رسالة الرئيس العام لشبيبة دون بوسكو
في عيد دون بوسكو ٢٠٠٦/١/٣١
في عيد دون بوسكو ٢٠٠٦/١/٣١
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب باسكوال تشافيز نقلها إلى العربية الأب فيتّوريو بوتسو السالسي
للشبيبة السالسية
الحبّ هو دعوتكم، ايّها الشباب الأعزاء. إنّه بُعد أساسي لشخصيّتكم
أيها الشباب الأعزّاء،
أتوجّه إليكم، وأمامي وجوه كثيرة رأيتها في شتّى أنحاء العالم، فكلّها وجوه فتيّة، ملؤها الفرح والتحمّس وحبّ الحياة والسخاء في الخدمة. فأنتم أهمّ قسم من عائلتي وأعزّه، تلك العائلة التي أجد فيها باستمرار فرح تقدمة الذات لله والرجاء الذي يؤيّدني في خدمتي.
تحتفل العائلة السالسية خلال هذا العام 2006 بذكرى مرور 150 سنة على وفاة ماما مرغريتا، أم الأسرة التربوية التي أقامها دون بوسكو في فالدوكّو. فأنا مقتنع بأن الدور الذي لعبَته ماما مرغريتا في تنشئة دون بوسكو الإنسانية والمسيحية أساسي، وكذلك الدور الذي لعبَته في خلق مناخ تربوي “عائلي” في فالدوكّو. ففي هذه المناسبة، دعوت العائلة السالسية برمّتها وشبيبة دون بوسكو في العالم إلى التزام مجدَّد تحت هذا الشعار:
نولي اهتماما خاصّا بالعائلة، إذ هي مهد الحياة والحب ومكان التربية الإنسانية الأساسي
لكم جميعا، ايّها الشباب، خبرة عائلية عميقة، فحياتكم موسومة بوجوه عزيزة رافقَتها، قادرة في كل مرحلة من مراحل العمر، على أن تُشعِل في عيونكم شعلة عرفان الجميل والفرح.
فالوجه الأكثر تأثيرا وشفّافية هو وجه الأمّ، ففي ابتسامتها لقد قرأتم، للمرة الأولى، كلمة “الحب”، فحبّها مجّاني بشكل كامل، تحفظه بحنان ورقّّة كما يُحفَظ مبدأ الحياة الثمين. لقد كان قلبها، بشكل عجائبي، مُلتقى الحبّ الإلهي المجّاني والحبّ الإنساني المجّاني.
فبالإضافة إلى وجه الأم لقد عرفتم وجه الأب، وهو يكمّل حب الأمّ بما له من شدّة في الالتزام وشجاعة في التصميم. ثُمّ وجدتم وجوها أخرى، فهي وجوه الإخوة والأخوات، فعِشتم معهم خبرة اتّسمت بالتقبُّل والاعتراف بكم والحب لكم. إنّ هذه البيئة الغنيّة بالتواصُل والتعاطُف قد كانت لكم “مهد الحياة والحبّ” ومدرسة حقيقيّة للشراكة والأُلفة.
وأخيرا، لقد قرأتم بُشرى الإنجيل وأصغيتم إليها على وجوه ملموسة، تُشرِق بالحب، فهي وجّهتكم إلى التعرّف إلى يسوع، وإلى لفظ اسمه الكريم باحترام، وإلى إظهار الحبّ به، وإلى رسم إشارة الصليب… فيا لها من هبة كبرى!
ولكن، كم من أمثالكم يعانون اليوم من غياب قاسٍ للأب والأم. وليس لهم من خبرة في إقامة علاقات هادئة ومتوازنة مع أهلهم وإخوتهم وأخواتهم. فهؤلاء يعانون في حياتهم جروحا عميقة ونقصا لا يُعوَّض عنه، وبالتالي يصبحون بلا دفاع أمام استفزازات المجتمع. إنّ هذه الخبرة المأسويّة تلازمهم وتظهر من خلال الكثير من تصرّفاتهم التي تبدو لنا ولكم استفزازا وتحدّيا.
