غاية التعليم المسيحي
التعليم المسيحيّ واجب الكنيسة وحقّها
التعليم المسيحيّ واجب الكنيسة وحقّها
التعليم المسيحي
الأب مراد مجلع
المربين ومسؤولي التعليم الديني
إنّ خدمة التعليم المسيحيّ هي أهم وأول خدمات الكنيسة الأساسيّة، بدونها لا يستطيع المؤمن أن يعيش مسيحيّته عيشًا مستنيرًا. لذا أولتها الكنيسة اهتمامًا خاصًّا منذ نشأتها فأقامت جماعة الموعوظين للراغبين في الانضمام إليها حيث يتعلّمون حقائق الإيمان المسيحيّ، ويمارسونه في الحياة.
التعليم المسيحيّ واجب الكنيسة وحقّها
وّضحَ البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي Catechesi Tradendae “في واجب تلقين التعليم المسيحي في عصرنا” الصادر عام 1979 إن واجب الكنيسة الأول هو التعليم المسيحي لا يمكنها أن تتخلّى عنه لأنه ناشئ من وصية الرب “إذهبُوا وتلمذوا جميع الأمَم وعمِّدوهُم (…) وعلِّموهم أن يعملُوا بكلِّ ما أَوصيتكم به” (متى 28/19). فالتعليم المسيحي يجعل منها جماعة مؤمنين: “والكنيسة مدعوّة إلى تكريس خير ما عندها من قوى، بشرًا وإمكانات، للتّعليم المسيحيّ غير مدّخرة وسعًا ولا جهدًا ولا طاقات ماديّة بغية تنظيمه وتهيئة أناس أكفّاء يتولّون تلقينه. وليس هذا حسابًا بشريًا، لكنه موقف إيمان” (بند 15). كما إنه حقٌ، لأنه إذا نظرنا إليه نظرة لاهوتيّة تبيّن لنا أن لكل معمّد، بحكم عماده، الحق في ثقافة وتربية تساعدانه على بلوغ حياة مسيحيّة حقّيقية. حقٌ ثابتٌ كغيره من الحقوق، بل يأتي في مقدمتها يُتيح للشخص في تعميق إيمانه وبناء معتقداته وممارستها.
أما موضوع التعليم المسيحي الأساسيّ والأولّ فهو “سرّ المسيح“وحمل الناس على تفحّص هذا السرّ من جميع وجوهه. وهذا معناه الكشف في شخص المسيح عن قصد الله الشامل الأزليّ الذي تمّ فيه وتفهّم ممارسات المسيح وكلامه والإشارات التي قام بها بما أنها تحتوي على سرّه وتظهره. إن موضوع التعليم المسيحي إذن هو المسيح، الكلمة المتأنّس، وابن الله الذي يقوم بمهمة التعليم، فهو وحده من يُعّلِّم، وكل القائمين بعملية التعليم إنّما يُعَلِّم بقدر ما يكون ناطقًا باسمه ومترجمًا له، وبقدر ما يتكلّم المسيح بفمه ولسانه.
كل معلّم للتعليم المسيحيّ، أيًّا كانت وظيفته في الكنيسة لا بدّ له من أن يسعى جاهدًا لكي ينقل بحياته أولًا، وبطريقة تعليمه، المسيح وحياته. ويجب أن ينطبق على كلّ من علّم التعليم المسيحيّ كلام القديس بولس: “فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم” (1 كورنثوس 11: 23). فمعلم التعليم المسيحي عليه واجب كبير عندما يرغب في تعليم الآخرين، فعليه أولًا أن تدعيم علاقة روحية خاصة مع المسيح وأبيه، وعليه أن يواظب على الصلاة وأن يتجرّد عن ذاته ليمكنه أن يقول: “ليس تعليمي من عندي”.
