القسم
مواضيع في التعليم المسيحي
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب السّالسي داني قريو
للجميع
رحلةُ سرِّ التجسّد العظيم
الأيقونة هي كلمة ذات أصل يوناني تعني الصورة أو المثال.
وفي الاصطلاح المسيحي، هي صورة تمثّل شخصًا أو مشهدًا مقدسًا مكتوبة على الخشب أو الجّدار وفقًا لأساليب وتقاليد ومواد خاصّة تُظهر قدسية الشّخصية المكتوبة. ويُقال “كاتب الأيقونات” وليس “رسام الأيقونات”، فالأيقونة المقدّسة تُكتب ولا تُرسم؛ لأنّها تروي مشهدًا من الكتاب المقدس أو موضوعًا دينيًّا. ناهيك عن صفات كاتب الأيقونة نفسه والتّحضير الرّوحي المسبق له. قديمًا عندما كان يطلب رئيس الدّير من أحد الرّهبان كتابة مشهد معين، كان يعطي الراهب النّص المراد كتابته، ويذهب الرّاهب ويمضي 40 يومًا في الصّلاة والصّوم والتّأمل في النّص المُعطى له. ثم يبدأ بكتابته على الخشب مستخدمًا الألوان الطبيعية الممزوجة بالبيض، وبعد الانتهاء من الكتابة، تُقدّم الأيقونة لرئيس الدير، وإذا كانت متطابقة مع النّص الكتابي، تتم آنذاك مراسيم تبريك الأيقونة، وتصبح أيقونة مقدّسة معترفًا بها، ويمكن تداولها ونسخها.
من ميّزات الفن الأيقونوغرافي التّقليدي (بيزنطي، سرياني، قبطي، حبشي…) أنّه لا يهتم كثيرًا بإظهار الشّكل الحقيقي للقدّيس أو القدّيسة، بل بصورته الخالدة. ولهذا تُكتب ملامح الوجوه الأيقونوغرافية باتّباع قواعد محدّدة؛ مثل أن تكون العيون واسعة ومفتوحة، تحدّق في أعمال الخالق، وأن يكون الأنف طويلًا ورفيعًا ليعبّر عن رشاقة الشّخص، بالإضافة إلى أنّه يستنشق رائحة البخّور في الملكوت.
الشّفاه المغلقة تعبّر عن التأمّل الحقيقي الذي يتطلّب الصّمت التّام؛ فخصائص الوجه في الأيقونة التقليدية تشير إلى الرّوحانية.
كذلك الألوان المستعملة ليست مصادفة. فالأحمر يرمز إلى الشّهادة؛ والأحمر القاتم يرمز إلى الألوهة، وإلى محبّة المسيح، الأخضر يرمز إلى الحياة الجديدة والنّمو في المسيح يسوع؛ الأزرق يرمز إلى المعرفة التي لا تدرَك بالعقل ولكن بالقلب. ويرمز إلى المجد الإلهي؛ الأصفر يرمز إلى النّور الإلهي، البنّي يرمز إلى الأرض، فآدم الأول من تراب، والأسود يرمز إلى الضّياع والمجهول والى ظلمة الخطيئة والموت والتّخلي عن القيم الدنيوية واليأس في الخلاص؛ أما اللون الذهبي يرمز إلى الأبدية والملك الأبدي الذي لا يفنى وبهاء السماء؛ والأبيض يرمز إلى الضوء غير المخلوق من الله.
إنَّ الأيقونة تذكرنا بوجود عالم آخر سماوي غير العالم المادي الأرضي الذي نعيش فيه. تُظهر الأيقونة التّقليدية طبيعة محولة وأجسادًا جديدة، أجسادًا نورانية مضيئة مثل جسد السيد المسيح الممجّد بعد القيامة. لا تظهر فيها “العيوب الجسدية” مثل التشوّهات أو علامات الشيخوخة. كذلك، يتجنّب كاتب الأيقونة إظهار الألم أو المعاناة أو حتّى العواطف في المشهد المراد كتابته.
فكتابة الأيقونة، تستخدم كل هذه القواعد وغيرها للتّعبير عن التغيير الروحي الذي يطرأ على الجّسد البشري، فلا نرى شخصًا يصارع مع العواطف البشرية، لأنه قد سما بها وتجاوزها.
