رسالة إلى الأسر
في مناسبة سنة الأسرة
في مناسبة سنة الأسرة
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى العائلات
أيتّها الأسّر العزيزة!
1- إنّ الاحتفال بسنة الأسرة يُتيح لي الفرصة السعيدة لأقرع باب داركم أنا الرّاغب في إقرائكم التحيّة بعطف شديد، وفي التحدّث إليكم. إنّي أقوم بذلك في هذه الرّسالة، منطلقاً من العبارة الواردة في البراءة “فادي الإنسان” التي نشرتُها منذ افتتاح عهدي بخلافة بطرس. لقد كتبت إذ ذاك: “الإنسان طريق الكنيسة” (1).
بهذه العبارة أردت التّذكير، قبل كل شيء، بالطرّق المتعدّدة جداً، التي يسلكها الإنسان في مسيرته، وأردت في الوقت نفسه أن ألُفت إلى رغبة الكنيسة العميقة في أن تُرافقه في هذه المسيرة على طرق وجوده الأرضيّ. الكنيسة تشترك في الأفراح والآمال، والأحزان والضّيقات (2) التي ترافق مسيرة البشر اليوميّة، وفي صميم ذاتها اقتناعٌ بأن المسيح نفسه هو الذي أرسلها في هذه الدروب كلّها: هو الذي وكلّ الإنسان إلى الكنيسة، وهو الذي وكله بمثابة “طريقٍ” لرسالتها ومهمّتها.
الأسرة، طريق الكنيسة
2- الأسرة، في هذه الطرق المتعدّدة، هي الأولى والأهمّ: إنها طريق عامّة، مع كونها خاصّة، ووحيدة على الإطلاق، كما أن كل إنسان وحيد؛ طريقٌ لا يستطيع الكائن البشريّ أن يحيد عنها. وهكذا فهو يأتي إلى العالم أصلاً ضمن أسرةٍ؛ ومن ثمّ يمكن القول بأنه مدينٌ لهذه الأسرة بوجوده الإنسانيّ نفسه. عندما تُفتقد الأسرة ينشأ في الشخص الآتي إلى العالم نقصٌّ مقلق وأليم، يكون ثقيلاً على حياته كلها فيما بعد. والكنيسة تحدب باهتمامٍ عطوف على الذين يعيشون في مثل هذه الحالة، لأنها تدرك إدراكاً صحيحاً الدّور الأساسيّ الذي من شأن الأسرة أن تقوم به. وهي تدرك إلى ذلك أنه من الطبيعيّ أن يترك الإنسان أسرته لكي يحقق بدوره دعوته الخاصّة في نواةٍ عيليّة جديدة. وإنّه، وإن اختار الإقامة منفرداً، تظلّ الأسرة، إذا حصّ القول، أفقه الوجوديّ، والمجموعة الأساسيّة التي تترسّخ فيها سلسلة علاقاته الاجتماعية كلّها، من أشدّها قرباًَ والتصاقاً إلى أشدّها بعداً. ألا نتحدّث عن “الأسرة البشريّة” عندما نشير إلى مجموعة البشر الذين يعيشون في العالم؟
تمتدّ جذور الأسرة إلى المحبة نفسها التي يشمل بها الخالق العالم الذي خلقه على حدّ ما ورد “في البدء” في سفر التكوين (1:1). وفي الإنجيل يؤيّد يسوع ذلك تأييداً كاملاً: “فقد أحبّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد” (يو 3 : 16). الابن الوحيد، الواحد الجوهر مع الآب، “الإله المولود من الله، النّور الصّادر من النّور”، بالأسرة دخل في تاريخ البشر. “إن ابن الله نفسه بالتجسّد اتّحد نوعاً ما بكل إنسان. لقد اشتغل بيدين بشريّتين، (…) وأحبّ بقلبٍ بشريّ. إنّه ولد من العذراء مريم، وصار في الحقيقة واحداً منّا، شبيهاً بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة” (3). ولئن “جلا المسيح الإنسان على ذاته جلاءً كاملا” (4)، فقد بدأ ذلك بالأسرة التي اختار أن يولد ويترعرع فيها. ومن المعلوم أن الفادي قد لزم الخفاء في الناصرة فترةً غير يسيرة من حياته، “خاضعاً (لو 2: 51)، في كونه “ابن الإنسان”، لمريم أمّه وليوسف النجّار. أليس “الخضوع” البنويّ هذا هو التعبير الأول عن خضوعه لأبيه “حتى الموت” (فيل 2: 8) الذي افتدى به العالم؟
وهكذا فلسرّ تجسّد الكلمة الإلهي علاقة وثيقة بالأسرة البشريّة. ولم تكن تلك العلاقة بأسرة واحدة فقط، أسرة الناصرة، بل بكل أسرةٍ على وجهٍ ما، وذلك تمشّياً وما قال المجمع الفاتيكاني الثاني في شأن ابن الله الذي “بالتجسّد اتحّد نوعاً ما بكل إنسان” (5). وعلى مثال المسيح الذي “أتى” إلى العالم “ليخدُم” (متى 20: 28) ترى الكنيسة أن خدمة العيلة هي من مهمّاتها الجوهرّية. وبهذا المعنى تقوم “طريق الكنيسة” على الإنسان والأسرة معاً.