والحالة هذه، أفلا يبحثون عن عائلة؟ أفلا يتمنَّون أن يكون لهم إخوة وأباء وأمّهات ولو عبّروا عن ذلك باستعمال تعابير لا يفهمها بسهولة البالغون وحتّى الشباب أحيانا؟ أفليس نداؤهم نداءً موجّها إلى الكنيسة لتكون عائلة؟ أفليس نداؤهم موجَّها إليكم أيضا – لكونكم شبابا من أجل الشباب – لتكونوا قادرين على إقامة روابط إخاء وإلى خلق جوّ عائلي؟
إنّ كلمة الله التي نتأمّلها دوما تُضيء أيضا ما في الحياة العائلية وفي الحب الذي ينبثق منها ونتحسّسه، من خبرة بشرية وتُسهم في ترسيخها عُمقا.
أيّها الشباب، لقد تلقّينا هبة ثمينة، ألا وهي محبّة الله. “أنظروا أيّ محبّة خصَّنا بها الآب لنُدعى أبناء الله وإنّنا نحن كذلك” (1 يو 3/1). “فإنّ الله أحبّ العالم حتّى إنّه جاد بابنه الوحيد، لكيلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3/16). فمحبّته قد فكّرت فينا قبل ميلادنا، ودبّرت لنا مسيرة في الحياة، فترافقنا وتستقبلنا دوما، ولو لم نكن نحن آمنين عليها. فمحبّة الله التي تحتضننا باستمرار تدعونا وتحثّنا على تطوير خير ما فينا من صفات وإلى نشر هذه المحبّة فيما بين الذين هم من حولنا. “أيّها الأحبّاء، إذا كان الله قد أحبّنا هذا الحبّ، فعلينا نحن أن يحبّ بعضنا بعضا” (1 يو 4/11).
الحبّ هو دعوتكم، ايّها الشباب الأعزاء. إنّه بُعد أساسي لشخصيّتكم. إنّه الطاقة التي تفجّر الحياة. إنّه ما يعطي الوجود معناه، ويفتحه على تفهُّمه وعلى الاستعداد لبذله في سبيل الآخرين. فأنتم قلقون حقّا على كيفيّة عيش الحبّ، لأنّ هناك عوائق داخلية وخارجية كثيرة قد تجرّكم إلى ممارسات استهلاكية أو إلى إدراك بعض جوانبه فقط، ولو كانت مهمّة. لذلك، لا بدّ من الإقبال على مسيرة تربوية تساعدكم على تنمية ما منحكم الله من طاقات لفعل الخير ومن سعادة في عيش الحب.
لقد سلك يسوع بالذات هذا الدرب الطويل الذي أوصله إلى نضوجه الإنساني عبر ثلاثين سنة قضاها في عائلته في الناصرة. فلميلاده إنسانا لقد احتاج الله إلى أمّ؛ ثمّ لينمو ويكتمل في إنسانيّته ويتعلّم أن يحبّ كإنسان لقد احتاج إلى عائلة. لذلك، لم تكن مريم من ولَدت يسوع فحسب، بل كانت له، إلى جانب يوسف البارّ، أمّا حقيقيّة حوّلت بيتها في الناصرة إلى مدرسة لتربية ابن الله الإنسانيّة (راجع لو 2/61-62).
فأنتم أيضا عليكم أن تحملوا سنوات شبابكم وكأنّها زمن ثمين يُعطى لكم لتتعلّموا كيف تحبّون وفقا لنموذج الحبّ الإلهي الذي ظهر في يسوع. فهكذا تستطيعون أن تلبّوا الدعوة التي دُعيتم إليها، وهي إمّا الزواج أو البتوليّة في الحياة المكرّسة أو في الكهنوت.
أمّا للتوصّل إلى الخيارات المصيرية مثل الزواج أو البتولية في سبيل ملكوت الله فيجب أن تقوموا بتربية قلوبكم منذ الآن. إنّ الحب كان ولا يزال هبة ولا أحد يتعلّم أن يعطي إلا إذا أعطى بدون مقابل وبدون الاعتراف بفضله. أنظروا من حولكم، تجدوا حاجات مُلحّة، ولو لم تكن بارزة؛ أصغوا إلى صراخ المحتاج، ولو كان صامتا، بدءًا من العالم المحيط بكم في العائلة. كونوا دُعاة للحوار، وللإصغاء المنفتح، وللممارسات اليومية للخدمة والإغاثة، وللمغفرة السخيّة، فكرّسوا بعض الوقت للبقاء مع الآخرين بدون مقابل… إنّها بوادر بسيطة تخلق جوّا من الألفة والمودّة، وتفتح القلوب، وتُثير تيّارا من الحب والتضامن.