إن المسيح هو المعلم الأوحد الذي علمَّ فلم ينكر الصدّوقيين أنفسهم ومعلّمي الشريعة واليهود على وجه الإجمال هذا الاسم فقالوا له: “يا معلّم، نريد منك أن تُرينا آية” (متى 12: 38)، “يا معلّم، ماذا أصنع لأرث الحياة الأبديّة” (لوقا 10: 25)؟ وفضلًا عن ذلك إن يسوع المسيح عينه سمّى نفسه معلّمًا على الأخصّ في بعض مناسبات احتفالية لها مدلول خاص فقال: “أنتم تدعوني “معلّمًا” و”ربًّا”، وحسنًا تقولون، لأني ما تقولون” (يوحنا 13: 13). أن عظمة المسيح المعلّم وتماسك عقيدته وما فيها من قوّة إقناع ناشئ عن استحالة الفصل بين كلامه وأمثاله ومجادلاته وبين حياته وشخصه. فمن نظر إلى هذه المسألة هذه النظرة، ظهرت له حياة المسيح بمجملها وكأنها تعليم متواصل: سكوته، عجائبه، صلاته، حبه للناس، عطفه على المتألمين والفقراء، ارتضاؤه التامّ ذبيحة الصليب افتداءً للناس وأخيرًا قيامته، كل هذا إنّما هو تجسيد لكلامه وإتمام للنبؤات. ولهذا فإنّ معلمّي التعليم المسيحيّ، إذا انضموا إليه واتحدوا به اتّحادًا وثيقًا، وجدوا لديه النور ونهلوا منه القوّة ليعملوا على تجديد التعليم المسيحيّ تجديدًا أصيلًا.
يظن البعض بأن مهمة التعليم المسيحي هي في “تلقين” الإيمان المسيحي للنشء والأجيال الجديدة بصورة “معرفية”، بمعنى أن يعرف الطفل والشاب إيمانه وعقيدته ومتطلبات هذا الإيمان. إلا إن مهمة التعليم المسيحي الأساسية هي أن “يعرف” الإنسان أنّ الله محبة، ويدعوه في ذات الوقت لعيش الحب في واقعه اليومي. هذا الحبّ يدعو الإنسان إلى حياة وسيرة إيمانية وروحية يعبّر عنها بالالتزام والحسّ الاجتماعي، أي ممارسة أعمال الإيمان وأفعاله: الخدمة والرحمة والمسامحة والتضامن.
يتحدّث البابا فرنسيس في الفصل الرابع من إرشاد الرسوليّ “فرح الإنجيل” على إن إعلان البشرى بالإنجيل يتلخص في “جَعلَ ملكوت الله حاضرًا في العالم”. إنّ مضمون الإنجيل، يحتّم على الكنيسة والمؤمنين، بأن يتفاعلوا مع تعاليم يسوع وتوجيهاته، من أجل الإنسان، كلّ إنسان لا سيّما الفقير والمريض والسجين والمعذّب. في الفقرة 259 يقول البابا: “يريد يسوع مبشرين بالإنجيل يعلنون البشرى الحسنة ليس بالأقوال فقط، بل بالأخص بحياتهم وقد حوّلها حضور الله”. بالأخص بحياتهم، لا يقول بالأخص بأعمالهم لأن الحياة أوسع من الأعمال وإن شملت الأعمال. و في الفقرة 128 يذكر البابا ما سماه “بالوعظ اللاشكلي” الممكن تحقيقه أثناء محادثة، في زيارة، في الشارع، في العمل، في الطريق … في كل مكان و في كل مناسبة. يستخدم البابا تعبير “الخميرة” في الفقرة 114” كنيسة تكون خميرة الله وسط البشرية”.
إنّ الملكوت السماويّ الذي حققّه السيّد المسيح من أجل الإنسان، يتجسّد بالمحبّة والمصالحة والتوبة، لا سيّما بالتعاون والتضامن الإنسانيّ، الذي يُسهم في مسيرة ملكوت الله. يطلب الإنجيل من الكنيسة العمل بطريقة فاعلة وجديّة، في سبيل إنماء القيم الإنسانيّة لا سيّما مبادئ الأخوّة والعدالة والسلام، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تعليم مسيحيًا يمزجّ التعليم النظري للإيمان بالمعايشة الحقيقية للنشء الجديد فيعتمد ممارسة يسوع العملية تجاه الإنسان وليس تعاليمه وكلامه فقط. يحثّ المسيح والإنجيل المؤمنين في هذا الزمن، إلى تجسيد أعمال وأفعال المحبّة من خلال هؤلاء إخوته الصغار “وكلّ ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه” (متى 25: 40). إنّ العمل الرعويّ عمومًا والتعليم المسيحي خاصة، يطال أيضًا تلك “الحالات”، التي عمل المسيح من أجلها وذلك من خلال الأعاجيب (إطعام الجياع، وشفاء المرضى، وقيامة الأموات).
