى مدى الحياة سندا قويا لإيمان حيّ، ويشكل مدرسة حقيقية للاتحاد والشركة. لا شكّ أن عائلة كهذه، مؤسّسة على الاحترام والحبّ المتبادلين وعلى حبّ المسيح، تتقدّس باستمرار وتتحوّل حياتها إلى فعل عبادة، بل تصبح لجميع أعضائها مدرسة يومية وناجحة للقداسة.
4- عيش الشركة وتعزيز الاتحاد في الجماعات
الجماعات المسيحية، رهبانية كانت أو علمانية، لا تكون جماعات مؤسّسة على الحب الطبيعي والتعاطف مثل العائلات البشرية، ولو قد يلعب هذان العنصران دورا مهمّا فيها، ولكن جماعات أساسها الإيمان ومحبة الله التي أُفيضت في قلوب الأشخاص الذين يريدون الانتساب إليها. لذلك يجب أن ننظر إليها من منظار الإيمان لكي نفهم وضعها الخاص ودورها في الكنيسة والمجتمع، بمجرّد كونها جماعات مسيحية، تكون “بيت” الاتحاد والشركة، لأنه “إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا معهم” (متى18/20). هي عطية من الروح القدس، لأن الروح وحده مصدر الأخوة.
نعلم أن التاريخ البشري، بمعزل من النعمة الإلهية، تاريخ انقسامات وعداوات واعتداءات وتنافس وغطرسة، ولا يكفي الحنين المتواصل إلى عالم أخوي ومتصالح أو إلى العصر الذهبي الأسطوري للبشرية ليتحقّق الوئام ويستتبّ السلام، وكأن الإنسان وحده عاجز عن بناء مجتمع أخوي أو على الأقل، عالم فيه واحات واسعة من الأخوة. ولكن في الكنيسة، نرى أشخاصا ما كانوا يتعارفون سابقا، يعيشون كإخوة، جاعلين “كل شيء مشتركا بينهم”، وكأنهم “جماعة واحدة”، مثل جماعة المسحيين الأولين (راجع أعمال2/42-47). هذه آية العنصرة وعطية الروح الذي يجعل ممكنا ما كان قبلا مستحيلا، أي أنسنة العلاقات بين البشر. فالإنسان الذي كان لاجيه الإنسان ذئبا، على حد قول قدامى الفلاسفة، أصبح لأخيه أخا (homo homini lupus – homo homini frater). فالأخوّة والاتحاد والشركة ما يجعل الكنيسة منظورة ويعطيها مصداقيتها ويُبرز أولوية المحبة، وبالعكس، كلّما ابتعدت الكنيسة والجماعات الكنسية عن هذه القيم، تفقد مصداقيتها بل تنكر هويتها.
وكل ذلك عطية الروح، كما قلت، وهذه العطية ثمرة عمل الرب يسوع الذي بشّر بأبوة الله وبالتالي بأخوّة البشر فيما بينهم. هو علّمنا كيفية بناء الأخوّة والشركة بالخدمة، بأن غسل أرجل تلاميذه، وصلّى من أجل وحدتهم، وترك لهم القربان المقدس وصية، وهو سرّ الوحدة، وأخيرا مات ليجمع في عائلة واحدة أبناء الله المشتتين (يو11/52). فكل جماعة مسيحية تقصد تحقيق رغبة الرب الأخيرة، تُصغي إلى تعاليمه وتقتدي بمواقفه، واثقة بقوة الروح القدس، وتصلّي باستمرار لتنال هذه العطية الإلهية السامية. أبرز ما في الكنيسة يشهد على الأخوّة والاتحاد والشركة هو الجماعات الرهبانية والحركات التي نشأت كحركات تجدُّد وإصلاح. فإذا عاد جميع المؤسسين، بما فيهم دون بوسكو، إلى نصّ أعمال الرسل، فلأنهم كانوا مقتنعين أن مشروعهم شيء جديد، أي شيء يشبه ويتمثل بالجماعة المسيحية الأولى.
