الأسلوب الوقائيّ كطرح روحيّ مُبتَكَر
طريق قداسة الشباب
طريق قداسة الشباب
إنّ ثلاثيّة العقل والدين والمودّة التي هي تعبير عن المحبة الرعويّة وجوهر الأسلوب الوقائيّ، لا تعبّر عن المشروع التربويّ للنموّ المتكامل فحسب، ولا هي فقط الطريقة العمليّة التي يجب أن يستخدمها المربيّ، بل إنّها تكشف أيضًا عن السمات الأساسيّة لروحانيّة لا بدّ من اكتشافها، وعيشها، وتجديدها باستمرار (راجع دون إيجيديو فيغانو، أعمال المجلس العامّ 334،”روحانيّة سالسيّة للتبشير الجديد”).
وهكذا تضرب الرعويّة الشبابيّة السالسيّة جذورها في روحانيّةٍ حيّة تغذّيها وتدفعها للبحث عن الله من خلال خدمة الشباب.
الروحانيّة هي إعادة قراءة للإنجيل، قادرة على توحيد الأعمال والمواقف التي تميّز الوجود المسيحيّ. ونتيجة لذلك، نجد في جذور الرعويّة الشبابيّة السالسيّة روحانيّة لعصرنا. وهذا يعني إمكانيّة القيام بخبرة الله في حياتنا: مسيرة قداسة، ومشروع محدّد للحياة في الروح.
هناك روحانيّة مسيحيّة أساسيّة تنبع من رسالة الإنجيل، حتّى لو كانت هناك أنواع مختلفة من الروحانيّة المسيحية وفقًا للظروف التاريخيّة، وخاصّةً الكاريزميّة الهامّة، التي نكتشفها في خبرة الإله الثالوث، على المستوى الشخصيّ أو الجماعيّ. بعض القيم الإنجيلية بيّنها بقوّة في تقليد الكنيسة العديدُ من الآباء المؤسّسين، الأوفياء لكلمة الله، والمستنيرين بإرشاد روحه.
في عملنا التربويّ “يجب أن نعرض من جديد على الجميع، وبكلّ اقتناع، هذا المقام الرفيع وسط الحياة المسيحيّة العاديّة“ (نحو ألفيّة جديدة، 31)
يمكننا بالتالي أن نتحدّث عن روحانيّة سالسيّة، وهي روحانيّة كاريزميّة تثري الكنيسة جمعاء بنموذج حياة مسيحيّة يتميّز بمسيرة قداسة ملموسة. وروحانيّة رسوليّة لأنّنا، بإرشاد الروح، مدعوّون للمشاركة في رسالة الآب التي تعطي فعاليّة خلاصيّة لعملنا التربويّ والتبشيريّ بين الشباب، وفي الوقت عينه توحّد حياتنا كلّها داخل مركزها المُلهِم. وفي النهاية، روحانيّة تحوّل الشباب إلى مبشّرين لشباب آخرين.
غير أنّ هذه الروحانيّة لا تقتصر على مجموعة من الممارسات النفسيّة أو العلاجيّة الهادفة إلى تأمين الراحة الجسديّة والنفسيّة للشخص. ففي هذه الممارسات تبدو “الحياة الروحيّة” وكأنّها تمسّكٌ بشعور ما، بمعطى شخصيّ نشعر به في داخلنا كخبرةً حميمة جدًّا. ضمن هذه الأطر يمكن التعرّف إلى تأثيرات العديد من الفلسفات والأيديولوجيّات التي تنكر محتويات الوحي المسيحيّ وتقدّم البدائل عنها، فهي تنكر السموّ الإلهيّ ووجوده؛ ولا تتعرّض لواقع الخطيئة ولا تعتبر ضرورة النعمة والخلاص في المسيح. إنّها تعتقد أنّ الإنسان يمكنه الوصول إلى السعادة بقواه الذاتيّة، وأنّ يسوع المسيح ما هو إلا أحد تجلّيات الإله العديدة التي تناوبت في تاريخ البشريّة تحت أسماء مختلفة.
على العكس من ذلك، تقدّم الرعويّة الشبابيّة السالسيّة روحانيّة تسهّل وتعزّز رؤية موحّدة للحياة، مشيرة إلى العلاقة الوثيقة والفطريّة المُتَضمِّنة مجانيّة الله، والفرح الناجم من اللقاء بالمسيح، وحرّيّة الحياة في الروح.
1.الروحانيّة هي، قبل كلّ شيء، حياة في الروح
أ) أوّليّة مجّانيّة الله
الروحانيّة هي، قبل كلّ شيء، حياة في الروح القدس، فإليه وحده تعود المبادرة. وهو من يملك أوّلية المجّانيّة، ومبادرة محبّة الله، واللقاء بيسوع المسيح.
تجد الحياة الروحيّة في الله، وهو سرّ محبّة، مصدرَها ومركزَها وهدفَها. يمكننا أن نفهم الحياة الروحيّة كتذوّقٍ لمحبّة الله، وعيشٍ لخبرة الصداقة والعلاقة الحميمة معه، واعترافٍ بأنّه أرسلنا للقيام برسالتنا نحو الشبيبة. وفي الشبيبة أيضًا تعمل الديناميّة نفسها، أي ديناميّة اكتشاف المحبّة والدعوة للشهادة لها.
الله هو المركز الموحّد لحياتنا، ومصدر شركتنا الأخويّة، ومصدر إلهام عملنا. ويعني العيش” في حضرة الله” تنمية علاقة عميقة ومستمرّة بالله، ونحن مغمورون بمحبّته ومرسَلون إلى الشباب. ويعني أيضاً قبول علامات حضوره السرّيّ في مطالب وانتظارات الرجال والنساء في وقتنا الحاضر.