أيقونة الميلاد هذه تعود إلى كاتب الأيقونة الرّوسي أندريه روبلوف (1360-1430)، الذي يكرّمه العالم الأرثوذكسي البيزنطي كقديس، فهو أعظم كاتبي أيقونات في تاريخ الايقونوغرافيا.
إنَّ مرجعية أيقونة الميلاد هو الكتاب المقدّس، كسائر الأيقونات، كل جزء منها له مرجع كتابي.
محور هذه الأيقونة هو الرّب يسوع المتجسّد، ومن حوله تتوزع بقية الأحداث بشكل دائري لتصبح إنجيلاً مرئيًا بهيًّا يجذب القارئ كي يرتقي بالعالم الأرضي، ويدخل العالم الروحاني غير المرئي.
تأخذنا أيقونة الميلاد في رحلةٍ تنازلية، رحلةُ سرِّ التجسّد العظيم. رحلة نزولٍ ثم صعودٍ. نهبط من السّماء إلى الأرض لنحط في مركز الأيقونة، ونجد الإله الخالق الذي أصبح إنسانًا مثلنا، ثم ترتقي بنا الأيقونة لنُقلع من الأرض إلى السّماء ثانيةً.
ينقسم التكوين المركب لهذه الأيقونة إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء العلوي يشير إلى الحيّز الإلهي، والجزء الأوسط يُظهر موضوع التجسّد، والجزء السفلي يقدّم البعد الإنساني.
في منظر طبيعي صخري قاحل تهيمن عليه ثلاثة جبال، رمزًا للثالوث، تنفتح المغارة التي جاء فيها يسوع إلى العالم في الوسط. يحتلّ الطفل، الذي يراقبه الثور والحمار، مركز المشهد، بالتوافق مع الجبل المركزي الكبير ذي الشكل الهرمي المائل، الذي تحيط به جيوش ملائكية.
محور الأيقونة هو الرّب المتجسّد يسوع المسيح، وعدّة أحداث متتالية تشكّل مع الحدث المركزي سبعة مشاهد، تتوزّع بحركة دائرية تنطلق من الملاك الذي في أعلى الجّهة اليمنى، والذي يرفع نظره إلى السّماء، نزولًا منه إلى الرّعاة المنحنين إجلالًا للمولود الجديد، ثم تدعونا الحركة للقاء القدّيس يوسف خطيب مريم العذراء. ومن بعده تبدأ حركة الصّعود لنلتقي بمشهد الغسل، ومنه نرتفع لنرى المجوس، ونختتم المسيرة في الأعلى لتلتقي جماعة الملائكة الذين يسبّحون الله.
هذا الدوران حول الطفل المولود يضمّنا جميعًا ’’لأنّنا به نحيا، ونتحرك ونوجد‘‘ (اع 17، 28)، وها هو اليوم في وسطنا ’’الكَلِمَةُ صارَ بَشَرًا، فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه، مَجدًا مِن لَدُنِ الآب لِابنٍ وَحيد، مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ‘‘ (يو 1،14-16).
وتعود الحركة الدورانية مجدداً مع الشّعاع الثلاثي الأضلاع النّازل من السماء. ولهذا الشّكل دلالات مهمّة.
أولًا: كي يشير إلى الحدث الخلاصي. يخترق هذا الشعاع في ثلثه الأخير النّجم، الذي يذكرنا بالنّجم الذي قاد المجوس. ’’فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه‘‘. (متى 2، 2).
ثانياً: نجد أنَّ في أعلى الشّعاع هناك شعاعين آخرين، يميناً ويساراً، ليدلا على طبيعة الله الثّالوثية غير المنقسمة في الجوهر.
ثالثًا: هذه الأشعة معًا تشكّل علامة صليبٍ، لأنَّ هذا المولود هنا هو الله المتجسّد نفسه، وأيضًا المصلوب، وأيضًا القائم من بين الأموات لخلاص البشر.
