رسالة إلى شَبيبة العـالم
في مناسبة اليوم العالمي الخامس للشبيبة 1990
في مناسبة اليوم العالمي الخامس للشبيبة 1990
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الشبيبة
“أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو 15 / 5)
أيها الشباب الأعزاء
1- أودُّ أن أبشركم باليوم العالمي المقبل للشبيبة. وإذ أكتب إليكم، لا تزال في بالي ذكرى اليوم العالمي الأخير الذي بلغ الذروة في لقاءٍ لا أنساه، في مزار القديس يعقوب دي كومبوستيل في إسبانيا، حيث ذهبت حاجّاً مع عدد كبير من بينكم. لقد كان ذلك حدثاً كنسياً بعيد المغزى وشهادة إيمان فريدة من قبل الآلاف من الشُّبان القادمين من جميع القارّات، وفترة تبشيريّة ناشطة. في مزار القديس يعقوب دي كومبوستيل، كشفتِ الكنيسة للعالم مرّة أخرى وجهاً فتيّاً طافحاً فرحاً ورجاء وحميّة في الإيمان. لقد كان هذا الحدث عطيّة للكنيسة بل للمجتمع كلّه، إذا ساغ لي التعبير. وهذا ما لا أملّ من شكره لله.
لقد كان موضوع السنة الفائتة، كما تذكرون ذلك، مركّزاً على المسيح. وأما في هذه السنة فأودّ أن أقترح عليكم التأمل في موضوع الكنيسة. وليس من باب الصدفة أن يكون بين الموضوعين ترابط. فبين المسيح والكنيسة صلة عضوية وثيقة وعميقة للغاية. فالمسيح يحيا في الكنيسة والكنيسة هي سرّ المسيح الحيّ والعامل بيننا، كما يقول القديس بولس: “المسيح فيكم وهو رجاء المجد” (قول 1 / 27)، وفي موضع آخر: “أنتم جسد المسيح، وكل واحدٍ منكم عضوٌّ منه” (1 قور 12 / 27).
بمناسبة هذا اليوم العالمي الخامس للشبيبة، أودُّ إذن أن أدعوكم جميعاً إلى اكتشاف جديد للكنيسة ولرسالتكم ضمنها، بصفتكم شباباً.
كنيسة المسيح حقيقة جذّابة مدهشة. إنها قديمة، لأن لها من العمر ألفي سنة تقريباً. ولكنها، في الوقت نفسه، دائمة الفتوة، بفضل الروح القدس الذي يُحييها. الكنيسة فتية لأن رسالتها الخلاصية فتيّة، تواكب العصر دائماً. ومن ثمّ، فالحوار القائم بين الكنيسة والشبيبة هو في غاية الأهمية: “الكنيسة عندها الكثير تقوله للشباب، والشباب عندهم الكثير يقولون للكنيسة. هذا الحوار المتبادل الذي يجب أن نقيمه بكثير من المودّة والوضوح والشجاعة سيكون ينبوع ثروة وفتوّة للكنيسة؛ هذا ما كتبته في الإرشاد الرسولي “العلمانيون المؤمنون بالمسيح” (فقرة 46). منيتي أن يساعد اليوم العالمي الخامس للشبيبة في تنمية هذا الحوار، سواءٌ على جميع صُعد الحياة الكنسيّة أم في حياة كل منكم.
2- في الكتاب المقدس، بين الصور الكثيرة المعبّرة عن سرّ الكنيسة، نقع خصوصاً على صورة الكرمة (إر 2 / 21؛ أش 5 / 17). فالكنيسة هي الكرمة التي غرسها الرب نفسه، ويخصها بحبّ فريد.
في إنجيل يوحنا، يفسّر لنا المسيح المبدأ الأساسي لحياة هذه الكرمة، بقوله: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو 15 / 5). هذه الكلمات هي التي انتقيتُها موضوعاً لليوم العالمي المقبل للشبيبة. وعليه فإني أوجِّه إليكم جميعاً هذا النداء: أيها الشباب، كونوا أغصاناً حيّة في الكنيسة، كونوا أغصاناً محمّلة ثماراً.