ولكن، ما هو الواقع في جماعاتنا المختلفة اليوم؟ هل تتأسّس على نور الروح القدس الذي يفهمنا الأمور الإلهية ويساعدنا على بناء الجماعة بتحريرنا من الأنانية وحب الذات، أم نتخيّل أن جهودنا البشرية كافية؟ لا ننسَ أن التحوّل من حب الذات إلى الله والأخوة هو عمل الروح وليس عمل الإدارة والقرار الحر، ولو كانت مشاركة الإنسان ضرورية. وهكذا كانت الأمور في بداية المسيحية: في الجماعة الأولى خلافات ونزاعات، صعوبات وتوتّرات. عمل الروح واضح، ولكن لا يحلّ المشاكل بشكل عجائبي. لا يزيل الصعوبات، ولكن يساعد على تجاوزها الذين يخضعون لإلهاماته كي يصلوا إلى اتحاد أعمق.
بانتسابنا إلى العائلة السالسية كمكرّسين أو علمانيين، قد يحصل أن نبرّره بادّعائنا أن دون بوسكو أنشأ عائلته الروحية كجماعة أشخاص يعملون في سبيل أهداف رسولية، وبالحقيقة، رسالتنا السالسية هي التي تحدّد نوع تكريسنا أ التزامنا الرسولي. ولكن هناك سؤالان أطرحهما: الأول هو: هل تكفي الأهداف الرسولية أو خدمة المحبة لنعيش متّحدين في جماعة رهبانية أو ننتسب إلى جمعية المعاونين؟ والثاني هو: هل تكفي الفاعلية الرسولية قصدها دون بوسكو بقوله: “في الإتحاد قوة”، لنرضى بهويتنا السالسية؟
أجيب بالقول إنه لا يمكن أن نتصور دعتنا وحياتنا بدون التزام ملموس في خدمة الشباب كنشاط مشترك، بل أُصرّ وأقول إن المعاونين الذين أهملوا هذا الوجه من وعدهم، كأنهم أهملوا الوعد كله، مهما كانت الظروف، وأدعوهم إلى فحص ضمير جدّيّ واستخلاص ما يرونه مناسبا. ومع ذلك، فأقول بقوة إن ما يجمعنا ويوحّدنا في جماعاتنا وقبل كل شيء ليست الرسالة، بل حبّ يسوع المسيح. هو أحبّنا ودعانا وأعطانا إخوة وأخوات ويدفعنا “معا” على درب الاتحاد والشركة والرسالة في مسيرتنا نحو الآب.
فقبل القيام بأي رسالة، يجب علينا أن تلقي نظرة إيمان بعضنا على بعض، ليتقبّل كل واحد الآخر كما هو، لأن يسوع يحبه كما هو، وعلينا أن نحبّ كما هو يحبّ. فالتزامنا كمكرّسين أو علمانيين في العائلة السالسية يساعدنا على اكتشاف أن تلبية الدعوة لا تحضّنا فقط كأفراد (أنا ويسوع، دون أي شخص آخر)، بل لها طابع جماعي: الآخرون مدعوون مثلي، وأنا مدعو مثلهم، لننمو في التلمذة وفي الأخوّة وفي الشركة. فبدون هذه النضارة الروحية، وهي ثمرة الإيمان وحضور الروح القدس، تتذلّل حياة الجماعة وترضخ لنماذج بشرية ذات هدف مادي أو نشاطي لا غير، وتفقد قدرة تغذية الاندفاع الرسولي ودعمه، فضلا عن قدرتها على الشهادة. فإذا تعطّلت جماعاتنا في القيام برسالتها، فكثيرا ما يعود ذلك إلى أنها تعطّلت من قبل على الصعيد الروحي والوجداني. لا تكمن الأزمة في نقص في النشاط والمشاركة، بقدر ما تكمن في نقص جوهري أهم، وهو نقص في الدوافع الإيمانية للتحرّك والمشاركة. هذا هو المرض الخبيث الذي يهدّد جماعاتنا، بل نعاني منه. لذلك هنا أيضا، أدعو الجميع إلى فحص ضمير فردي وجماعي.
