سرّ التـوبـة
مفهومه مفاعيله، عناصره
مفهومه مفاعيله، عناصره
مواضيع في التعليم المسيحي
ري مرميه: “تعالوا إلى المصالحة”. الاعتراف اليوم؟، منشورات سنتريون، باريس. طبعة سادسة، 1975
للجميع
هي باطنية تُعاش في الداخل هي ارتداد القلب. هي إعادة توجيه جذرية من الداخل لكل حياتنا. هي انسحاق القلب، هي عمليّة روحية داخليّة، عاشها المسيحيون الأولون بدموع وقلب منسحق. مسيحياً هي ارتداد إلى دينامية المحبّة، إلى أصالة الذات، إلى الله الحيّ. التوبة يعني الإنسان دخل إلى ذاته شعر بخطيئته. وندم عليها كفّر عنها وأراد الابتعاد عن كل المظالم والرجوع الى صوت الحق والضمير، أراد أن يبقى الله حياً فيه. لا يريد أن يموت الله فيه. التوبة هي اشتراك في فصح المسيح، المسيح مات على الصليب من أجل خطايانا، بموتي عن الخطيئة أبذل نفسي عن الله والآخرين. الله صالحنا بالمسيح وصالح العالم مع نفسه. كان هذا حدث الفصح: موت المسيح وقيامته. الإنسان التائب يشترك في فصح المسيح الخلاصي. تنعتق طبيعته البشريّة من ضعفها ليأخذ طبيعة الله وطبيعة الحياة. الخطيئة تُدخل الإنسان إلى الموت، المسيح بالتوبة يُدخل الإنسان إلى حالة القيامة والحياة.
انطلاقاً من هذا المفهوم الروحي للتوبة كان يُعّرف الآباء الروحيّون عن ثلاثة أشكال للتوبة. الصوم، الصلاة، الصدقة وهي كلها تعبير عن الارتداد الداخلي. ولقد ارتدت هذه الأشكال الثلاثة أنواعاً متعددة من الممارسات للتعبير عن التغيير الجذري في حياة الشخص. كانت تتنوع الأعمال التكفيريّة للدلالة على التوبة، كان يبذل الإنسان جهداً عند عيش التوبة، دموع لخلاص نفسه واهتمام بالآخرين وممارسة أعمال المحبة. وكانت التوبة تُعاش يومياً بأفعال مصالحة اهتمام بالمعوزين، تأديب ومحاسبة للذات، طلب إرشاد من الآخرين، تحمّل الأوجاع والاضطهادات، حمل الصليب كل يوم، المشاركة في سرّ القربان. هذه أعمال صوم وصلاة وصدقة ترد إلى التوبة.
أمّا في حياتنا التقويّة وبالأخص الليتورجيّة فإن التوبة بارزة بشكل ملحوظ وملموس:
ففي حياتنا المسيحية أوقات للتوبة على مدار السنة الليتورجية، في زمن الصوم، كل يوم جمعة تذكار موت المسيح، كانوا يكثفون ممارسة التوبة والرياضات الروحية، ساعات من النهار مكرّسة للتوبة، مسيرة الحج، مشاركة في أعمال الخير والرسالة. التوبة مجبولة في حياة الإنسان المسيحي وفي تاريخنا الكنسي.
قال يسوع المسيح أجمل وصف لحركة الارتداد والتوبة في مثل الابن الشاطر. عاش في البؤس وبدد ثروته وانخزى في العمق، تأمل في الخيرات التي فقدها فعاش التوبة وقرر الرجوع إلى أبيه. عرف أنه مذنب وأنه لا يستحق العودة. لكن الأب الرحيم بمحبته وسخائه رد لابنه البنوة. هذه كانت عظمة الأب الرحيم، سرّ التوبة، عندما أكتشف بسبب خطيئتي أبوّة الله، يحضر الله ويحضنني.
كم لي من الخطايا وكم لك من المراحم يا رب، لو وزنتها رحمتك أكبر من جبال خطاياي. رحمة الربّ ليست لنطمع بها، بل لنعرف أن المحبّة أقوى من الموت. الربّ يخلقنا إنساناً جديداً إن عدنا عن خطايانا. مرتدون كثر اكتشفوا عظمة الله، حيث كثرت الخطيئة تكثر النعمة. التوبة هي طريق لذاتنا لنكتشف ضعفنا، والحرية الزائفة التي عشناها وفي نفس الوقت هي طريق خير وفرح لأن الربّ يفيض علينا مراحمه. إذا كان الكاهن يغفر الخطايا فلأن الله أعطاه السلطان، هي قدرة من الله، ليس الكاهن بشخصه يغفر بل باسم الربّ. وحده الله يغفر الخطايا، ويجعل الإنسان يتغلّب على ضعفه لأن محبّة الربّ أكبر بكثير من خطيئة الإنسان.
