القسم
مواضيع تربوية
مواضيع تربوية
عن مجلة السالزيان الدورية نقلها للعربية الأب السالزياني بشير سكر
للجميع
فلنبدأ بالقول أن عبارة “الأغلبية دائما على حق” غير مؤكّدة بتاتاً.
بقولنا هذا لا ننفي أن الأغلبية قد تكون أحياناً على حقّ. لكن أن نجزم كونها دائماً على صواب فهذه أكذوبة. كم من الأخطاء ارتُكبت من جرّاء العديد من الأيدي التي رُفِعت بالموافقة!
لو اعتبرنا أن الأغلبية دائما على حق، لكان سقراط الفيلسوف الإغريقي الشهير مجرماً عندما اتُهِم ظلماً بأنه يُفسد الشبيبة…
المياه لا تصبح صالحة للشرب لأن الأغلبية البرلمانية قررت ذلك، بعد أن تمّت إضافة نسبة أعلى من الكلور…
اللصوص لا يصبحون شرفاء لو أن الأغلبية قررت غضّ النظر عن اختلاساتهم!…
قِيَم لا يجوز انتهاكها:
هناك قيم لا تُمَسّ، غير قابلة للتصويت، وهذا جوهر بحثنا؛ فعلى سبيل المثال:
المساواة لا تُمَسّ. الإنسان لا يساوي شبيهه لمجرد إحصاء الأيدي المرفوعة، كل إنسان يحظى بالمساواة بين الآخرين بغضّ النظر عن أي قرار أو امتياز قد يصدره صاحب نفوذ.
العدالة هي الأخرى لا تُمَسّ. ليس من حقّ إنسان تحديد ما هو عادل، بل عليه أن يخضع للعادل الأعظم. عندما يدَّعي البشر امتلاك حقّ التحكّم بالعدالة بسيطرة الأغلبية، فإنهم لا شك سيفرضون على الآخرين وجهة نظرهم، وحينذاك ستتحوّل العدالة الى طغيان مريب. وهذا ما يحكيه مطوّلاً تاريخ البشر.
الحقيقة هي أيضاً لا تُمَسّ. كوكبنا الأرضي لا يدور حول الشمس لأن الجميع صاروا على يقين من ذلك، ولكنه يدور حول الشمس لأنها الحقيقة الدامغة التي لن تتغيّر حتى لو قرر الجميع عكس ذلك.
هناك قيم أخرى لايجوز انتهاكها…هام جدا أن نتذكّر ذلك وأن نعترف بأنه ليس من السهل أن نكتشف مَ الذي يتضمّن بحدّ ذاته قيمة جوهرية. كل ذلك يدعونا الى تفكير متعمّق لكي نجاور الحقيقة الى أقرب حدود…
ثلاثة أمثلة:
كل ما قلناه الى الآن يُعتبر تنبيهاً كي لا نمنح ثقتنا عشوائياً للأغلبية!
ثلاثة أمثلة توضح منطقية هذا التنبيه:
إذا كان أغلب الوالدين يحتفلون اليوم بذكرى ميلاد أبنائهم وكأنها حفل زفاف مبكّر، فإننا نقف في صف الأقلية لأننا، حتى لو خالَفْنا رأي الجميع، نحن مقتنعون بأن أسلوب الاحتفال هذا بميلاد الأبناء ليس الأفضل تربوياً!
وإذا كان افتتاح العام الدراسي قد تحوّل بالنسبة للأغلبية في يومنا الى فرصة لإقامة مهرجانات فخمة أو لاستعراض مستلزمات الطالب المدرسية المتطورة، فإننا ننعزل عن الأغلبية لأننا مقتنعون بأن التجهيزات المدرسية مهما ارتقت فإنها لن تصنع شخصية التلميذ.
وإذا كان معظم الوالدين يهتمون اليوم بزيادة السِّعْرات الحرارية في غذاء أبنائهم، فنحن نعترض لأن الأبناء بأمس الحاجة الى حرارة حب الأسرة، ولأن احتضانهم بحنان يساهم في نموهم أكثر كثيراً مما قد تفعله شتى أصناف الحلويات في العالم بأسره.
قصة نموذجية: النعامة “أوليفر”:
كان أحد طيور النعام، مشهور بوقاره وهيبته، يخطب في النعام الصغار متباهياً بأن فصيلة النعام تتفوق على باقي الفصائل. “إننا من أكبر الطيور وأفضلها”. وكل الحاضرين راحوا يهتفون: “طبعاً! طبعاً!” عدا واحداً منهم ظل صامتاً يفكّر وكان اسمه “أوليفر”. وفجأة خرج عن صمته وهتف: ” ولكننا لا نستطيع الطيران نحو الخلف مثل بعض الطيور…” ثم تابع معلم النعام وقال:” نحن نصنع البيض الأكبر والأفضل!”. وكل الحاضرين عادوا يهتفون: “طبعاً! طبعاًّ!” لكن “أوليفر” اعترض قائلاً: ” لكنّ هناك طيوراً تصنع بيضاً أجمل…” ثم تابع معلم النعام فقال: “نحن نمشي على أربعة أصابع فقط بينما يحتاج الإنسان الى عشرة أصابع”. وكل الحاضرين تابعوا هاتفين: “طبعاً! طبعاً!” فاعترض “أوليفر”: “ولكن الإنسان يقدر أن يطير وهو قاعد بينما نحن لا نطير بتاتاً…” فنظر اليه المعلم نظرات صارمة وقال: “نحن، في ساعة الخطر، نستطيع أن نختفي بأن نخبِّئ رؤوسنا في الرمال ولا أحد غيرنا قادر على فعل ذلك”. “طبعاً طبعاً! ردّد كل الحاضرين، لكن “أوليفر” اعترض وقال: “كيف نعلم أن لا أحد يرانا إذا كنا نحن أصلاً لا نشاهد شيئاً ورأسنا في الرمال !؟” وإذا بالمعلم الجليل يهتف: ” تفاهات! إنّ ما تقوله تفاهات!” والجميع راحوا يرددون وراءه: “تفاهات! تفاهات!!” دون أن يفقهوا شيئاً…
في تلك اللحظة بالذات، سمع المعلم وصغاره دويّاً غريباً رهيباً، وكأنه رعد يزداد اقتراباً. لم يكن رعداً جوياً وإنما هدير قطيع هائل من الفيلة، مرعوبة لسبب غامض، مندفعة عشوائياً بكل قوتها! معلم النعام الأكبر وكل من معه، عدا “أوليفر”، أخفوا رؤوسهم فوراً في الرمال. أما “أوليفر” فهرع ليختبئ خلف صخرة ضخمة قريبة واستقر هناك ريثما تعبر زوبعة الوحوش الهائجة تلك…
عندما خرج “أوليفر” من مخبئه، شاهد أمامه ساحة اختلطت فيها الرمال والعظام والريش: هذا كل ما تبقّى من المعلم وأتباعه. حاول “اوليفر” التأكد من وجود بعض الناجين، فبدأ بالمناداة على القائمة ولم يلقَ أية إجابة إلا عند بلوغ اسمه.
“أوليفر”! – نادى بنفسه اسمه – وردّ: “حاضر” … وكان الصوتَ الوحيد الذي سُمِع في البرّية…