سرّ التجسّد Incarnationis Mysterium
براءة الإعلان عن ترتيبات اليوبيل الكبير لعام 2000
براءة الإعلان عن ترتيبات اليوبيل الكبير لعام 2000
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الكنيسة جمعاء
السلام والبركة الرسوليّة!
1- تستعدّ الكنيسة لاجتياز عتبة الألف الثالث، فيما أبصارها شاخصة نحو سرّ تجسّد ابن الله. لم يسبق أن شعرنا بمثل ما نشعر به الآن من واجب التبنيّ لنشيد التسبيح والشكر الذي أطلقه الرسول بقوله: “تبارك إله ربنا يسوع المسيح وأبوه! باركنا في المسيح كلَّ بركةٍ روحيةٍ في السماوات، ذلك بأنه اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة، وقدّر لنا أن يتبنّانا بيسوع المسيح على ما ارتضته مشيئته […] فأطلعنا على سرّ مشيئته، أي ذلك التدبير الذي ارتضى قضاءه في المسيح ليحقّقه عندما تتم الأزمنة، فيجمع في المسيح كل شيء ممّا في السماوات والأرض” (أفسس 1، 3 – 5 و9 – 10).
يتبيّن لنا من خلال هذه الكلمات أن تاريخ الخلاص يجد في يسوع المسيح ذروة معناه وكماله، إذ نلنا به جميعاً “نعمة فوق نعمة” (يو 1، 16) وكانت لنا المصالحة مع الآب (راجع رو 5، 10؛ 2 قو 5، 18). ليس ميلاد يسوع المسيح في بيت لحم حدثاً من الأحداث التي يمكن أن يطويها الزمن، فأمامه يقوم التاريخ البشري بأسره، بحيث يستضيء بحضوره حاضرنا ومستقبل العالم. إنه “الحي” (رؤ 1، 18)، “كائن وكان وسيأتي” (رؤ 1، 4). أمامه تجثو كل ركبة، في السماء وعلى الأرض وفي الجحيم، ويعلن كل لسان أنه السيد (راجع فبل 2، 10 – 11). كل إنسان يلتقي بالمسيح يكتشف سرّ حياته (1).
يسوع هو الجديد الحقيقي الذي يفوق انتظار البشريّة كلّه وسيبقى إلى الأبد، على تعاقب الحقب في التاريخ.
إن تجسّد ابن الله والخلاص الذي أتى به بواسطة موته وقيامته هي المقياس الحقيقي في تقويم الواقع الزمني وكل مشروع من شأنه أن يجعل من حياة الإنسان حياة أكثر إنسانيّة.
2- إن اليوبيل الكبير لعام ألفين هو بابنا. لقد تطلّعت إلى هذا الاستحقاق، منذ رسالتي الأولى فادي الإنسان، وكان في نيّتي أن أُهيءّ الضمائر انصياعاً لعمل الروح (2). سيجري الاحتفال بهذا الحدث، في وقت واحد، في روما وفي جميع الكنائس الخاصة المنتشرة في أصقاع العالم. وسيكون هناك مركزان، إن صحّ التعبير: المدينة التي شاءت العناية أن يقوم فيها كرسي خليفة بطرس، من جهة، والأراضي المقدسة، من جهة أخرى، حيث تأنّس ابن الله، متجسّداً من عذراء اسمها مريم (راجع لو 1، 27). وهكذا سيحتفل باليوبيل، بقدرٍ واحد من الكرامة والشأن، في كل من روما والأرض التي سُمّيت بحق “مقدّسة”، لأنها شهدت ولادة يسوع وموته. إن هذه الأرض، التي نشأت فيها الجماعة المسيحية الأولى، هي المكان الذي تجلّى فيها الله للبشريّة. وهي الأرض الموعودة التي اتّسم بها تاريخ الشعب اليهودي، والتي يكرّمها المسلمون أيضاً. حبّذا أن يكون هذا اليوبيل حافزاً للقيام بخطوة جديدة إلى الأمام على طريق الحوار ليأتي اليوم الذي نتبادل فيه جميعاً، يهوداً ومسيحيين ومسلمين، قبلة السلام (3).
يُدخلنا الزمن اليوبيلي إلى اللغة الصريحة التي تعتمدها التربية الإلهيّة الخلاصيّة في حمل الإنسان إلى التحوّل الذاتي والتوبة، وهما مبدأ إعادة تأهيله ونهجه، وشرط إعادة اكتشاف ما لا يقوى على بلوغه بقواه الذاتية وحدها، أي الصداقة مع الله ونيل نعمته والحياة الأبدية، التي وحدها تُلبّي أكثر تطلعات القلب البشري وأعظمها عمقاً.