علينا أن نحب المصالحة والغفران والتوبة، وإلا نعتبره موجوداً لكشف بؤسنا، إنّه سرّ محبّة، علينا أن نحبّ هذا السرّ هو سرّ إنقاذ الإنسان فعلياً، ليس المؤسف أن نخطئ بل أن نبقى في الخطيئة. المسيح احبنا على خشبة الصليب خشبة العار، حوّلها إلى خشبة خلاص. والكنيسة تُعطينا خشبة منبر التوبة، لنحبها لأنها تُذكّرنا بخشبة الصليب بنعمة الربّ الدائمة في حياتنا، بسرّ سخاء الربّ الذي لا يتوانى عن العمل من أجلنا وعن التضحية في سبيلنا.
سنتوقف على ثلاث حقبات:
أ) المرحلة الأولى، مع الرسل حتى القرن السادس: استناداً إلى وصيّة المسيح الذي قال للرسل خذوا الروح القدس، مَن غفرتُم خطاياه غُفِرتْ له. (لوقا 24): سيكرز بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم انطلاقاً من أورشليم وأنتم شهود لذلك. لذا بشّر الرسل بالتوبة، منحوا مغفرة الخطايا من خلال المعموديّة. (اعمال 2): يقول بطرس توبوا وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم فتنالوا موهبة الروح القدس. بقي الأمر هكذا حتى أواسط القرن الثاني.
ونقرأ في كتاب الراعي لهرماس عن الذين خطئوا بعد المعموديّة كان لهم سبيل بالتوبة والتي كانت مثل المعموديّة لا تُمنَح إلاّ مرّة واحدة. وبقيت الكنيسة بهذا التقليد (مرّة واحدة مغفرة الخطايا) حتى القرن السادس. وكانت توجد لوائح عديدة من الخطايا تختلف من كنيسة إلى أخرى، لكن تنحصر تقريباً بثلاث: الجحود، القتل، والخيانة الزوجيّة. وكان في هذه الفترة الأسقف وحده يمنح المغفرة. لكن مع تكاثر عدد الجماعات المسيحيّة أوكل الأسقف هذه المهمة لأحد الكهنة. ونرى في القرن الرابع كاهن واحد فقط مختص بمنح سرّ التوبة.
وهذه هي التوبة التي عُرفت بالتوبة القانونية. طريقة ممارستها كانت تتضمن ثلاث مراحل:
ب) المرحلة الثانية في سرّ التوبة، من القرن السادس إلى القرن الثالث عشر: هنا عرفت الكنيسة طريقة جديدة بدأت في الأديار، حيث الاتحاد المستمر مع الله بالصلاة والتجرد عن العالم. ولبلوغ هذا الهدف كان لا بدّ من أن يتتلمذ المبتدئون على يد راهب قديس ليقتدوا بسيرته الفاضلة ويرشدهم لتحقيق هدفهم الرهباني. وهنا كانوا يكشفون خلال حياتهم عن اختباراتهم وصعوباتهم وكانوا بنفس الوقت يعترفون بخطاياهم ويعطيهم قانوناً من الصلوات وأعمال التقشف لإتمامها تكفيراً عن الخطايا. كان المرشد والمعرّف ليس ضرورياً أن يكون كاهناً وكانوا يقومون بمهمة الإرشاد الروحي. وعلى هذه المنوال كان العلمانيون يقصدون الأديار لطلب الإرشاد الروحي وللاعتراف ولأخذ الحلّة والقانون. وهذا ما نخبر عنه في تاريخ حياتنا: الأب الروحي، التقليد الذي دخل إلى كلّ الأديار ويتابع حتى اليوم.