سنة الأسرة
3- لهذه الأسباب ترحب الكنيسة ترحيب فرح بمبادرة مؤسسة الأمم المتّحدة بجعل السنة 1994 سنة الأسرة العالمية. هذه المبادرة تظهر أن قضية الأسرة قضيّة أساسيّة بالنسبة إلى الدول الأعضاء في تلك المؤسّسة. ولئن رغبت الكنيسة في أن تشترك في تلك المبادرة فذلك لأن المسيح أرسلها، إلى “جميع الأمم” (متى 28: 19). وليست المرّة الأولى التي تتبنّى الكنيسة فيها مبادرة عالميّة لمؤسّسة الأمم المتّحدة. يكفي التّذكير مثلاً بسنة الشباب العالميّة في عام 1985. وهكذا تثبت حضورها في العالم محقّقة الهدف الذي كان غالياً لدى البابا يوحنا الثالث والعشرين، والذي أوحى بالدستور المجمعي “الفرح والرّجاء”.
في عيد “العائلة المقدّسة” من السنة 1993 افتتحت، في مجموعة الكنيسة كلّها، “سنة الأسرة”، المرحلة التّعبيريّه، في خطّة التَّهييء ليوبيل السّنة 2000 الكبير الذي يسجّل نهاية الألف الثاني وبداية الألف الثالث لميلاد يسوع المسيح. فهذه السّنة يجب أن تحملنا على التوجّه، روحاً وقلباً، نحو الناصرة، حيث قام المفوّض الرسولي، في 26 كانون الأول الأخير، بترؤس تدشينها تدشيناً رسمياً بالاحتفال بسرّ الإفخارستيّا.
من المهمّ على مدّ هذه السنة تجديد اكتشاف آيات محبّة الكنيسة للأسرة واهتمامها لها، محبّة واهتمام جرى التّعبير عنهما منذ فجر المسيحيّة، عندما كانت الأسرة تعّد، على وجهٍ تعبيريّ، “كنيسة بيتية”. وكثيراً ما نعيد، في أيامنا هذه، تعبير “الكنيسة البيتيّة” الذي تبنّاه المجمع (6)، والذي نرجو أن يظلّ أبداًَ مضمونه حيّاً وراهناً. هذه الرغبة لم يمحها قطّ وعيّ الإنسان للحالات الجديدة في وجود الأسر في عالم اليوم. وهذا ما يُضيف معنى إلى العنوان الذي اختاره المجمع، في الدستور الراعويّ “الفرح والرجاء” للدّلالة على مهامّ الكنيسة في الحالة الحاضرة: “تعزيز كرامة الزّواج والأسرة” (7). وبعد المجمع نجد في الإرشاد الرسولي لسنة 1981: “وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم” (Familiaris consortio) مرجعاً مهمّاً. في هذا النصّ معالجة لتجربة واسعة ومعقّدة في شأن الأسرة: إنها فيما بين الشعوب والبلدان المختلفة تبقى أبداً وفي كل مكان “طريق الكنيسة”. وهي، على وجهٍ ما، تكونها أكثر فأكثر حيث تعتور الأسرة أزمات داخلية، أو تتعرض لمؤثّرات ثقافية واجتماعية واقتصادية ضارّة تعمل على تفكيك عُراها، وقد تكون موانع لذات تكوينها.