فإذا أردتم أن تتأكّدوا من أصالة حبّكم، فافتحوا قلبكم وحياتكم على خدمة الآخرين من خلال بوادر ونشاطات ومواقف تشهد على التزام ملموس. فبكلمات أخرى، تعلّموا أن تحبّوا بوضع أنفسكم في خدمة الذين هم الأكثر حاجة. فالخدمة تعني الالتزام وليس القيام بعمل خير بين الحين والآخر، وهي تعني أيضا إقامة علاقة بنّاءة وليس البحث عن عمل ظرفي يرضيني. لذلك يتطلّب قلبا سخيّا وقدرة التخلّي عن الذات للتمكّن من تغيير ما قد نجده من واقع غير إنساني وظروف ظالمة.
فإذا كنتم اليوم شبابا أسخياء، فستُنشئون غدا عائلات يوجّهها الإيمان المسيحي، منفتحةً على حاجات الآخرين؛ أو تتمكّنون من بذل حياتكم كلّها في سبيلهم، من خلال تكرُّسكم لله. ستستفيدون من انغماسكم في بيئة سليمة تغذّيكم، وأنتم تشاركون مشاركة فعّالة في حملة تهدف إلى مساعدة الذين هم الأفقر، على أن تكون مشاركتكم خلاّقة، اي مستلهِمةً كل ما حصلتم عليه من غنى تربوي تلقّيتموه باحتكاككم بالعائلة السالسية الكبيرة.
إنّ الدعوة للحب، إن كان في الزواج المسيحي أو في البتولية من أجل الملكوت، لهي هبة إلهية يجب طلبها والانفتاح عليها بسخاء. فيا أيّها الشباب، لا يمكننا بناء مشروع جدّي وثابت في الحب ما لم نركّز على روحانية مسيحية عميقة. لذلك لهو أساسي أن تُعنَوا بالصلاة الفردية او المشتركة، أزواجا، وبالمشاركة في الأسرار المقدّسة، ولاسيّما الإفخارستيّا، إذ نتّحد فيها بأسمى فعل محبّة فعله يسوع من خلال موته وقيامته، وبالاقتراب من سر المصالحة الذي يقدّم لنا مغفرة الله ويربّينا على المغفرة المتبادلة، وهي عنصر جوهري للمحبّة الحقيقية.
إذا وجدتم مرشدا روحيا يساعدكم على تقييم مواقفكم تقييما حقّا، فطوبى لكم، لأنّكم حصلتم على نعمة كبيرة، لأن مواقفكم قد تكون عفويّة وسطحيّة، وتجازفون أحيانا بأنفسكم في روابط تعتبرونها وثيقة، بينما هي في الواقع متراخية، بل بعيدة كل البعد عن التواصُل العميق. فالمرشد الروحي الجيّد سيساعدكم على التمييز بين المواقف والروابط المختلفة، وعلى تلبية ما فيكم من حاجات عميقة إلى الحرّية، وعلى مرافقة بحثكم عن معنى حياتكم الكامل بالصلاة، وعلى حبّ الرزانة والحشمة. لا يخفى على أحد أنّ الحبّ واقع دقيق ورقيق. فسرعته للتَلَف تجعله لا يبقى على ما هو عليه إلاّ إذا تحوّل إلى هبة؛ فتقدمة الذات تحتاج إلى تنشئة متنامية على الحياة الباطنية الذاتية، بحيث تُثمر وتتجسّد في الالتزام والخدمة وفي الدعوات المختلفة.
إنّ مثل هذا العمل طويل الأمد، فنحن المربّين مدعوّون إلى مرافقتكم مرافقة فردية، واحدا واحدا، وإلى إيلاء اهتمامنا بالمجموعات ذات الخبرة المسيحية العميقة، وإلى تقدمة الإرشاد الروحي، لأن أساس كلّ شيء أن نكون أشخاصا قادرين على اعتبار حياتهم هبة للآخرين أُسوة بالمسيح.