ج) المرحلة الثالثة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين: سنة 1215 قرر المجمع اللاتراني الرابع في القانون 21 الاعتراف السنوي الإلزامي لجميع المؤمنين منذ سنّ الرشد. الاعتراف يتم عند كاهن الرعيّة التي ينتمي إليها كلّ مؤمن. هذا ليتحقق من صحّة إيمان المسيحيين في عصر كثرت فيه البدع. وكانت الكنيسة تقول إن من لا يتقدّم من هذا الاعتراف السنوي يحرم من الكنيسة. وكما قلنا إلى جانبه نشأت في الأديار خاصة عند الرهبان الفرنسيسكان والدومينيكان عادة الاعتراف المتوافر مرة أو مرتين في الأسبوع أو كل يوم، استعملوها وسيلة للتنقية والتقدّم في الحياة الروحية. وانتقلت هذه العادة إلى العلمانيين وقد وجدوا فيها وسيلة للاشتراك في آلام المسيح وللتقرب من المناولة. مع نشوء الحركة البروتستانتية قاومت الكنيسة الكاثوليكية في الغرب نظرة لوثر وكالفن عن سرّ التوبة. لوثر كان يعتبر أن التوبة ليست سرّاً خاصاً بل مكمّلاً لسرّ المعموديّة أو كسرّ ارتداد إلى المعموديّة. المسيح منح كنيسته سلطة حلّ الخطايا وربطها لكنه لم يؤسس الاعتراف المفصّل للخطايا. وكالفن ينكر على التوبة صفة السرّ يقول إنها ذكرى المعموديّة. وبما أنّهما لا يقرّان بسرّ الكهنوت بمعناه الكاثوليكي والأرثوذكسي لذا يعتبران الحل من الخطايا يمكن أن يكون على يد علمانيين.
ضد هذه الأفكار قرر المجمع التريدانتيني ثلاث امور:
ما أراده المسيح يستمر على مدى الزمن والمسيحيون يشتركون بممارسة سرّ التوبة بعودة دائمة إلى الكنيسة. والكنيسة هي التي تحدد، كما فعلت عبر الأجيال، طريقة ممارسة هذا السلطان. الاعتراف الفردي للكاهن مع طلب الإرشاد كان لأجيال من المسيحيين الوسيلة الفضلى للتنقية من الخطيئة والتقدم في الحياة المسيحيّة. قد يكون عصرنا الحاضر يشهد اهمالاً للاعتراف الفردي ورغم ذلك اقبالاً متواتراً على المناولة، هذا يجعلنا في حالة حيرة، ماذا نعمل؟
سنة 1972 أصدر البابا رسالة لتجديد سرّ التوبة، وتكلّم عن طرق ثلاث:
كيف نمارس هذا السرّ اليوم؟
الجوهري في هذا السرّ هو اللقاء الشخصي بيني أنا الشخص التائب وبين الله الذي يعيد لي الخلاص. ومهما فتشنا عن صيغ، جميل أن نحافظ على هذا اللقاء مع الله، لأنه يُعطي الإنسان نعمة خاصة. إنّه لقاء دائم مع الله، سيد الخلاص.
فحص الضمير، الندامة، الإقرار بالخطايا، التكفير، الحلّة، الكفّارة.
أنواع الضمير: في القواعد يوجد ضمير منفصل ومتّصل، كذلكَ في الحياة المسيحيّة يوجد ضمير منفصل وضمير متّصل بالله. المطلوب هو أن يكون ضميري متّصلاً بالله. الناس يتوزعون إلى ثلاث فئات:
فحص الضمير هو إعادة قراءة الحياة يومياً ليرى الإيجابيات والسلبيات، ما قربّه وما أبعده. قراءة الحياة على الضوء الذي يمنحني إياه الله في حياتي.
هي ليست مجرّد شعور بالآسف، هي ارتداد القلب في الداخل العودة في العمق لملاقاة الله. ويجب أن يصدر عنها أفعال يعيشها التائب في داخله: محبّة الله فوق كل شيء. وتبقى ناقصة إذا لم يعد الإنسان إلى محبّة الله ويحاسب ذاته.
يسمح للإنسان مواجهة أعماله ضدّ الله ويتحمّل مسؤوليتها وهذا مهم حتى لا يعود إليها ثانية. وهذا جزء جوهري من سرّ التوبة، وهذه هي النقطة التي كثيرون منّا يقولون لماذا هذا الإقرار أو يخجلون منه، ويعترضون على الاعتراف: لماذا أعترف وأعود لخطيئتي؟ ماذا سيفكر بي المسيح إذا قلت خطيئتي؟ لماذا عليّ أن أتحمّل مسؤوليّة الماضي؟ البعض يعتبرون الاعتراف يشبه الجلوس أمام الطبيب النفساني وهذا أمر غير مرغوب.