الصلاة
4- أودّ في هذه الرسالة أن أتوجّه لا إلى الأسرة بوجه عامٍ وتجريديّ، بل إلى كل أسرةٍ خاصّة ذاتية من جميع بقاع الأرض، في أي مكان وجدت، ومهما تنوّعت وتعقّدت ثقافتها وتاريخها. إن المحبّة التي “أحبّ بها الله العالم” (يو 3: 16)، “والمحبة إلى النهاية” التي أحبّ المسيح الجميع وكلّ واحدٍ بمفرده (يو 13: 1) تمكّنان من توجيه هذه الرسالة إلى كل أسرة، “خليّة” الحياة “للأسرة” البشريّة الكبيرة والشاملة. إن الآب، خالق الكون، والابن المتجسّد، فادي البشريّة، هما مصدر هذا الانفتاح الشامل على البشر وكأنّهم إخوةٌ وأخوات، وهما يدعوان إلى تناولهم جميعاً في الصلاة التي تبدأ بالكلام المؤثّر “أبانا”. الصلاة تعمل على أن يبقى ابن الله فيما بيننا: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك فيما بينهم” (متى 18: 20). هذه الرسالة الموجّهة إلى الأسر تريد أن تكون قبل كل شيء صلاةً موجّهة إلى المسيح لكي يبقى في كل واحدة من الأسر البشرية نداءً موجّهاً إليه، من خلال الأسرة الصغيرة القائمة على الأبوين والأبناء، ليقيم في أسرة الأمم الكبيرة، حتى نستطيع معه جميعاً أن نقول في الحقيقة: “أبانا!”. يجب أن تصبح الصلاة العنصر الأهمّ للكنيسة في سنة الأسرة: صلاة الأسرة، صلاة لأجل الأسرة، صلاة مع الأسرة.
من الثابت واللافت أن الإنسان، في الصّلاة وبالصّلاة، يكتشف شخصيّته الحقيقية بطريقةٍ غايةٍ في السهولة والعمق: في الصلاة يلمس “الأنا” البشرّ، بطريقة أسهل، عمق كونه شخصاً. وهذا يجري أيضاً على الأسرة التي ليست “خلية” المجتمع الأساسيّة وحسب، بل إنها ذات طابع خاصّ. وهذا الطابع يجد دعماً أوّل وأساسيّاً، ويتثبت عندما يجتمع أعضاء الأسرة الروحيّة وتقوّيها، وتعمل على إشراك الأسرة في “قدرة” الله. في “بركة الزّواج” الاحتفالية، عند الاحتفال بالقران، يستدعي المحتفل بالسرّ الربّ في سبيل المقترنين قائلاً: “أنزل عليهما نعمة الروح القدس حتى يظلاّ أبداً، بفعل محبّتك المبثوثة في قلبيهما، وفيّين للعهد الزوجيّ” (8). فمن هذا “الفيض للروح القدس” تنشأ قوّة الأسر الداخلية، كما تنشأ أيضاً القدرة التي تمكّنها من الاتحاد في المحبّة والحقّ.
حبّ جميع الأسر والاهتمام بها
5- فلتصبح سنة الأسرة صلاةً عامّةً ومتواصلة في شتى “الكنائس البيتيّة” ولدى شعب الله كلّه! ولتشمل النيّة في هذه الصّلاة أيضاً الأسر الواقعة في ضيقة أو في خطر، وتلك التي نالها اليأس أو التفكك، والواقعة في الحالات التي وصفها الإرشاد الرسولي “في وظائف العائلة المسيحية…” باللانظاميّة! (9). عساها جميعاً تشعر شعوراً عميقاً بمحبة إخوانها وأخواتها واهتمامهم.