إن العمل الاجتماعي الذي يحمل مضمون الإنجيل، ينطلق من الإنجيل ويهدف إلى الارتقاء بالإنسان في واقعه اليومي. لذا على الكنيسة أن تستكشف أوضاع المؤمنين لديها، عليها القيام “بتمييز إنجيلي” لعلامات الأزمنة للتعرف على التحديات التي تواجه التعليم المسيحي وأن تطرح مقترحات متجددة من حيث المضمون والشكل والتعبير والأداء بوضع خارطة متجدّدة وآليات بسيطة لإعلان الإنجيل والتبشير به، الحامل الفرح والرجاء.
إن التبشير بالإنجيل يتعدى إذن مرحلة التثقيف الذي يسعى فيها المسيحي لتقبل السيّد المسيح
والاعتراف به ربًّا أوحد وعزمه على اتّباعه عزمًا صادقًا صادرًا عن قلب اهتدى بإخلاص، وتعميق معرفته بيسوع هذا الذي استسلم له: أي معرفة “سرّه” وملكوت الله الذي يعلن عنه من خلال حياته وشهادته وسط العالم. أن يكون الإنسان مسيحيًا معناه التسليم للمسيح، ويتمّ التسليم هذا على صعيدين وهما: لا الاستسلام لكلمة الله والاتكال عليها وحسب، بل السعي أيضًا كل يوم إلى الغوص على ما في هذه الكلمة من معانٍ سامية وذلك بالشهادة والحياة وفقا لكلمة الله.
متطلبات التعليم المسيحي الصحيح
ولما كانت الصعوبات تنشأ عادة لدى الممارسة فتحسن الإشارة إلى بعض من الخصائص التي تميّز التعليم الصحيح على الإيمان والتي يمكن إجمالها في النقاط التالية:-
يجب أن يكون تعليمًا منتظمًا مستندًا إلى منهج موضوع مسبقًا، فلا يكون مرتجلًا، بل يلقى وفقًا لنظام محدّد يمكن معه بلوغ الغاية المبتغاة. منهجًا لا يعتمد فقط على التعليم (مثل اجتماعات) ولكنه يهيئ ويساعد الإنسان على تطبيق ما يتعلمه من خلال الاختبارات الشخصية والدورات التدريبية والنقاش. لذا يجب أن تُصمم برامج للمجموعات الصغيرة (من 2 إلى 15 فرد) فتعتمد على التدريب والتفاعل والنقاش والاكتشاف والمشاركة والتطبيقات المحتملة. المعيار الأساسي هي ممارسة يسوع الذي لم يكتفي بتعليم تلاميذه بل قام بتدريبهم على طاعة تعاليمه ومُمارسة ما تعلموه. فقد كان ينبغي عليهم أن يتعلموا تطبيق تعاليمه بطريقة عملية بأن يذهبوا إلى الأخرين لتوصيل البشارة لهم، وإبراء المرضى، ومشاركة ما أخذوه مجانًا مع غيرهم (متى 10: 5-8).
