الإنسان
من هو، وما دعوته؟
من هو، وما دعوته؟
مواضيع في التعليم المسيحي
الأستاذ موريس آكوب
للجميع
“هو صورة الله الذي لا يُرى، وبكرُ كل خليقة”
(قول 1/15)
من هو الإنسان...؟
سنحاول الإجابة على هذا السؤال في ضوء العلوم الإنسانية أولاً، ثم في ضوء الإيمان المسيحي ثانياً.
العلوم الإنسانية وخاصة علم النفس تقول لنا: الإنسان كائن منقسم لا يمكن توحيده على الإطلاق، فهناك انقسام بين الرجل والمرأة، وانقسام بين الفرد والمجتمع، وانقسام داخل الفرد الواحد بين الوعي واللاّوعي. فاللاّوعي الإنساني مهما حاولنا امتلاكه يبقى خارج سلطة الإنسان ويتحكم في غالبية تصرفاته؛ الإنسان وليد الماضي القابع في لاوعينا. إن هذا اللاّوعي يقودنا ويتحكم في تصرفاتنا دون وعي منّا، هذا ما عبّر عنه بشكل رائع القديس بولس عندما قال: ” إن الخير الذي أريده لا أفعله، والشر الذي لا أريده إيّاه أفعل”.
الإنسان في نظر العلوم الإنسانية، مدعو إلى الأنسنة، وهو لا يمكنه أن يتقدم في إنسانيته، لا يمكنه أن يصبح إنساناً إلاّ من خلال القانون، فالقانون وُضع لكي يسمح للإنسان أن يصبح إنساناً، لكي ” يتماهى ” مع التصورات والصور التي يقدمها له المجتمع عن ماهيته؛ فالطفل، على سبيل المثال، لكي يصبح إنساناً عليه أولاً أن يصبح إما رجلاً وإما امرأة، عليه أن يتماهى مع التصور والصور التي يقدمها له المجتمع من خلال والديه عن كل من الرجل والمرأة. وعليه فالقانون وُضِع من أجل الفرد وليس ضده، وضع لكي يفتح أبواب المستقبل أمام الإنسان.
والكتاب المقدس إذ يعرض علينا الوصايا العشر (القانون) فلكي يفتح المجال أمام الإنسان ليختار الطرق التي يريدها من أجل أن يتقدم في مسيرته الإنسانية والروحية، فالقانون يسمح للإنسان أن يميّز بين الوسيلة والهدف في الحياة. (جُعل السبت للإنسان، لا الإنسان للسبت). تكشف لنا العلوم الإنسانية أن الإنسان، ليس حراً بطبيعته، إنما هو مدعو إلى الحرية ليصبح إنساناً. إنه في الحقيقة عبد لأمور كثيرة، الرغبة في التسلط، المال، الجنس، عبوديته للآخر 000 كل هذه العبوديات تقود، في نهاية الأمر، إلى عبودية أساسية هي عبودية الذات (الأنانية). فعندما يكون الإنسان عبداً لأي أمر كان فلأن هذا الأمر ينبع من ذاته وبالتالي لا يكون حرّاً أمام عدم تلبيته هذا الأمر. الإنسان في الحقيقة، عبد لذاته. والحرية الحقيقية التي نحن مدعوون إليها كبشر وكمسيحيين خاصة هي الحرية تجاه الذات. هذه الحرية هي مسيرة لا تنتهي يعيشها الإنسان ويناضل من أجلها طوال حياته، وهي التي تعطي المعنى لحياته. هذه الحرية تتم بمقدار ما أخرج من ذاتي للقاء الآخر، أو بمعنى ثانٍ، هذه الحرية تكمن في أن أجعل الآخر محور حياتي بدلاً من أن أكون أنا محوراً لذاتي، لأن هذه الحالة الأخيرة تعني، بكل بساطة، الموت.
المسيح يكشف مَنْ هو الإنسان، وما هي دعوته:
يبقى الإنسان سرّاً عميقاً يصعب سبر أغواره.
إن كلمة “سر” هنا لا تعني ما لا يُفهم أو ما هو مخفي. إنما تعني ما لا ينتهي الإنسان من فهمه، ولا يمكن فهم الإنسان ومعنى حياته إلاّ في ضوء العلاقة الصحيحة مع الله. لقد صار المسيح إنساناً (التجسّد) كي يكشف لنا مَنْ هو الإنسان، ومَنْ هو الله.