فلتكن الصلاة قبل كل شيء، في سنة الأسرة، شهادة مشجعة من قبل الأسر التي تحقّق، في الشركة العيلّية، دعوة حياتها الإنسانية والمسيحية! إنهن كثيرات جدّاً في جميع البلدان، وفي جميع الأبرشيّات وجميع الرعايا. وإنه لمن الصواب التفكير في أنهنّ “القاعدة”، حتى وإن لم نتجاهل العدد الكبير “للحالات اللانظامية”. والخبرة تظهر أهميّة دور أسرةٍ تعيش على سنن النّظم الأخلاقية، في حياة إنسان يولد فيها، ويترعرع على مسلكها، لكي يسير غير متردد في طريق الخير المنقوشة أصلاً وأبداً في قلبه. هنالك مؤسّسات مختلفة ومتسلّحة بوسائل فعّالة يبدو في همها تفكيك الأسر. ويبدو أكثر من ذلك أحياناً أن هنالك من يسعى بشتى الوسائل لإظهار حالاتٍ “لا نظامية” “نظامية” وجذّابة بتغليفها بظواهر ساحرة. وهكذا فهي تناقض “الحقيقة والمحبّة” اللتين من شأنهما أن تُلهما وتقودا العلاقات بين الرجال والنساء، وهي من ثم أسباب مشادات وانقسامات في الأسر، ذات نتائج وخيمة، ولا سيّما بالنّسبة إلى الأبناء. الضمير الخلقي في ظلام، والالتباس قائم في موضوع الخير والجمال، والحرّية مستعاضٌ عنها بعبوديّة حقيقيّة. تجاه هذا كلّه نرى لأقوال القديس بولس، في شأن الحريّة التي حرّرنا بها المسيح والعبوديّة الناشئة عن الخطيئة (غلا 5: 1)، نرى لها مدّاً حالياً فريداً، كما نجد فيها ما يشدّنا إلى الأمام.
إنّنا ندرك إذن كم لسنة الأسرة في الكنيسة من ملاءمة بل من ضرورة؛ وكم تبدو ضروريّة شهادة جميع الأسر التي تعيش دعوتها كل يوم؛ وكم تبدو ملحّةً صلاة كبيرةٌ للأسر تتكثف وتتّسع لتشمل العالم كلّه، وتنطق بالتّعبير عن شكر المحبة في الحقيقة، “وفيض نعمة الروح القدس” (10)، وحضور المسيح بين الآباء والأبناء، المسيح الفادي والعروس الذي “أحبّنا إلى الغاية”، (طالع يو 13: 1). إنّنا موقنون في أعماق ذواتنا أن هذه المحبّة أعظم من كل شيء، (طالع 1 كور 13:13). وإننا نعتقد بأنه في إمكان هذه المحبّة أن تتفوق وتتغلّب على كل ما ليس محبّة.
فلترتفع ارتفاعاً متواصلاً، في هذه السنة، صلاة الأسر، “الكنائس البيتيّة”! ولتسمع لدى الله أولاً، ثمّ لدى البشر، حتى لا يقع هؤلاء في الشكّ، ولا يتهاوى من يهوي بهم الضعف البشري أمام الإغراء الكاذب الذي تقدّمه الخيرات التي ليس لها من الخير إلاّ الظاهر، كتلك التي تقدّمه التّجارب!
في قانا الجليل حيث دُعي يسوع إلى وليمة عرس توجّهت والدته – وكانت حاضرةً أيضاً – إلى الخدم وقالت لهم: “افعلوا كل ما يقوله لكم” (يو 2: 5). وإلينا أيضاً، نحن الذين دخلنا في سنة الأسرة، تتوجّه مريم بهذا الكلام. والذي يقوله لنا المسيح في هذه المرحلة الخاصّة من التاريخ، هو دعوةٌ صارخةٌ إلى صلاة عظيمة مع الأسر ومن أجل الأسر. والعذراء مريم تدعونا إلى الاتّحاد، بهذه الصلاة، بعواطف ابنها الذي يحُبّ كلّ أسرة. إنه عبّر عن محبّته هذه في مطلع رسالته الفدائية، أي بحضوره التقديسيّ في قانا الجليل، ذلك الحضور الذي لا ينقطع أبداً.
فلنصلّ لأجل أسر العالم كلّه. لنصلّ به، ومعه، وفيه، الآب “الذي منه تسمى كل أبوّة في السماوات وعلى الأرض” (أف 3 : 15).
تابع القراءة بتحميل الملف