لذلك، ومع الاحترام الكامل لشخصّيتكم، فإنّنا كمربّين ننوي أن نقدّم لكم مناهج ملموسة للتنشئة والمرافقة والتمييز
في سبيل اكتشاف دعوتكم للزواج المسيحي أو للبتولية في الحياة المكرّسة أو في الكهنوت. هنالك فِرَق وحركات ومجموعات أزواج وعائلات ستؤمّن لكم مكانا مناسبا للتفكير ولإدراك إمكانيّاتكم الإنسانية الذاتية، في إطار مسيرة إنضاج، وستساعدكم على عيش دعوتكم للزواج أو البتولية وعلى تحمّل مسؤولياتكم التربوية في هذا المضمار بكل التزام.
كان ولا يزال فالدوكّو لنا جميعا مرجعا أساسيّا ومدرسة حياة. ففي مدرسة ماما مرغريتا، وهي امرأة حكيمة تملؤها الحكمة الآتية من السماء، قد تعلّم يوحنّا حبّ الحياة كهبة ثمينة ووحيدة. فأصبح له قلب الأمّ، على غرار قلب الله الذي “منه كلّ أبوّة في السماء والأرض” (أف 3/15)، مصدرا لا ينضب من الأبوّة، فتمثّل كهنوته بجعله أبا لعائلة كبيرة.
كان دون بوسكو أبا يتحسّس ما للكرامة والعدالة من معنى تحسُّسا قويّا وكان في الوقت عينه كاهنا يعي تماما وضع الشباب في عصره ويتجسّد فيه، فما خلقه في فالدوكّو من جوّ عائلي، هو وأمّه، لم يكن خيمة دافئة ولا عُشّا يلجأ إليه الخَجِلون والذين يُحسّون بالبرد ليرتاحوا، لأنّ دون بوسكو كان يقود أبناءه إلى إنضاج إنساني ومسيحي كامل حسَب روح الحرّية الإنجيلية. فما نشأ في فالدوكّو من شخصيّات قوية لهو خير برهان على ذلك.
يمكننا القول بأنّ دون بوسكو قد تلقّى الحب من حياة أمّه ومن قلبها ونقله إلى الشباب بحماس، فتقبّل دعوته وكأنّها نعمة عظيمة واعتبرها دعوة متواصلة إلى حفظ قلب الابن أمام الله..
هذه هي أهمّ رسالة دون بوسكو إليكم، أيّها الشباب: ليس من شيء أعظم في العالم من تقبّل محبّة الله بحياتنا كلّها من خلال تلبية الدعوة إلى الزواج أو إلى البتولية. فلا عجبَ بذلك، لأن هذا هو سرّ الله بالذات. وإذا كانت الأمور على ما هي عليه، فالكارثة الكبرى رفض الحب والأبوّة أو تشويههما. وعكس ذلك، فالأهمّ أن يتعلم أحد كيف يصير أبا أو أمّا، على صورة الله الآب، وكيف يصير ابنا، على صورة الله الابن. فكل واحد منكم مدعوّ، نوعا ما، إلى إدماج هذين الموقفين في حياته، أي أن تكون له نفس بنويّة، يقف بها أمام الله الآب ببساطة، ونفس والدية (الأب والأم) تتحنّن على الأبناء الذين قد يرسلهم الله إليكم أو يوكلكم بهم. فبقدر ما تجسّدون فيكم هذين الموقفين تسيرون نحو القداسة وتجدون الفرح الحقيقي.
أخيرا، فإنّي أختم كلامي، موجّها إليكم ما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر أثناء يوم الشبيبة العالمي الأخير: “إنّي مدرك تماما ما لكم من طموحات كبيرة كشباب، وأنّكم تريدون الالتزام في سبيل عالم أفضل. فكونوا دليلا على ذلك أمام الناس وأمام العالم المنتظر مثل هذه الشهادة من قبل تلاميذ يسوع المسيح، ليتبع هو أيضا، ومن خلال محبّتكم قبل كل شيء، النجم الذي نحن نتبعه” (كولون 2005، العظة الختامية).