إن الولوج في الألف الجديد ليشجّع الجماعة المسيحيّة في توسيع نظرتها الإيمانيّة نحو آفاق جديدة في سبيل إعلان ملكوت الله. لا بدّ، في هذه المناسبة الخاصة، من العودة عودةً صادقة وثابتة إلى تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وهو الذي حمل معه إضاءة جديدة على ما يختصّ بالتزام الكنيسة الرسالي أزاء ما تواجهه البشارة من مقتضيات حاليّة. أثناء المجمع أدركت الكنيسة ادراكاً شديداً معنى سرّها والمهمة الرسولية التي عهد بها الرب إليها. وهذا الإدراك يُلزم جماعة المؤمنين بأن تعيش في العالم وهي تعلم ما ينبغي أن تكون عليه: “وهي بمثابة خميرة وكروح للمجتمع البشري الذي يجب أن يتجدّد في المسيح ويتحوّل إلى أسرة الله” (4). تلبيّة منها التلبية الفاعلة لهذا الالتزام، عليها أن تحافظ على الوحدة، وأن تعمل على تنمية حياة الشركة فيها (5). إن دنوّ موعد الحدث ليشكّل حافزاً حسناً في هذا الشأن.
إن مسيرة المؤمنين نحو الألف الثالث لا توجس مطلقاً التعب الذي قد ينطوي عليه عبء ألفي سنة من التاريخ، بل يشعر المسيحيون، بالأحرى، بتجدّد العزيمة، عندما يفكّرون أنهم يحملون إلى العالم النور الحقيقي، المسيح السيد. عندما تبشّر الكنيسة بيسوع الناصري إلهاً حقيقياً وإنساناً كاملاً، فإنها تفتح المجال أمام كل إنسان لكي يكون “مألوهاً” فيكون، بالتالي، أكثر إنسانيّة (6). هذا هو السبيل الوحيد الذي به يستطيع العالم أن يكتشف دعوته السامية التي هو مدعو إليها، وأن يحقّقها في الخلاص الذي أنخزه الله.
3- في هذه السنوات التمهيدية المباشرة لليوبيل، وكما ذكرت في رسالتي إطلالة الألف الثالث (7)، تستعدّ الكنائس الخاصة، عن طريق الصلاة والكرازة والالتزام في مختلف أشكال العمل الراعوي، لاستقبال هذا الموعد الذي يُدخل الكنيسة كلها في حقبة جديدة من النعمة والرسالة. إن اقترب موعد هذا الحدث اليوبيلي ليُثير، مع ذلك، اهتماماً متنامياً، لدى أولئك الذين يتوسّلون الإشارة المؤاتية التي من شأنها أن تساعد في تَبيّن علامات حضور الله في زمننا المعاصر.
لقد وُضعت الاستعدادات لليوبيل تحت شعار الثالوث الأقدس: بواسطة المسيح – في الروح القدس – إلى الآب. إن سرّ الثالوث الأقدس هو أساس طريق الإيمان وغايته الأخيرة، حيثما ترنو أبصارنا إلى وجه الله إلى الأبد. إنّا، إذ نحتفل بسرّ التجسّد، تشخص أبصارنا إلى سرّ الثالوث. إن يسوع الناصري، الذي يكشف لنا حقيقة الآب، حمل الرغبة الكامنة في قلب كل إنسان إلى كمالها في معرفة الله. فظهر من خلال وحي المسيح ظهوراً نهائياً كلُّ ما كانت الخليقة تحفظه مختوماً فيها بختم يد الله المبدعة، وكلّ ما كان الأنبياء الأقدمون قد وعدوا به (8).
إن يسوع يُظهر وجه الله الأب، “الرحمان الرحيم” (يعقوب 5: 11) ويُعلّم، بمجيء الروح القدس، سرّ محبة الثالوث. إن روح المسيح هو الذي يعمل في الكنيسة وفي التاريخ؛ وينبغي الإصغاء إلى صوته للتعرّف إلى علامات الأزمنة الجديدة، وإبقاء شعلة انتظاره المجيد متأججّة في قلوب المؤمنين.
لذلك ينبغي أن تكون السنة المقدسّة نشيداً فريداً، متواصلاً، تسبيحاً للثالوث، الله العلّي. وهنا تأتي كلمات القديس غريغوريوس النزينسي اللاهوتي لتغدق على التعبير طابعاً شعرياً:
“المجد لله الآب، وللابن، ملك الكون. المجد للروح القدس، الذي له يليق التسبيح، والقدوس كلّه. الثالوث إلهٌ واحد، خلق وملأ كل شيء: السماء وما فيها من كائنات سماويّة والأرض وما عليها من كائنات أرضيّة. والبحر والأنهار والينابيع، ملأها كائناتٍ مائيّة، وأحيا كلّ شيء بروحه، لتسبّح كل خليقة خالقها الحكيم، علّةً وحيدةً للحياة والزمن. وليُسبّح المخلوق العاقل، أكثر من أي مخلوق آخر، تسبيحاً متواصلاً، للملك العظيم والآب الكلّي الرحمة” (9).
تابع القراءة بتحميل الملف