ب) اللقاء بالمسيح
مركز الحياة الروحيّة هي خبرة الإيمان المسيحيّ، واللقاء بيسوع المسيح، إنجيل الله. فالتجذّر بالمسيح والتشبّه به هي هبة، وفي الوقت نفسه أفقُ الرعويّة الشبابيّة السالسيّة. من المهمّ جدًّا، في الحياة المسيحيّة وفي العمل الرعويّ، الاستماع لكلمة الله، والليتورجيا، وحياة الأسرار، وبذل الذات في سبيل خدمة الإخوة.
“أنْ يكونَ المرءُ مسيحيًّا لا يأتي نتيجةَ خيار أخلاقيّ أو فكرة سامية، بل كنتيجة للقاء بحدثِ، بشخص، بمن يُعطي الحياة أفقًا جديدًا واتّجاهًا حاسمًا. (الله محبّة، 1)
ج) الحياة في الروح القدس
تتمثّل الحياة الروحيّة بقبولنا أن يصوغ الروح وجودنا من خلال عمل النعمة. ففي علاقة المحبة هذه نتبيّن أوّلية النعمة، ومعها طاعة الإنسان الحرّة الواعية. يتعاون الإنسان من خلال إصغائه وإبدائه جهوزيّة ولينًا. وتكمن رغبته في اللقاء بالربّ. وفي الصلاة يطلب أن يتحقّق هذا اللقاء، ويساهمِ، في حياته، في الرسالة.
الحياة الروحيّة هي ديناميّة تنمو في مسيرة زمنيّة تأخذ كلّ أبعاد الكائن البشريّ، بوتيرةٍ خاصّة وبما لها من فتراتِ نموّ وتجارب خاصّة وصعوبات.
2- طرح مُبتَكَر للحياة المسيحيّة: الروحانيّة الشبابيّة السالسيّة
أ) الروحانية السالسيّة، ترجمة ملموسة للمحبّة الرعويّة
المحبّة الرعويّة التربويّة هي قلب الروح السالسيّة التي تعيش في اللقاء بالربّ يسوع المسيح والاعتراف به. والأسلوب الوقائيّ هو عن حقّ طرح روحيّ للجميع: للسالزيان، وللعلمانيين المشتركين في روح دون بوسكو ورسالته، وللعائلات والشباب. لقد أشار دون بوسكو، في خبرته التربويّة والرعويّة، إلى طريق قداسة الشباب وبيّن في الأسلوب فاعليّة هدفه السامي، حاصدًا نتائج مثيرة للإعجاب.
إنّ سرّ نجاح دون بوسكو المربّي هو محبّته الرعويّة العارمة، تلك الطاقة الداخليّة التي جمعت في داخله، بشكل لا ينفصم، بين محبّة الله ومحبّة القريب، فجعلته قادرًا على دمج النشاط التبشيريّ مع النشاط التربويّ. وبالتالي، تشكّل الروحانيّة السالسيّة، كونها تعبيرًا ملموسًا عن المحبّة الرعويّة، عنصرًا أساسيًّا في العمل الرعويّ: فالروحانيّة السالسيّة، باعتبارها منبع حيويّةٍ إنجيليّة وجوهر المحبة الرعوية، تبقى مبدأَ ووحي العمل الرعوي وهويّته ومعيار توجّهاته. علينا أن نقتنع بهذا الواقع وأن نسعى لتنمية هذه الحكمة الرعوية باستحداثها. فالروحانيّة المُعاشة هي موقف المؤمنين الملتزمين. وهي ليست روحانية هروب، بل روحانيّة حدود وبحث ومبادرة وشجاعة. أي باختصار هي روحانيّةُ الواقعيّة.
لدى دون بوسكو، يحمل هذا كلّه اسم قلب ابن الأوراتوريو أي “قلب أوراتوري”: نشاط متّقد، غيرة رسوليّة، تدفّق جميع الطاقات الشخصيّة، بحث عن تدابير جديدة وقدرة على الصمود في وجه المصاعب وإرادة البدء من جديد بعد الفشل وتفاؤل يُنمّى وينتشر؛ إنّها المبادرة، المملوءة إيمانًا ومحبّة، والتي ترى في مريم مثالا مشرقًا لِبذلِ الذات (راجع بطاقة الهوّيّة الكاريزميّة للعائلة السالسيّة، عدد 29).
ب) برنامج الروحانيّة الشبابيّة السالسيّة ومسيرتها
إنّ روحانيّة مناسِبة للشباب، مُعاشة مع الشباب ومن أجل الشباب، صُمّمت وبُنيت من خلال خبرة الشباب، من شأنها أن تخلق صورة مسيحيّة قابلة للطرح على من يعيش أوضاع زمننا بانخراطه فيه؛ وهي موجّهة إلى جميع الشباب وتتناسب مع “أكثرهم فقرًا”، وقادرة في نفس الوقت على تحديد أهدافٍ لأولئك الذين يتقدّمون أكثر من غيرهم؛ وهي تقصد أن تجعل من الشابّ رائد اقتراحات لأقرانه وفي البيئة التي يعيش فيها.
ترتبط هذه الروحانيّة بالأسلوب الوقائيّ؛ وهي عبارة عن تطوّر المشروع التربويّ الرعويّ السالسيّ المطروح أمام كلّ أعضاء الجماعة التربويّة الرعويةّ، والمترجَم إلى مسيرات تتطلّب جهدًا أكبر. والعناصر التالية تتداخل، وكلّ واحدٍ منها يمثّل إبرازًا لجزئيّة تحتويها العناصر الأخرى: الحياة والمسيح والتطويبات والكنيسة ومريم والخدمة هي نقاط مرجعيّة للتأمّل ولعيش الخبرة المسيحيّة كوحدة متكاملة.