رابعًا: نجد أنَّ هذا الشعاع هو على شكل سيفٍ، ويتّجه مباشرة إلى قلب العذراء مريم، ليذكّرنا بما قاله سمعان الشيخ عند تقدمة الرب يسوع إلى الهيكل “وأَنتِ سيَنفُذُ سيفاً في نَفْسِكِ، لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة‘‘ (لو 2، 35).
جماعة الملائكة السّتة في الجهة اليمنى من الأعلى، جميعهم يمعنون النظر بإجلال إلى الطّفل المولود.
قصد كاتب الأيقونة أن يضعهم في هذه الجّهة، وفي هذا الشكل كمثلثٍ ليرسل القارئ ليرى ما يرونه، الإله المتجسد. ونجد خلفهم ملاكًا سابعًا ينقل البشرى السّارة بالحدث العظيم ’’ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرَحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو المسيحُ الرَّبّ‘‘ (لو 2، 10). وإذا انتقلنا إلى الجهة اليسرى من الأيقونة، لوجدنا أنَّ هناك سبعة ملائكة متراصّين متلاصقين مع بعضهم البعض يشكلون معًا جوقة متماسكة تسبّح الله العليّ بفرح وسرور.
إنَّ وجود الملائكة في أعلى الأيقونة وبهذه الطريقة يضفي طابعًا سماويًّا للحدث الإلهي، ويضمُّنا إلى هذا التسبيح ’’المَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاس، فإِنَّهم أَهْلُ رِضاه‘‘. (لو 2، 14)
الألوان: ألوان ثياب الملائكة الزّاهية تعطي إشراقًا خاصًا لبهاء العيد، فاللّون الذّهبي يرمز إلى الألوهية، والخمري يرمز إلى المجد الإلهي، والأخضر إلى الحياة الجديدة والنّمو في المسيح يسوع.
الملاك: نرى ملاكًا يخاطب راعيًا مبشّراً إيّاه بفمه وعينيه ويديه ومباركًا إيّاه باسم الثالوث القدوس. ويظهر الرّاعي واقفًا مذهولًا أمام هذه البشارة.
الألوان: ألوان ثياب الملاك؛ فقميصه الداخلي باللّون الأزرق أي لون الإنسانية والخلق، أمّا الرّداء الخارجي فهو باللّون الأخضر دلالة على الإنسانية التي ستتجدّد بالرب يسوع.
ومنحدرين قليلًا إلى الأسفل، نجد راعيًا ثانيًا قد بدأ بعزف أنشودة الفرح والمجد الآتي، وهو يتّكئ على شجرةٍ خضراء ترمز إلى الحياة الجديدة.
ونرى في أسفل الأيقونة خرافًا ترعى بسلام وأمان وطمأنينة، فمع ولادة المسيح لا خوفَ بعد من الذّئب، ولا انتصار له. فمع ولادة المسيح تحوّلت الأرض إلى سماء.
القدّيس يوسف: نرى خطيب مريم جالسًا وهو يتأمّل، وأمامه يظهر رجلٌ متّكئ على عصا ومتلحّفٌ بشعر الماعز ذي اللّون الأسود الذي يشير إلى الشّيطان، أبو الكذب والمشكّك. وينطبق عليه ما قاله الرب يسوع ’’إِيَّاكُم والأَنبِياءَ الكَذَّابين، فإِنَّهم يَأتونَكُم في لِباسِ الخِراف، وهُم في باطِنِهِم ذِئابٌ خاطِفة‘‘ (متى 7: 15). نرى الرجل الملتحّف ينظر ويتكلّم بإسهاب شديد وكأنّه نبي زمانه، وحركة يده اليمنى تشير إلى إلحاحه الشّديد، لكنّنا نرى تعابير القديس يوسف وملامح وجهه وهو يسمع، ولكنّه لا يصدق.
لقد فكّر القدّيس يوسف في ترك العذراء سرًّا ’’وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: «يا يُوسُفَ بنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِٱمرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ٱبنًا فسَمِّهِ يسوع، لِأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم‘‘ (متى 1: 20-21).