وما دامت محبّة الله تسبقنا، لماذا عليّ ان أعترف بخطيئتي؟ وكثيرون يعترفون لله مباشرة، وينسون درب الندامة والتواضع، وأن كلام الكاهن وتوجيهه والحلّة التي يُعطينا إياها هي تأكيدات لما يمنحه الله. والبعض يعترضون أن الاعتراف اذلال، إنما هو وقفة صدق مع الذات والله. الاعتراف إذا هو فعل تواضع، الإنسان عاشه بقلبه، يعبّر عنه أمام الكاهن، وهذا وعي للخطيئة وتأكيد للغفران الذي أحصل عليه من الله. ليس سهلاً أن أقول ما اقترفت من بشاعة، ولكن النعمة الكبيرة تلك التي أحصل عليها من الله بواسطة الكاهن.
توجد خطايا اقترفتها تجاه الله والآخرين وذاتي. عليّ أن أجد سبيلاً لأكفّر إذا أهنت آخر، وأن أُعوِض. انا جحدت بالله أعوض بفعل إيمان كبير. التكفير تعويض عن الخطأ الذي تمّ في حياتي. وعليّ أن أعيشه بالعمق.
الأسقف والكاهن وحدهما يمنحاني غفران خطاياي.
الكاهن يحدد ما عليّ ان اقوم بأعمال رحمة او تقشّف وصلاة لأعوّض عن خطيئتي.
سر التوبة له مفاعيل في النفس الإنسانية وفي عيش الإنسان التائب، ككل الأسرار الباقية. ولسرّ التوبة أربعة مفاعيل عامّة يشرح عنها كتاب التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية، الصادر مؤخراً. هذا بالإضافة إلى المفاعيل الثانوية الأخرى كالراحة والسلام النفسي الذي يحصل عليه التائب، كالشعور بالتجدد والحمية إلى الانطلاقة الجديدة. نتوقف عند المفاعيل الأساسيّة الأربعة:
بالعودة إلى نص التعليم المسيحي الديني للكنيسة الكاثوليكية في عدده 1461 نجد أنّ المسيح قد وكّل إلى رسله خدمة المصالحة فالأساقفة خلفاؤهم والكهنة معاونو الأساقفة يوصلون القيام بهذه الخدمة. الأساقفة والكهنة هم الذين يملكون بقوة سرّ الكهنوت سلطان مغفرة الخطايا كلها باسم الآب والابن والروح القدس.
هذه المغفرة التي تصالحنا مع الله والكنيسة. الأسقف هو الرأس المنظور في الكنيسة هو صاحب السلطان الأول في خدمة المصالحة، والكهنة يمارسون هذا السلطان بقدر ما ينتدبهم لهذه المهمة أسقفهم. الكاهن يأخذ الإذن من أسقفه ليمارس سرّ الاعتراف. وذلكَ ضمن الأبرشية. أو البطريرك يمنح بعض الكهنة إذناً ليعرّفوا في كلّ المناطق، او قداسة البابا يمنح الإذن لكهنة ليعرّفوا في كل مكان. والأسقف الذي يحلّ من كل الخطايا يعطي هذا الإذن أو بعضاً منه للكاهن. في حال خطر الموت يجوز لكل كاهن وإذا لم يُفوَّض إليه سماع الاعترافات أن يحلّ من كلّ خطيئة ومن كل حرم. حتى إذا لم يملك التفويض.
التعليم المسيحي:” 1465” عندما يقوم الكاهن بخدمة سرّ التوبة إنّما يقوم بخدمة الراعي الصالح الذي يبحث عن النعجة الضالّة وخدمة السامري الرحيم الذي يضمّد الجروح والأب الذي ينتظر الابن الشاطر ويرحّب به عند عودته والقاضي الذي لا يُحابي أحداً ويصدر حكماً عادلاً ورحيماً. وقصارى القول إن الكاهن هو علامة محبّة الله ورأفته بالخاطئ وأداتهما.
الخاطئ يخاف من خطيئته والكاهن يعيش هذا السرّ بنفس الرهبة، مسؤوليّته كبيرة وسامية.
الخاتمة:
إن سر المصالحة كالإفخارستيا، ليست سرّ مرحلة من مراحل الحياة المسيحيّة الكبرى. بل هي سرّ “الطريق”، غالباً ما نمارسه. لذلكَ فهي تشكّل قضيّة في نظر الكثيرين.