5) وسائل تدعم الاتحاد والشركة
* الصلاة:” وكانوا يواظبون جميعا على الصلاة بقلب واحد”(أعمال 1/14). هذا ما فعله الرسل وتلاميذ يسوع الآخرون، قناعة منهم أن بالصلاة ينالون الروح القدس ويبنون الأخوية ويقومون بالرسالة وينفتحون على مقتضياتها الجديدة. فالروح القدس، وهو رابط المحبة بين الآب والبن، يربط ويجمع قلوب الإخوة ليؤلّفوا عائلة واحدة. وهذه هي الحال في كل الجماعات المسيحية. ولكن إذا خفّ الإحساس والاهتمام بالصلاة والأمور الروحية، فكيف تستطيع هذه الجماعات أن تكون “ملح الأرض”، أي أن تعمل لإصلاح المجتمع وتعطيه زخما جديدا؟ بل الغياب المستمرّ عن لقاءات الصلاة الجماعية كثيرا ما يدلّ على عدم إيمان بالروح القدس كأوّل بانٍ لحياة الجماعة لتحيا الجماعة وتقوم برسالتها، وهذا على مدى غير طويل موت الجماعة أو فقدان أي معنى.
*المشاركة الفعلية: لتتكوّن الجماعة لا يكفي أن نحترم بعضنا بعضا وأن نحترم المسؤولين على أن لا يزعجونا. دور المسؤولين الأوّل تحريك الجماعة وتنشيطها، بشرط أن يقبل الأعضاء الحوافز الصادرة عنهم ويعملوا بها، ليس كتطبيق لأوامر اعتباطية، ولكن كوسائل ضرورية لنمو الجماعة. تعترف بأن شيئا من الأنانية كامن في كل واحد منا، ولكن إذا ترسّخت هذه القناعة فينا لدرجة أن الأنانية تحدد نمط حياتنا وإقامة العلاقات مع غيرنا، نتحوّل تدرجيا إلى أنانيين حقيقيين يرفعون الأسوار من حولهم للدفاع عن مواقفهم وحاجاتهم ومصالحهم، ويتنازلون شيئا فشيئا عن الاهتمام بخير الجماعة. وبالعكس، ما ينمي الجماعة اتخاذ مواقف لا يفرضها علينا القانون ولا أي نظام، بل تنبع من قلوب يحركها روح الشركة، وهو الروح القدس الذي يوحي من خلال الظروف اليومية بالقيام ببوادر وأفعال تبني الجماعة وتعيد اللحم بين أعضائها إذا ارتخى أو تلاشى.
ومع الاهتمام بالجماعة وحيويتها وتطوّرها، يجب أن نقبل في الوقت عينه أن تكون غبر كاملة، فهذا مصير كل واقع إنساني. لسنا أبطالا يصنعون المعجزات ولا قدّيسين يحوّلون الحياة على الأرض إلى جنة، ولكننا أشخاص يتعاضدون ويتعاونون لتنمو الجماعة في المحبة والأخوّة والاتحاد والشركة رغم الصعاب. فقيمة جماعاتنا لا تكمن في كمالها، بل في التزام أعضائها المتواصل. التزامنا المشترك ينمي الرجاء ويجعلنا صابرين مع غبرنا وحتى مع أنفسنا، ويحول دون الوقوع في التشاؤم ولو تتقدّم الجماعة ببطء. ما دمنا ملتزمين ومصرّين على التزامنا، الربّ معنا ويرافقنا، حتى ولو أخفقت مساعينا على ما يبدو: “إني ولو سرت في وادي الظلمات، لا أخاف سواء لأنك معي”(مز23/4).
6) الجماعة، مدرسة الاتحاد والشركة
المحبة” إتمام العمل بالشريعة”(روم13/10) و”رباط الكمال”(قول3/14). ما من شيء أكبر من المحبة، فلا يجوز، بأي شكل من الأشكال التركيز على شيء آخر غير المحبة في الحياة الروحية المسيحية. هذا هو الهدف الأسمى الوحيد “ولا نستطيع أن نقلّل من أهميته. أمور كثيرة، حتى في العصر الحديث، ضرورية لأجل مسيرة الكنيسة التاريخية. أمّا إذا غابت المحبة، أصبح كل شيء نافلا” (نحو ألفية جديدة،42). المحبة “عِلم” يحتاج إلى “مدرسة”، بل إلى جامعة للتخصّص فيه وأدرك بعض القديسين، مثل أوغسطينوس وبرنار، أن الجماعة هي أحسن مدرسة والحياة الجماعية، أو الحياة المشتركة بالنسبة إلى المكرسين، أحسن معلّم.