الألوان: نرى القدّيس يوسف جالس وملفوف بعباءة صفراء واسعة. منفصلاً عن مريم، ليؤكّد مجدّدا على غرابته في ذلك الحبل العجيب، ويبدو مضطرباً، كما لو كان يتساءل عن القضيّة الغامضة برمّتها. إنّه يتأمّل فيما كشفته له مريم عن ذلك الطّفل الذي ليس هو الأب البيولوجي له.
هذا اللّون يشير إلى إصغائه وطاعته لتتميم مشيئة الله، بينما نجد التعارض بين سطوع لون ثياب القدّيس وقتامة لون ثياب الشرّير من الأعلى إلى الأسفل.
لقد وضع كاتب الأيقونة القدّيس يوسف تقريبًا خارج الدّائرة المركزيّة، لعدم الإيحاء للقارئ بأنّه والد الطّفل المولود. وهذا لا يقلل بتاتًا من كرامته وقدسيّته.
نجد هذا المشهد في الجهة اليسرى من الأيقونة، ويظهر فيه امرأتان على وشك أن تغسلا الطّفل المولود في جرن يشبه جرن المعمودية.
هذا المشهد، الذي لم يُذكر أبداً في الأناجيل، يذكر من جهة إنسانيّة الله المتجسّد الكاملة، الذي يعامل هنا كأيّ طفل آخر ومن جهة أخرى يمهّد للمعموديّة التي ستبدأ بها رسالته الخلاصية.
ليس من قبيل المصادفة أن حوض الاستحمام يذكّرنا بجرن المعمودية.
نرى المولود الجديد في حضن سالومة، بينما تسكب الخادمة الثّانية الماء في الجرن تحضيرًا لغسل المولود كسائر المواليد الجدد. والجدير بالذكر أنَّ وجه الطّفل في كلّ المشاهد يكون كوجه شخص بالغ، دليل على ألوهيّته ووجوده قبل الولادة.
المجوس: ننتقل صعودًا من الجّهة اليسرى لنشاهد ثلاثة مجوس يمتطون أحصنة، ويظهر من حركتهم أنّهم على عجلة من أمرهم، إلى جانب ملامح الدّهشة التي تتجلّى في وجوههم.
يشير المجوس الأول بيده اليمنى إلى النّجم الذي قادهم إلى مكان وجود الصّبي. أمّا الثّاني فيمعّن النّظر بما سمع، والثّالث يضع يده على وجهه علامة على اندهاشه ممّا يرى. ’’وإِذا النَّجْمُ الَّذي رأَوهُ في المَشرِقِ يَتَقَدَّمُهم حتَّى بَلَغَ المَكانَ الَّذي فيه الطِّفلُ فوَقَفَ فَوقَه. فلمَّا أَبصَروا النَّجْمَ فَرِحوا فَرَحًا عَظيمًا جِدًّا‘‘ (متى 2، 9- 10). ولو أمعنا النّظر في وجوههم، لاكتشفنا أنّهم من أعمار مختلفة. الأوّل شاب، الثّاني متوسّط العمر، والثّالث مسن.
ويقصد كاتب الأيقونة في هذا التنوّع أن كل الأجيال قد جاءت لتسجد للرب يسوع، فالكتاب المقدّس لا يذكر عدد المجوس الذين أتوا من المشرق، إنّما هناك ذكر للهدايا الثلاث التي قدّمت للرب يسوع: ’’ودَخَلوا […] فرأَوا الطِّفلَ مع أُمِّه مَريم. فجَثَوا له ساجدين، ثُمَّ فتَحوا حَقائِبَهم، وأَهْدَوا إِليه ذَهبًا وبَخورًا ومُرًّا. (متى 2، 11).
هم الجّماعة الثّانية من الملائكة في الجّهة اليسرى من الأيقونة. هؤلاء المرنّمون المتراصّون الذّين يرفعون أيديهم مسبّحين الله، وبالرغم من أنَّ وجوههم تتّجه في الاتّجاهات كلها، إلا أنّ نظراتهم تنصب إلى الحدث الأهم، حدث التجسّد الإلهي. وتنتهي الحركة الدائرية عند الملاك الأخير في المجموعة الذي يشكّل نقطة النهاية للأحداث الميلادية.