أن يعالج الأمور الهامّة والضرورية دون أن يتعرّض لجميع القضايا المختلف عليها ودون أن يصبح بحثًا لاهوتيًا أو شرحًا علميًا. برنامجًا تدريبيًا يهدف إلى تعليم النشئ أمور العبادة والتسبيح والصلاة والتأمل والحفظ ودراسة الكتاب المقدس. يراعى في البرامج المتابعة الشخصية لقادة التعليم للنشء خاصة في الجوانب التالية: التطبيق الشخصي للحقائق الروحية والإيمانية، وتغيير الشخصية والعادات، مثل علاقة المسيح ببطرس كفرد ضمن مجموعة الاثني عشر (يوحنا 1: 42؛ متى 16: 18)، أو علاقة بولس بتيموثاوس (فيلبي 2: 19- 23؛ 2 تيموثاوس 3: 10- 11). يتم الاهتمام بكل شخص من المجموعة لتدريبه وإظهار القدوة الحسنة له، لذا يجب الحرص في اختيار القادة بحيث يكونوا شهودًا وقدوة حسنة يتعلم منها الأخرين. في إرشاده الرسولي “فرح الإنجيل” يقول البابا فرنسيس (بند 150): “يفضّل الناس الاصغاء الى شهود: انهم متعطشون إلى الأصالة. (…) يطالب العالم بمبشرين بالإنجيل يحدثونه عن إله يعرفونه و يترددون عليه”. “واَجتَمَعَ الرُّسُلُ عِندَ يَسوعَ، وأخبروهُ بِكُلِّ ما عَمِلوا وعَلَّموا. (…) فقالَ لهُم يَسوعُ: «تعالَوا أنتُم وحدَكُم إلى مكانٍ مُقفِرٍ واَستَريحوا قليلًا” (مرقس 6: 30- 31).
أن يكون وافيًا بحيث يكون تعريفًا كاملًا بالدين المسيحيّ يشمل جميع عناصر الحياة المسيحية وفي ذات الوقت أختبارًا حياتيًا. إنّ الدين المسيحي يشمل كلا الأمرين ويربط بينهما برباط وثيق، فلا جدوى من عدم الاهتمام الكافي بدراسة سر رسالة المسيح درسًا عميقًا منظمًا والتركيز فقط على الاختبار الحياتي. ومن الثابت أنه ما من أحد يمكنه أن يبلغ الحقيقة التامة بالاستناد إلى مجرّد اختبار بسيط خاص، أي دون شرح وافٍ لرسالة المسيح الذي هو “الطريق والحقّ والحياة” (يو 14: 6)، كما إنه لا سبيل إلى فصل الوحي عن الحياة. لهذا يمكننا أن نطبّق على معلمّي التّعليم المسيحيّ هذه العبارة المثقلة بالمعاني التي أوردها المجمع الفاتيكاني في معرض كلامه، على وجه الخصوص، عن التّعليم المسيحيّ الذي يلقيه الكهنة بقوله عنهم: “ليكونوا مربّي الإنسان والحياة الإنسانيّة… في الإيمان” (قرار في خدمة الكهنة وحياتهم “درجة الكهنوت”، عدد 6).
أن ينهل التعليم المسيحي مادّته ومحتواه من الينبوع الحي، ينبوع كلمة الله. فكلمة الله هي حية ونافعة لكل جيل من البشر وفقا لظروف ومقتضايات عصره وثقافته. حدث يسوع التاريخي يتطلب فهم مُعاصر. فهم معاصر لحدث يسوع يكون على نفس مستوى عظمة خبرة الكنيسة المتوارثة عن طريق التقليد، لأن كلاهما يرتكز على فهم رمزية الحقائق الإيمانية وحدث يسوع وتطبيقه في الواقع التاريخي للكنيسة. حدث يسوع إذن هو “الحدث المعياري” للعمل الرعوي كَّكل في كل زمانٍ. ما يفكر فيه المسيحيون، ويؤمنون به، ويريدونه، ويتناقلونه ويقصدون توضيحه في جماعاتهم لا يُمكن أن يكون سوى حدث يسوع. ومهمة اللاهوت الرعوي بصفة عامة، والتعليم المسيحي بصفة خاصة، هي النظر في هذا الحدث الدائم وتفسيره لجعله “المعيار” لكافة ممارسات الكنيسة وخططها الرعوية وللأهداف التي تسعى إلى تحقيقها في زمنها التاريخي. بهذه الطريقة تتحول ممارسة المسيحيين، مقارنة بممارسة يسوع، إلى موضع لاهوتي رئيسي للتعليم المسيحي.