أما مضمون هذا التعليم فيحدّده قداسة البابا كالآتي “الانتباه (…) إلى الإخوة في الإيمان، معتبرينهم من “أهل البيت” فنشاركهم أفراحهم وآلامهم ونكشف رغباتهم ونستجيب لاحتياجاتهم ونقدم لهم صداقة حقّة وعميقة. وأيضا “أن نرى خصوصا ما لدى الآخر من إيجابيات فنقبلها ونقدرها كعطية من الله: “عطية لي” وليس فقط للأخ الذي قبلها مباشرة”. و”أخيرا أن نعطي مكانا لأخينا إذ نحمل” بعضنا أثقال بعض” (غل6/2) وأن نطرد تجارب الأنانية التي دائما تنصب لنا الفخاخ وتدعو إلى التنافس والمصلحة وعدم الثقة والحسد” (المرجع عينه،43). فكلام البابا يترجم ما جاء على لسان بولس الرسول في رسالته إلى أهل قولسّي: “البسوا عواطف الحنان واللطف والتواضع والوداعة والصبر. احتملوا بعضكم بعضا، واصفحوا بعضكم عن بعض (…)، والبسوا فوق ذلك كله ثوب المحبة (…)، وليسُد قلوبكم سلام المسيح، ذاك السلام الذي إليه دُعِيتُم لتصيروا جسدا واحدا” (قول3/12-15). ليس هنالك طريق آخر لتتحوّل جماعاتنا إلى مدارس الاتحاد والشركة، والبابا بالذات يحذّرنا من الأوهام ويقول: “لا تستسلمن للأوهام: بدون هذه المسيرة الروحية، قد تخدم وسائل الاتحاد الخارجية خدمات صغيرة جدا، وقد تصبح واجهات بدون روح، أقنعة اتحاد أكثر مما هي تعابير للاتحاد وطرق إليه” (الموضوع عينه،43).
الخاتمة
التوجيه الرسولي لهذا العام يتضمّن تنشئة ذاتية، على الصعيد الفردي والجماعي، أكثر مما هو برنامج رسولي ينطبق على الآخرين، لأن الرئيس العام الحبر الأعظم على حدّ سواء مقتنعين بأن القيام بأي رسالة مثمرة يبدأ دائما من إصلاح الأشخاص وتأهيلهم وإصلاح الجماعات وتأهيلها. ضمن عائلاتنا السالسية في الشرق الأوسط كلنا بحاجة إلى مزيد من التنشئة على التضحية والعطاء، إلى الإصغاء والحوار، إلى الصفح وممارسة الرحمة، ليس فقط كمنهجية تساعدنا على حل المشاكل العائلية أو الجماعية، ولكن عنصر جوهري لكياننا المسيحي والسالزياني.
كان موضوع المجمع العام الأخير للسالزيان: “الجماعة السالسية اليوم” وموضوع المؤتمر الأول لمعاوني الشرق الأوسط: “الاستقلالية ضمن الشركة”، فكان فيهما للكلمة “شركة” كواقع حياتي المكان المركزي على كل الأصعدة في المناقشات وفي الوثائق الختامية. وصلت هذه الوثائق إلى جماعاتنا وتنتظر الآن تطبيقها فجاء التوجيه الرسولي يذكّرنا بها، كما يذكّرنا بوثيقة أخرى، صدرت عام 1995، وهي “ميثاق الشركة ضمن العائلة السالسية” التي تعالج جميع القضايا المتعلّقة بهذا الموضوع.
فالكلمة الختامية التي أوجّهها إلى الجميع هي: يجب أن ينمو الاتحاد والشركة ضمن جماعاتنا وضمن العائلة السالسية ككل، فإذا سرنا إلى الأمام معًا في هذا المجال، حقّقنا إنجازا كبيرا يجسّد أمنية دون بوسكو وعلمنا لنضمن للرسالة فاعلية أكبر، بدون أن ننسى كلمة الله: “إن لم يبن الرب البيت، فباطلا يتعب البناؤون”(مز124-7/1).