يسوع المسيح: وهو الحدث الجوهري الأهم، فهو موجود في الوسط، ويتمثّل بالطّفل المولود والملفوف بالأقمشة: ’’فولَدَتِ ٱبنَها البِكرَ، فَقَمَّطَته وأَضجَعَته في مِذوَدٍ؛ لأَنَّه لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في المَضافة‘‘ (لو 2، 7). ونرى الطّفل موضوعًا في مزود الحيوانات إشارة إلى الانسحاق العجيب. ’’ملك الملوك ورب الأرباب‘‘ (رؤ19: 16) يولد في مزود حقير وسط البهائم.
الأقمطة: نرى في كل أيقونات الميلاد أنَّ الطّفل ملفوف دومًا بأقمطتةٍ، ولا نراه بتاتًا عريان. وهذه الأقمطة سنشاهدها لاحقًا فارغة في حدث القيامة المجيد، لأن الذي وُلِدَ، هو نفسه الذي سيُصلب ويموت، ويقوم في اليوم الثّالث.
إنّ الأحداث الخلاصية لا تنفصل بعضها عن بعض، حتّى المزود هو كالقبر الفارغ، حيث نشاهد الملاك يبشّر النسوة حاملات الطّيب بأنّ من يطلبنّ بين الأموات قد قام. ويظهر هذا جليًّا في الألحان. فبحسب الطقس البيزنطي، يُرتل نشيد “اليوم يولد من البتول الضّابط الخليقة بأسرها في قبضته” بذات لحن “اليوم علّق على خشبة”، للتّرابط الشديد بين حدث التجسّد وحدث الفداء. وأيضًا يشير وضع الطّفل يسوع في المزود، مكان طعام الحيوانات، إلى أنّ هذا الطفل هو غذاؤنا. وهذا ما نعيشه في كل ذبيحة إلهية ’’أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِلَيَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي، فلَن يَعطَشَ أَبَدًا‘‘. (يو 6، 35). وأيضًا ’’الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسَدَ ٱبنِ الإِنسانِ، وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة‘‘ (يو 6، 53).
في الأيقونات كلّها نجد هالة ذهبية اللّون كالّتي خلف رأس الطّفل. هذه هي هالة القداسة التي نراها خلف رأس والدة الإله والقدّيس يوسف وجميع القدّيسين وكذلك الأمر مع جميع الملائكة. ولكن نجد أنَّ هالة الطّفل تتميّز عن بقيّة الهالات بوجود صليب داخلها، بالإضافة إلى ثلاثة أحرف يونانيّة تشكّل معًا كلمة واحدة ألا وهي “الكائن”، والتي هي ترجمة معنى الفعل العبري لاسم الله’’يهوى‘‘. ’’فقالَ اللهُ لِموسى: أَنا هو مَن هو‘‘ (خر 3، 14). ’’أنا هو الذي كان، والكائن والذي سيكون الذي يخلص‘’.
مريم العذراء: نراها مستلقية على انفراد، ونظرها متّجهاً نحو الأفق وكأنّها في تأمّلٍ وصلاةٍ صامتة تاركة الملائكة يعتنون بالمولود الإلهي. فهي في ذهولٍ عجيب؛ العذراء البتول أضحت أمًا، والإله أصبح إنسانًا. أما حركة يديها وانحناء رأسها فيجسّدان تواضعها، ويؤكّدان ما قالته لنسيبتها أليصابات: ‘‘تُعَظِّمُ نَفْسي الرَّبَّ، وتَبْتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي، لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة‘‘(لو 1، 46-47).
وبُعدها في الأيقونة عن ابنها الوحيد هو إشارة إلى تقديمها الرب يسوع منذ اللحظة الأولى للبشرية جمعاء، فهي لم تطلب لنفسها شيئًا. كما أنَّ وضعيّة العذراء هنا تشبه حبّة الحنطة التي تعطي الحياة للعالم يسوع المسيح.
الألوان: فغالباً ما ترتدي السّيدة العذراء لباساً أزرق، وتغطى بعباءة حمراء؛ تغطي رأسها ومعظم جسدها.