لقد كشف لنا المسيح، من خلال حياته وأعماله، حقيقة الإنسان التام، أي الإنسان في قمة إنسانيته، الإنسان المدعو إلى أن يبلغ إلى ملء قامة المسيح على حد تعبير القديس بولس. “إن الإنسان في قمة إنسانيته بذل وعطاء كلي من أجل الآخرين… “وأبذل نفسي في سبيل الخراف” (يو 10 /15) كان يسوع كله من أجل الآخرين وهو صورة لما يجب أن نصير إليه. إن المسيح هو الإنسان الكامل، أي الإنسان كما يجب أن يكون. إن ما يجعل الإنسان إنساناً هو الانفتاح على الآخرين (الحب). إن كل انطواء على الذات يفقدنا إنسانيتنا. دعوة كل إنسان هي أن يصبح على صورة يسوع المسيح. أن يتخلّى عن الإنسان القديم ليصير حسب تسمية القديس بولس “آدم الجديد”. هذه الدعوة نجد جذورها في أنشودة الخلق حيث يحتل الإنسان مكاناً متميّزاً بين سائر المخلوقات إذ خلقه الله على صورته ومثاله، أي قادراً أن يعرف ويحب خالقه ويشاركه في حياته؛ هو ذا صاحب المزمور يهتف متعجباً” ما الإنسان حتى تذكره، وابن الإنسان حتى تفتقده؟ دون الإله حَطَطَته قليلاً، بالمجد والكرامة كلّلته، على أعمال يديك ولّيته، وكل شيء تحت قدميه جعلته “(مز 8:5-7).
المسيح آدم الجديد هو الإنسان الكامل الذي رسم صورة الله في الإنسان. لكن هذه الصورة شوهتها الخطيئة. الإنسان مدعو إلى الكمال إذاً والذي يعيقه عن أن يكون كاملاً هو الخطيئة الساكنة فيه. إنه بتجسّد الكلمة اتّحد ابن الله بكل إنسان مانحاً إياه القدرة على استعادة الصورة الأصلية التي خُلق عليها “هو صورة الله الذي لا يُرى، وبكرُ كل خليقة” (قول 1/15).
عندما يصبح المسيحي مطابقاً لصورة الابن يصبح على مثال المسيح إنساناً تاماً أي ابناً لله على صورته وشِبهه. هذا هو التألّه الذي يتحدث عنه غالباً آباء الكنيسة عندما يحددون غاية التجسّد: “لقد صار الله إنساناً حتى يمكن الإنسان أن يصير إلهاً” (ايريناوس).
إن الدعوة الحقيقية لكل إنسان هي إذاً أن يصير على مثال تلك الصورة، وأن يحقق الشبه بينه وبين الله. ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى ذلك إلاّ بالمشاركة في حياة الله، لأن الله يريد أن يَهَبَ لنا حياته، وقد أشركنا في ألوهته. إن تحقيق هذه الدعوة يتطلب التعرّف إلى وجه الله الحقيقي وهذا ما كشفه لنا يسوع المسيح، لذلك لن يجد الإنسان معنى لحياته إلا بالتعرف إلى يسوع المسيح. هذه المعرفة هي الكنز الحقيقي في الحياة بحيث تبدو أمامه كل كنوز الأرض باهتة. “بل أُعدُّ كل شيء خسراناً من أجل المعرفة السامية، معرفة يسوع المسيح ربي، من أجله خسرتُ كل شيء وعَدَدتُ كل شيء نِفاية لأربح المسيح وأكون فيه” (فل 3:8-9).
قيمة الإنسان:
يكشف لنا يسوع كم هي كبيرة قيمة الإنسان في عيّني الله. “إذ قد صرتَ كريماً في عينيَّ ومجيداً، فإني أحببتك” (أشعيا 4/43).
هذه الحقيقة تتجلى بصورة واضحة في توبة لص اليمين حيث يجيبه يسوع:” الحق أقول لك: ستكون اليوم معي في الفردوس ” (لو 23/43). إن الله لا يهمل ولا ينسى مصير أي شخص. إن صورة الله كما تُظهرها أمثال: الدرهم المفقود، الخروف الضال، العبد العديم الشفقة، الابن الضال، وغيرها، هي صورة الأب المحب الذي لا حدود لمحبته، فكل إنسان مهما كان وضعه هو محبوب من الله ويجد بين ذراعيه كل عطف ورحمة ومسامحة داعياً إيّاه إلى المشاركة في حياته ” ما هو لي هو لك ” (لو15/ 32) إنه أب كلّي الجودة، مسامح لا يُقيم وزناً للحسابات.
إن قيمة الإنسان في عينيّ الله لا تُقدّر بثمن، إذ يعطي حياته فداء من أجل الإنسان. إن حياة يسوع كلها كانت تعبيراً عن محبة الله اللاّمحدودة. وإن خلاص الإنسان مرتبط في النهاية باستقبال هذا الحب.