أن نكون أغصاناً حيّة في الكنيسة الكرمة، فذلك يعني أولاً أن نكون متحدّين حياتياً بالمسيح – الكرمة، فالأغصان لا تكتفي بذاتها، بل هي منوطة كلياً بالكرمة، ففيها ينبوع حياتها. كذلك، كل منكم قد طُعِّم في المسيح بالمعمودية، فنال هبة الحياة الجديدة مجاناً. لكي تكونوا أغصاناً حية عليكم أن تحيوا حقيقة معموديتكم هذه، معمّقين كل يوم أكثر اتحادكم بالرب، بالإصغاء والطاعة لكلامه، والاشتراك في الإفخارستيا وسرّ المصالحة، وبالحوار الشخصي معه في الصلاة. فيسوع هو القائل: “من ثبتَ فيَّ وثبتُّ فيه، فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً” (يو 15 / 5).
أن نكون أغصاناً حيّة في الكنيسة – الكرمة، فذلك يعني أيضاً أن نتعهّد بالالتزام بخدمة الأسرة الكنسية والمجتمع. المجمع الفاتيكاني الثاني يشرح لنا ذلك بكثير من الوضوح: “كما أننا لا نجد عضواً يقف موقفاً سلبياً من الجسم الحيّ الواحد، بل يشترك في إحيائه وتنشيطه. هكذا أيضاً في جسد المسيح الذي هو الكنيسة، فإن الجسم كله “يعمل كل عضوٍ فيه لإنمائه بحسب العمل الذي يناسبه” (أف 4 / 16) (رسالة العلمانيين). نحن كلنا، وكل واحد منا، بحسب دعوته الخاصة، مشاركون في رسالة المسيح وكنيسته. فالشركة الكنسية هي شركة رسولية.
الكنيسة بحاجة إلى عملة كثيرين. ففي هذا اليوم العالمي الخامس للشبيبة، المسيح نفسه هو الذي يوجه إليكم، أنتم الشباب، دعوة عظيمة: “اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي” (متى 20 / 4).
الكنيسة شركة عضوية، يجد فيها كلّ محلّه ودوره الخاص. وأنتم أيضاً، أيها الشباب، لكم فيها مكانكم، وهو في غاية الأهمية. فالكنيسة تشعر، وهي في نهاية الألف الثاني، أن الله يدعوها إلى أن تكثّف أكثر جهدها في نشر الإنجيل؛ ومن ثم فهي بحاجة ماسّة جداً إليكم، وإلى ديناميتكم وخلوصكم ورغبتكم الجامحة في النموّ، ونضارة إيمانكم. فاجعلوا إذن في خدمة الكنيسة، بلا حساب، مواهبكم الفتية، مع السخاء الذي يتميز به سِنُّكم. اتخذوا محلكم في الكنيسة وهو ليس فقط محلّ القيّمين الناشطين على الرسالة (العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 46). فالكنيسة كنيستكم، لا بل أنتم أنفسكم الكنيسة!
وإنّ للكنيسة، من جهتها، أشياء كثيرة تقدّمها لكم، أنتم الشباب. نحن نشهد اليوم ظاهرة بليغة المغزى. فبعد فترة من المحاذرة واللامبالاة تجاه الكنيسة، نرى كثيرين من الشباب، اليوم، يَجدُّون في اكتشافها، متوسمين فيها مرشداً مخلصاً وأميناً وموقعاً لا بدّ منه للشركة مع الله ومع الإخوة، وبيئة نموّ روحيّ والتزام. إن في ذلك دلالة بليغة جداً. كثيرون من بينكم لا يكتفون بالانتماء إلى الكنيسة بطريقة شكليّة بحتة، أو إدارية بحتة، إنهم يبحثون عن أكثر من ذلك.
ثمة مواقع مميّزة لإعادة اكتشاف وجه الكنيسة والالتزام الكنسي، وهي الجمعيات والحركات والجماعات الكنسية المختلفة للشبيبة. فنحن اليوم في حديث عن “موسم جديد للتجمع” في الكنيسة (العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 29)، يُمثّل ثروة طائلة وعطيّة نفيسة من الروح القدس، علينا أن نتقبّلها بكثير من الشكر.
“اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي” (متى 20 / 4). الكنيسة الكرمة بحاجة أيضاً إلى عمّال أخصّاء، يخدمونها بطريقة مميّزة، في روح المطلقيّة الإنجيلية واقفين لها حياتهم كلها، أعني بذلك الدعوات الكهنوتية والرهبانية، وأعني أيضاً دعوات العلمانيين مكرّسين في العام.
إني واثق أن كثيرين من بينكم، عند تأمّلهم في سرّ الكنيسة، سيسمعون في عمق نفسهم نداء المسيح: “اذهب أنت أيضاً إلى كرمي”. فإذا سمعتم هذه الكلمات الموجهّة خصوصاً إليكم، فلا تتردّدوا في جوابكم “نعم” إلى الرب. لا تخافوا، فإن خدمة المسيح وكنيسته هي دعوة خارقة وعطيّة عجيبة. وسوف يكون المسيح في إزركم.
ذاك هو، في خطوطه الكبيرة، الموضوع الجوهري لليوم العالمي المقبل للشبيبة يومٌ تكتشفون فيه وجه الكنيسة جديداً.
3- اليوم العالمي الخامس للشبيبة، لسنة 1990، سيُحتَفل به في أحد الشعانين، في كلٍ من أبرشياتكم.
فيما يجب أن تكتشفوه إنما هو الكنيسة الأبرشية. فالكنيسة ليست حقيقة مجرّدة لا جسم لها، بل هي، بالعكس، حقيقة ملموسة إلى الغاية: إنها كنيسة أبرشية مجتمعة حول الأسقف، خليفة الرسل. وعليكم أيضاً أن تكتشفوا الكنيسة الرعوية، في حياتها وحاجاتها والجماعات الكثيرة العائشة والعاملة فيها. هذه الكنيسة سوف تحملون لها ما خبرتموه من فرح وعزمٍ في اللقاءات العالمية كلقائكم في مزار القديس يعقوب دي كومبوستيل، وفي اجتماعات الحركات والجمعيات التي تنتمون إليها. عليكم، أنتم الشباب، أن تكونوا لهذه الكنيسة الملموسة أغصاناً حية مثمرة، أي مساهمين في رسالتها مساهمة واعية وبملء المسؤولية. هذه الكنيسة تقبّلوها بكل ثروتها الروحية، تقبّلوها في شخص أساقفتكم والكهنة والرهبان والإخوة في الإيمان. تقبّلوها بإيمان وحبّ بنويّين.
اليوم العالمي ليس هو فقط، كما ترون، عيداً بل هو التزام روحيّ جدّي؛ ولكي نجني ثماره، لا بدّ من الإعداد له بإشراف رعاتكم في الأبرشيات والرعايا والجمعيات والحركات والجماعات الكنسية للشبيبة. اسعوا إلى معرفة الكنيسة بوجه أكمل في طبيعتها وتاريخها الذي أصبح منذ الآن في نهاية ألفه الثاني، وفي حاضرها. اسعوا إلى اكتشاف مكانكم في الكنيسة ورسالتكم فيها كشباب.
في هذه المسيرة الروحية يمكنكم أن تجدوا رفداً في إرشادي الرسولي: “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، وقد أفردته، بالضبط، للتأمل في دعوة ورسالة المؤمنين العلمانيين في الكنيسة وفي العالم. وأدعو رعاتكم ليساعدوكم في التمعّن في محتواها.
إني أَكِلُّ كل هذه المسيرة، مسيرة الإعداد الروحي والاحتفال باليوم العالمي المقبل للشبيبة، لسنة 1990، إلى سيدتنا العذراء لتشملها بشفاعة خاصة. وهي التي نكرّمها كأمّ للكنيسة، فلتكن لكم معلّمة وهادية في هذا الالتزام الكنّسي الجديد.
وإليكم جميعاً أرسل بركتي مقرونة بمحبتي.
من الفاتيكان، في 26 تشرين الثاني من سنة 1989، وهو عيد ربنا يسوع المسيح ملك الكون.