القسم
مواضيع في التعليم المسيحي
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب سامي حلاق اليسوعيّ
للجميع
كثيراً ما ننسب الشرّ إلى الله أو أقلّه نعلن أنّ له ضلعاً فيه. فماذا يحدث لو افترضنا أنّ الله فوجئ بالشر؟ لعلّها الطريقة الوحيدة لتبرئته من هذه التهمة، أي مسؤوليتّه المباشرة أو غير المباشرة في الشر. وإذا مسّت هذه الفكرة صفة من صفات الله، كصفته ضابطاً للكل، فليكن. فهو لا يضبط الكلّ كما نظن، أي يتحكّم بكلّ شيء، وكأنّ هذا “الكلّ شيء” فاقد الإرادة، بل هو ضابط لكلٍّ حرٍ قادرٍ على فعل الشر، مثلما تضبط الشرطة المجتمع لكنّها لا تستطيع منع الجريمة. وإذا مسّت فكرة تفاجئ الله سعة علمه، هل نستطيع التأكيد أننا نعرف حقّاً ما تعنيه عبارة “سعة علم الله”؟ أمر واحد يدفعنا إلى افتراض تفاجئ الله بالشر: إذا كنّا نؤمن بأنّ الله لم يخلق الشّر، ولم يخطّط له، فلا بدّ وأنّه فوجئ بحدوثه.
فهل تعني المفاجأة أنّ الله كان “يجهل” أنّ أمراً كهذا سيحدث؟ للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نتبع تسلسل النصوص الكتابيّة التي تخبرنا عن ظهور الشّر لأوّل مرّة في التاريخ.
الله يتوقّع الشّر ويُفاجأ بحدوثه:
تُطلعنا الفصول الستة الأولى من سفر التكوين على عدّة قصصٍ لشّرٍ حصل من دون أن يكون متوقّعاً. ففي الفصول الثلاثة الأولى، يبدو أنّ الله خلق خليقةً حسنة. ثمّ تأتي حيّة غامضة “هي أحيل جميع حيوانات الحقول التّي صنعها الربّ الإله” (تك3/1)، وتبلبل النظام القائم. ويسقط آدم وحوّاء في التجربة. وفي اليوم التالي: “نادى الربّ الإنسان وقال له: أين أنت؟ قال: إني سمعتُ وقع خطاكَ في الجنّة فخفتُ لأنيّ عريان فاختبأتُ. قال: فمَن أعلمكَ أنّكَ عريان؟ هل أكلتَ من الشجرة التي أمرتكَ ألا تأكل منها؟” (تك3/9-11)
يبدو من هذا الحوار أنّ الله فوجئ بعصيان آدم. لكنّه كان يتوقّع ذلك وإلاّ، لماذا منع الأكل من شجرة معرفة الخير والشر؟ (تك2/16-17). ألا نمنع ما نتوقّع احتمال حدوثه؟ أو أقلّه ما يمكنه أن يغوي؟ لذلك يمكننا القول، إنّ الله كان يتوقّع الشّر، واتخذ كافّة الإجراءات المتاحة له ليمنعه، لكنّه فوجئ بأنّه حصل. تماماً كما يربّي الأهل أولادهم تربية حسنة، ويحمونهم بشتى الوسائل من الانحراف. لكنّ هذا لا يلغي حريّة الابن في فعل الشر. فإذا فعله، يُفاجأ الأهل.
وتأتي المفاجأة الثانية في قصّة قايّين وهابيل. “فقال الربّ لقايين: أين هابيل أخوك؟ قال: لا أعلم. أحارس لأخي أنا؟ فقال: ماذا صنعتَ؟ إنّ صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض” (تك4/9-10).
والمفاجأة الثالثة أقسى. “ورأى الربّ أنّ شرّ الإنسان قد كثُر على الأرض، وأنّ كلّ ما يتصّوره قلبه من أفكار إنماّ هو شرّ طوال يومه. فندم الربّ على أنّه صنع الإنسان على الأرض وتأسّف في قلبه.