يجب أن يضمن التعليم المسيحي سلامة المحتوى الإيماني كاملًا، فلا يقبل المُتعلم “كلام الإيمان” مبتورًا، مشوهًا، منقوصًا، بل كاملًا، سليمًا بكل ما فيه من دقة وقوة. “الانتقاص، من بعض الوجوه، من سلامة الرسالة، معناه تفريغ التّعليم المسيحيّ عينه من مضمونه تفريغًا خطرًا يؤدّي إلى المجازفة بالثمار التي من حقّ السيّد المسيح والجماعة الكنسيّة أن ينتظراها منه. وليس من باب الصدفة ولا شك، أن ترتدي وصيّة المسيح الأخيرة في إنجيل متى طابع الشّمول، وقد جاء فيها قوله: “أعطيت كل سلطان… علّموا جميع الأمم… علّموهم أن يحفظوا جميع…. وسأكون معكم جميع الأيام… وأي تعليم مسيحيّ يكون ذاك الذي لا يحتلّ فيه المكان اللائق خلقُ الإنسان وخطيئته، وعزم الله على الفداء والإعداد الطويل له بمحبّة، وتحقيقه، وتجسّد ابن الله، والبتول مريم البريئة من الخطيئة أم الله الدائمة البتولية التي صعدت بالجسد والنفس إلى المجد السماويّ ودورها في سرّ الخلاص، وسرّ الإثم الذي يعمل في حياتنا (79)، وقوّة الله التي حرّرتنا منه، والحاجة إلى التوبة وممارسة التقشّف والأسرار والرتب الطقسيّة، وحقيقة الوجود القرباني، والمشاركة في الحياة الإلهيّة على هذه الأرض وبعد الموت وما شابه؟ وما من معلّم للتّعليم المسيحيّ جدير بهذا الاسم يجوز له، بالاستناد إلى رأيه الخاصّ أن ينتقي من وديعة الإيمان ما يحسبه مهمًا وغير مهمّ فيعلّم ذاك ويهمل هذا” (بند 30).
مُتّلقي التعليم المسيحي
كيف السبيل إلى الإعلان عن المسيح يسوع، الإله المتأنّس، للأولاد والشبّان. معرفة لا تلبيّة لنزوة جانحة ناجمة عن أول لقاء عابر، بل عن طريق معرفة تتعمّق يومًا بعد يوم وتنير شخص المسيح ورسالة الله وقصده الذي أعلن عنه والنداء الذي يوجّهه إلى كل من الناس وتنير أخيرًا ملكوته الذي شاء أن يقيمه في هذا العالم لدى “القطيع الصغير” من المؤمنين والذي لن يتمّ إلاّ في الأبدية؟
الأطفال
يتلقّى الطفل من والديه ومحيطه العائلي أولى مبادئ التّعليم المسيحيّ التي قد لا تكون سوى انفتاح بسيط على الآب السماوي الصالح العطوف الذي يتعلّم الطفل أن يوجّه إليه قلبه. وإن الصلوات القصيرة التي يتمتمها تشكّل بدء حوار ودّي مع الله المحجوب الذي يتعّود فيما بعد سماع كلامه. ولا يسعنا إلا أن نلحّ على الوالدين لكي يعلموا باكرًا أولادهم التعليم المسيحيّ، وهذا يتطلب الأهتمام بتشئة الوالدين تنشئة مسيحية متكاملة تسمح لهم بتقلين أطفالهم مبادئ الإيمان المسيحي. إن برامج لإعداد المتزوجين حديثًا لطرق التربية السليمة والتنشئة الإيمانية الواجبة لأطفالهم هي ضرورة رعوية أساسية للكنيسة حاليًا.
الأولاد
يتدخل التعليم المسيحي بطريقة منتظمة مرتبّة في حياة الأولاد لتأهليهم للاحتفال بالأسرار استعدادًا للتناول. يجب أن يكون التعليم أوليًا، ولكن غير مجزّأ، يفتح جميع أسرار الإيمان المهمة ويبيّن أثرها على حياة الأولاد الأخلاقية والدينية. هنا تظهر أهمية دفع الأولاد إلى الاكتشاف والنقاش للحقائق الإيمانية والتطبيق العملي لأسرار الإيمان. عيش الأسرار يُعطى الأولاد زخمًا حيويًا يحول دون بقائه عقيدة نظرية وحسب ويحمل إلى الولد هذا الفرح الذي يُصبح معه شاهدًا للمسيح في محيط حياته.