والسبب في ذلك هو أنّ صورة مريم تهدف إلى الإشارة إلى أن إنسانيّتها محتضنة ومحتضنة بالبعد الإلهي. القصد هو الإشارة إلى أنّ اللاهوت (بفضل الحبل بالمسيح) قد وجد ملجأً في داخلها.
لون ثيابها الزّرقاء الداكنة ترمز إلى الإنسانية مع الوقار والاحترام والتّخلي عن كلّ شيء. نراها تلتحف من الخارج باللّون النّبيذي الذي يدلّ على المجد الإلهي الذي غمرها حينما قالت الـ “نعم” لمشيئة الله. فهي إنسانة لبست ثوب الألوهة. ولون الوشاح الأحمر الذي تستلقي عليه يدلّ على الشّهادة التي ستعيشها وهي ترى ابنها الوحيد يتألّم ويصلب ويموت أمام أعينها.
الحيوانات في المغارة:
أشارت إلى أنَّ الطّبيعة بكل مخلوقاتها تستقبل المخلّص الآتي. كما ترمز إلى نبوءة أشعيا يوم أشار إلى نكران الشّعب ورفضه الخلاص الآتي “عَرَفَ الثَّورُ مالِكَه والحِمارُ مَعلَفَ صاحِبِه، لٰكِنَّ إِسْرائيلَ لم يَعرِفْ وشَعْبي لم يَفهَمْ” (أشعيا 1: 3).
الثور: يرمز إلى اليهود الذين اتّبعوا وصايا الله وشرائعه، وأيضًا يرمز إلى المسيح الذبيحة الطاهرة.
الحمار: يرمز إلى الأمم الرّازحة تحت ثِقل الخطيئة دون وعي. فوجود الثور والحمار في الأيقونة هو إشارة؛ لأن اليهود والأمم مدعوون بأجمعهم للخلاص.
الخراف: ترمز إلى النّفوس السّاهرة التي تنتظر الرّاعي الصالح.
الجبل: يرمز إلى كلّ ما قاله أشعيا عن الجّبل الذي تنبثق منه الحياة الجديدة ’’ ويَكونُ في آخرِ الأَيَّام أَنَّ جَبَلَ بَيتِ الرَّبِّ يُوَطَّدُ في رَأسِ الجِبالِ، ويَرتَفِعُ فَوقَ التِّلال، وتَجْري إِلَيه جَميعُ الأُمَم، ٣ وتَنطَلِقُ شُعوبٌ كَثيرةٌ وتَقول: هَلُمُّوا نَصعَدْ إِلى جَبَلِ الرَّبّ، إِلى بَيتِ إِلٰهِ يَعْقوب، وهو يُعَلِّمُنا طُرُقَه، فنَسيرُ في سُبُلِه، لأَنَّها مِن صِهْيونَ تَخرُجُ الشَّريعَة، ومِن أُورَشَليمَ كَلِمَةُ الرَّبّ‘‘.
(أش 2: 2-3).
أولًا: امتداد الصّخرة من رأس الأيقونة إلى أسفلها واتّساعها نزولًا يرمز إلى الرّباط المتين بين السماء والأرض وأيضًا إلى النِعَم المنحدرة علينا من العلو.
ثانيًا: يمتد الجّبل أفقيًا ليشمل كلّ الأيقونة وتفاصيلها، وكأنّه يشير إلى أن نِعَم السّماء تمتد لتصل للجّميع، وتربط الكل مع الكل. ثالثًا: يتوسّط هذا الجبل مغارة سوداء قاتمة اللّون، ومن وسطها يشعّ المسيح المخلّص، ليشكّل ذلك إعلانًا وتثبيتًا أنّ الرّب يسوع وحده هو صخرة الكنيسة وأبواب الجّحيم لن تقوى عليها.
أخيرًا: إنَّ ولادة الطّفل من العذراء مريم هو علامة إنسانيّته، فهو إنسانٌ كامل. كما أنَّ حبل العذراء مريم من الرّوح القدس هو تأكيد على أنَّ المسيح هو إلهٌ كامل.
وهذا أيضًا معنى لقب ابن الله ’’ فعظيم هو سرّ التّقوى الله ظهر في الجسد‘‘(1 تيم 3: 16).
هللويا ولد المسيح!