فقال الربّ: “أمحو عن وجه الأرض الإنسان مع البهائم والزحّافات وطيور السماء….” (تك6/5-7). فالمفاجأة غير سارّة، وخيبة الأمل شديدة. إلاّ أنّ الله لم يُبِد البشرية. فقد “نال نوح حظوة في عينيّ الرب”. وحافظ الله على نوحَ البار وعائلته، أملاً في خلقٍ جديد. وتتكرّر المفاجأة. فقصّة سُكرِ نوح وسلوك ابنه حام تجاهه تبيّن أنّ “الإنسانيّة الجديدة” المولودة من نوح ليست أشرف من الأجيال السابقة. فالله لم يستبدل بعملٍ فاشلٍ تحفةً ناجحة، والإنسان هو هو، خاطئ وضعيف. وتأتي أحداث برج بابل لتعيد مأساة خطيئة آدم. فالله يغيب أو يتغيّب، ليفسح المجال أمام الإنسان كي يمارس حريّته. وكلما غاب الله عن الإنسان، برزت الرغبة الجامحة في قلب كلّ بشر بأن يصبح شبيهاً بالله، معه، بدونه، ضده، فيرتكب الشر.
وعندما رأى الله أنّه كلّما غاب ضلّ الإنسان، أبرم عهداً أبدياً مع إنسانيّة ناقصة وخاطئة. “لن أعود إلى لعن الأرض بسبب الإنسان، لأنّ ما يتصوّره قلب الإنسان ينزع إلى الشرّ منذ حداثته” (تك8/21). منذ ذلك الحين، زال عنصر المفاجأة. وعزم الله على تشكيل الإنسان وإعادة تشكيله كما يصنع الخزّاف (إر12). وعزم على أن يأخذ الخطيئة والشر في عين الاعتبار، أثناء تشكيله هذا، وأن يُدخلها في مخطّطه الخلاصيّ. وعلى الإنسان الذّي يريد أن ينضمّ إلى مشروع الله الخلاصيّ أن يقبل بوجود الشرّ والخطيئة، لا أن يعيش في وهم الحماية الإلهيّة التي تمنع عنه المرض والألم والموت. وبفضل كشفٍ إلهيّ مدهش، يدرك بيقينٍ راسخ “أنّ آلام هذه الدنيا لا توازي المجد الذّي سيتجلّى فينا … فقد نلنا الخلاص، ولكن في الرجاء … وإذا كنّا نرجو ما لا نشاهده، فبالصبر ننتظره” (روم 8/18-25).
الله هو الضحيّة الأولى:
حين كلّم يسوع شاول على طريق دمشق قال له: “أنا يسوع الذّي أنتَ تضطهده”. ما الذي فهمه شاول الفريسيّ في تلك اللحظة؟ لقد فهم أنّ الله يُمَسّ مباشرة بما يحدث للبشر، ينجرح بما يجرحهم. وأجلى أمام بطرس معنى الكتب التي كان يظنّ أنّه يعرفه: إنّ الله يتماهى بالإنسان المتألّم ويؤازر الخاطئ.
فالله هو أوّل ضحيّة لمغامرة الخلق، هذه المغامرة النابعة من محبّته الفائقة، وهو يتحمّل مسؤوليتها. وبما أنّ حنانه مطلق، فهو سهل التعرّض للتجريح ممّا يقتل الإنسان أو يسيء إليه أو يدمّره. إنّه يتألم مع ضحايا الخطيئة، بل يتألّم أكثر منهم لأنّه يحبّهم أكثر ممّا يحبّوا أنفسهم. إنّه يتألم مع مرتكبي الإثم حتى وإن لم يشعروا بالألم من إثمهم، لأنّه يحبهّم أكثر ممّا يحبّوا ذواتهم.
لكنّ ألم الله لا يقلّل من قدرته على المحبّة، بل على العكس، فإنّ قلب المسيح الذّي تطعنه الخطيئة ينفتح فيتدفّق منه الدم والماء، الحياة والمحبّة. هذا ما يعنيه طعن يسوع المصلوب بالحرية (يو19/31-37).
المحبّة تجعل الشخص يتفاجأ. فمن يحب، يرجو كلّ خير ممّن يحبّه. ولا يكمن في قلبه سوء نيّة أو نظرةً سلبيةً تجاه الآخر. وإذا تصرّف الآخر بسلبيّة، إذا ارتكب الشر، يتفاجأ المحب؛ ينجرح قلبه. فالله المحب هو إله معرّض للتجريح. وتعرضّه للتجريح لا يتعارض مع كونه كلّي القدرة، بل يكشف سرّ المحبّة العجيب. فالمحبّة الضعيفة لا ترضى بأن تنجرح. أمّا المحبّة الصافية الصرفة، “تتحمّل كلّ شيء، وتعذر كلّ شيء” (1قو13/7). ومحبّة الله تزيل خطايا العالم (يو1/29). فيقف الحمل المطعون منتصراً على الموت والخطيئة (رؤ 5/6-14) كما وقف القائم من بين الأموات أمام توما (يو20/24-28).
لقد خطّط الله مشروع خلاص دفع هو ثمنه. وتوقّع مسبقاً الشرّ الذي سيصيبه والمحبّة الّتي سينتصر بها عليه. فإذا افترضنا أنّ الله تفاجأ بشرّ الإنسان في بداية الخليقة، فإنّنا نحن أيضاً نتفاجأ بالمحبّة الإلهيّة الّتي تفوق توقّعاتنا وإدراكنا. نتفاجأ بمشروعه المدهش لأجلنا وبدعوته لنا كي نتألّه، كي نصير على صورته، كي نشاركه ألوهته وسعادته وأبديّته.
مشروع الله هو أن نصير آلهة:
إنّ تفكيرنا في مسألة الشرّ ينطلق من مشروع الله كما يصفه الكتاب المقدّس. وما هو هذا المشروع؟ إنّه دعوة كائنات إلى أن يصيروا مثله. أي أنّ الله يريد كائنات قادرة على المشاركة في العلاقة الثالوثيّة. وهذه العلاقة هي علاقة حريّة ومحبّة صرفة. نحن لا نشترك في عهدٍ كهذا بالقوة ولا بطريقةٍ تلقائيّة. فقبول الإنسان لما يعرضه الله قبولاً حرّاً شرط أساسيّ لإقامة هذه العلاقة. نحن نعلم من الخبرة أنّه ما من محبّة صادقة بدون حريّة.
كان الله يستطيع أن يخلق “حيواناتٍ راقية” لديها قدرات تشبه قدراتنا، وأن يبرمجها لتسلك سلوكاً لا خلل فيه بحسب مخططٍ حكيم مدوّن في كيانها. فتكون كائنات بغريزةٍ مضبوطة كغرائز الحيوانات، لكنها لا تتمتع بالحريّة، ولا تتساءل في مسألة الخير والشّر، وبالتالي، لن تفعل الفظائع التّي نحن قادرون على فعلها، ولن تفتش على طرائق تأنسها. إلاّ أنّ كائنات كهذه لن تتألّه كما يريد الله. وستكون فائقة التنظيم، لكنّها ستظلّ كما هي أبداً دائماً. فالنمو هو قدرة على التغيير، والتغيير يتطلّب حريّة. والحريّة تعني القدرة على رفض النمو أو قبوله، فعل الشرّ أو الامتناع عنه. إنّها كما يقول القديّس أوغسطينوس “القدرة على التألّه”.
لقد خلق الله متألهّين على صورته كمثاله (تك1/26-27) ودعاهم إلى أن يكونوا قدّيسين مثله (1ح19/2) كاملين مثله (متّى5/48) رحماء مثله (لو6/36) وهو يريد أن يهبهم الحياة الأبديّة (يو17/2-3) في مسكن الأب (يو14/2-3).
ولأنّ الإنسان قادر على الألوهة capax Dei، لم يُخلَق كاملاً. وكماله في الله يتمّ في علاقة محبّة ويتطلّب تعاونه الحر،
لقد خلق الله الإنسان على مرحلتين:
أولاً في ظروفٍ مؤقتة من عدم الكمال والتوق إلى المطلق، أي إلى الله. في أثناء هذه المرحلة -وهي حياتنا الأرضية- هناك تعاون دائم وسرّيّ بين الله وقلب كلّ واحد كي ينجح المشروع. فروح الله ينضمّ إلى أرواحنا (روم8/16) لينيرنا ويغيرّنا. ويُضاف إلى هذا العمل الخفيّ تدخّل مرئيّ لله في تاريخ شعبه. ويبلغ هذا التدخّل ذروته في التجسّد والسّر الفصحيّ. إنّه الرباط الأصليّ الذيّ يوحّدنا به (را. قور1/15-20) والّذي أصبح جزءاً من تاريخنا وينيرنا إلى الأبد.
كلّ هذا مدعوّ إلى أن يبلغ تمامه في الفترة الثانية، وهي الفترة النهائية، فيها يكون الله كلاًّ في الكل (1قو15/28). فصورة الله أُعطيت لنا منذ ولادتنا، لكنّها أعطيت كرسمٍ تخطيطيّ (كروكي). وتشابهنا معه يتحقّق من خلال مسار تألّه. فالتشبّه بالله هو أولاً هبة من الله وثانياً استجابة من الإنسان.
إنّ الفارق الشديد بين حالتنا في البداية – حالة غير مكتملة – ودعوتنا إلى أن نصير مثل الله يخلق مسافةً تكون فيها الخطيئة ممكنة. فالإنسان غير المكتمل هشّ. ويبدو أنّ احتمال ظهور الشرّ مسجّل في البنية الأدبيّة للخليقة. وبما أنّ الإنسان هش، فإنّ رفضه للنظام ليس مجرّد ثورة ثانويّة سطحيّة سببها فساد الخطيئة البشرية، بل على العكس، يظهر هذا الرفض وكأنّه أمر لازم لخليقة هشة وضعيفة في جوهرها. ففي المساحة التي ترعى فيها الخطيئة، تفيض النعمة أيضاً (روم5/20).
حين نجعل أنفسنا في منظار مخطّط الله، لا يُبَرّر الشرّ الذي نرتكبه بل يمكننا أن ندركه بطريقة واضحة انطلاقاً من إيماننا. فهو لم يعد لغزاً غامضاً، لأننا بدأنا نفهمه بنور الوحي الإلهيّ.
ويندرج في هذا المنظار أيضاً الشرّ الّذي يصدر من الطبيعة. فالعالم أيضاً خليقة لم تكتمل بعد. أي أنّه لا يعمل تلقائياً لصالحنا. فقد سلّمنا الله إيّاه كي نحوّله إلى مكان إقامة هانئ آمن بتعلّمنا ماهيّة الطبيعة وسيطرتنا عليها وتوقّع أخطارها، ومعالجة أمراضها. وبفعلنا هذا، نستثمر طاقاتنا في صراعٍ يبني العالم ويبنينا: إنّه جهد جماعيّ تتقدّم الإنسانية بفضله تدريجيّاً نحو كمالها.
إنّ الصراع من أجل أنسنة العالم يجب أن يرافقه صراع ضدّ الخطيئة. فنحن لن ننجح إلاّ معاً. هذا يعني أنّه علينا تخطّي أنانيّاتنا وكبريائنا كي نقيم بيننا، على مستوى الكرة الأرضيّة، روابط تعاون وعدالة ومحبّة.