المراهقون
يأتي سنّ البلوغ والمراهقة وما تجرّه معها من قضايا كبيرة وشائكة. وهو الزمن الذي يكتشف فيه الإنسان نفسه وعالمه الداخلي ويأخذ فيه المقاصد الكبرى السخية وتظهر مشاعر الحب ونزوات الجنس الطبيعية. إنه زمن التحولات الذي يكتشف فيه المراهق بالرغبة في اكتشاف الحياة والانفتاح على العلاقات الاجتماعية. هو سنّ التساؤلات الدقيقة وسنّ الحذر والانكفاء الخطر على الذات، سنّ الاخفاقات الأولى أحيانًا والخيبات المرّة. ولا يمكن التعليم المسيحيّ أن يهمل هذه الحالات السريعة التقلّب في هذه الفترة الصعبة من العمر. وباستطاعة التعليم المسيحيّ أيضًا أن يقوم بدور حاسم يقود المراهق إلى إعادة النظر في حياته الخاصة وإقامة حوار لا يتجاهل الأسئلة الخطيرة التي يطرحها على نفسه وهي: بذل الذات، الثقة، الحب والجنس، وإظهار يسوع المسيح صديقًا وهاديًا للطريق والكشف عن رسالته التي تعطي جوابًا عن هذه التساؤلات الأساسية.
لذا يجب أن تشجع برامج التعليم المسيحي تشكيل المجموعات الصغيرة التي تُيح تلبية احتياجات الفرد إلى الاهتمام، المشاركة، الرعاية، التلمذة، التدريب. ففي المجموعات الصغيرة كل فرد يعبر عن نفسه، يشعر بكيانه، يتكلم عن نفسه وعن مواهبة ومشكلاته وعلاقاته الاجتماعية ويمكنه أن يقوم بخدمات مختلفة حتى يكتشف مواهبه. هنا تظهر ضرورة تحلي القائد بالكفاءة التي تسمح له أن يقود المجموعة من خلال القدوة (أن يفعل ما يقوله، وما يطلبه من المجموعة)، فعيون المجموعة تصدق أفعال القائد أكثر من كلامه، ومن خلال الخدمة (فالمجموعة تشعر بمحبته لهم عندما يخدمهم، فالخدمة العملية للناس هي أصدق تعبير خارجي عن محبته لهم). لديه رؤية واضحة وكفاءة تسمح له بفهم التحولات الكبيرة في نفوس المراهقين والتعامل معها ومرافقتهم لعبور هذه المرحلة الصعبة فلا يُقلل من شأن التحولات ويحترم مبدأ خصوصية أفراد مجموعته.
الشباب
سنّ الشباب، زمن القرارات المهمّة التي يبحث فيها الشاب عن مصيره ويعتمد على نفسه في الحياة. فيهذه السنّ يشتدّ الصراع في داخله بين الخير والشرّ، النعمة والخطيئة، الحياة والموت كمبادئ حياتية أساسية عليه أن يقبلها أو يرفضها عن وعي تامّ وشعور بالمسؤولية. يتخذ التعليم المسيحيّ هنا أهمية كبرى، لأنه الزمن الذي يتيسر فيه عرض الإنجيل وتفهّمه واقتباله بحيث يعطي الحياة معناها ويلهم من المشاعر والمواقف ما يستحيل بدونه شرحه من مثل: بذل الذات والتجرّد والحلم والعدالة والالتزام والمصالحة ومعنى المطلق وغير المنظور وما شابه. وهذه كلّها خصائص تتيح لهذا الشاب أن يتميّز عن أقرانه بوصفه تلميذ يسوع المسيح.
إن برامج التعليم المسيحي للشباب تتطلب أن تُعاد تشكيل هوية الشاب حول يسوع المسيح وتكسبه هوية تمتاز بالثبات أمام عالم سريع التغير في بيئة اجتماعية وثقافية متغيرة ومتبدلة دومًا تترك بصماتها عليه وتفرض عليه أن يتكيف معها بقوة. هوية قادرة على تُعطى أسبابًا للإيمان بالحياة للذين يبحثون عنها بانتظار قّلِق. عندما يتم الحديث مع شباب عن الله “كأب” وهم غارقون في صعوبات جّمة يتطلب الأمر اختراق الهيكل العميق والحميم جدًا لوجود هؤلاء الشباب واقتراح أسباب للحياة وللأمل لهم، بالرغم من الصعوبات التي يمروّن بها.
الأمر يتطلب إلى اعتناق منهجًا جديدًا للتبشير يعتمد على أن تُراجع الكنيسة تَجربتها وكفاءتها في التبشير بقصد تحسين أسلوبها واستراتيجياتها المتبعة. يعتمد المنهج الجديد على أن تبشر الكنيسة تبشيرًا يُعطي الحياة.
بعض طرق ووسائل للتعليم المسيحي
كتب التعليم المسيحي
من أبرز علامات تجديد التعليم المسيحيّ كتب هذا التعليم. غير أنه لا بدّ لنا في الوقت عينه من الاعتراف ببساطة وتواضع بأنّ تأليف بعض هذه الكتب مضرّة بالمتعلمين وحتى بحياة الكنيسة. ففي محاولة البعض البحث عن طرق جديدة من حيث الأساليب التربوية المُشوقة للمتعلمين أعارت بعض المسائل أهميّة كبرى على حساب سواها. لذلك لا يكفي الإكثار من كتب التّعليم المسيحيّ، لكن لابدّ، لكي تنسجم هذه الكتب وغايتها الخاصة، من عدة شروط وهي:
أن ترتبط بواقع حياة من توجّه إليهم، فتستهدي ما يساورهم من قلق وما يواجهونه من تساؤلات وأن تمنحهم الأمل وسعادة العيش.
أن تحرص على استعمال لغة يفهمها أناس هذا العصر.
أن تعتمد على “تعليم الكنيسة الكاثوليكية” في إعلان بشارة المسيح وكنيسته بكاملها دون أن تسقط منها شيئًا ولا أن تشوّه شيئًا، وأن تعرضها تامة وفقًا لطريقة أو صيغة تبرز المسائل الجوهرية.
عدم الانسياق، إلى خلط التعليم المسيحي، بالقضايا العقائدية، ظاهرة كانت أم مستترة، فيحتل الجدل العقائدي البشارة الأساسية التي يجب نقلها وينحدر إلى المرتبة الثانية تعليم الكنيسة الواجب معرفته. هناك ضرورة إبقاء التّعليم المسيحيّ في مقامه الرفيع بحيث يتسامى على الآراء المتضاربة والتفاسير اللاهوتية المختلفة. إن هدف التعليم هو جَعلَ ملكوت الله حاضرًا وتغيير الناس والكون تغييرًا عميقًا بإنجيل الربّ يسوع.
وسائل التعليم المسيحي
إن ما يحتاجه معلم التعليم المسيحي هو أن يقدم (ببساطة القلب) رسالة البشرى والكلمة مستخدمًا ما يتوفر لديه من الوسائل وما يتقنه من منهجيات. إن الشرط الأساسي هو ألا نحترف استخدام المنهجيات الناشطة والوسائل السمعبصرية وننسى أننا في لقاء مع شخص المسيح الحي، وأن كل الوسائل والمنهجيات عليها أن تساعدنا لنصل إلى المسيح الذي يخاطب قلوبنا وعقولنا وكياننا كله. لنصبح ملكًا له وأبناءه بحق.
إلا إن الاستخدام لتلك الوسائل سيصطدم بعدم اعتبار التعليم المسيحي حتى الآن، أولوية في مهام الكنيسة -السلطة اللّهم إلا نظريًا!
اسئلة لمناقشات ورش العمل:
الورشة الأولى:
الورشة الثانية: