ثلاثة أفعال سحرية
لحياة سعيدة
لحياة سعيدة
مواضيع تربوية
عن مجلة السالزيان الدورية نقلها للعربية الأب السالزياني بشير سكر
للجميع
كمحطة تَزَوُّد هامة للمربين هناك ثلاثة أفعال ثمينة جداً. عدم الاكتراث بها يعتبر خَسارة إنسانية فادحة. نقدّمها لكم لتُقيِّموا مدى تأثيرها:
في سبيل شفاء البشرية اليوم من إصاباتها العديدة، هناك من يراهن على الجمال كعلاج (الجمال سينقذ العالم!)؛ وهناك من يعرض الفرح كعلاج (الضحك سينقذ العالم!)؛ وهناك من يعتقد أن العمل هو العلاج (المزيد من الجهد سينقذ العالم!).
نحن نؤمن بالمعانقة كعلاج: الحنان سوف ينقذنا!
علينا الرضوخ: لقد فشِلنا! فمنذ خمسمئة عام وإلى يومنا هذا اعتقدنا أن العقل يكفينا بأفكاره الواضحة والدقيقة، كما قرر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت. خطأ يستحق “الكارت” الأحمر!
العقل لا يكفي. هناك احتياج إلى دفء. التِّقَنية ليست كافية: نحتاج الى رأفة! كباراً كنا أم صغاراً، لا يهُمّ: يكفي أن نكون من فصيلة الآدميين لكي نحتاج إلى الحُبّ!
لنتابع أحداث هذه الواقعة المؤثرة في دار للمسنين:
في أمسية ما تتوجّه إحدى المُقيمات إلى المتطوِّع ريمون قائلة: ” أسألك أن تعانقني!”
ريمون يقوم بمعانقة السيدة المُسِنّة، يُقبَّلها ويحتضنها ويتوقّف ليتحدّث معها، إنها عمياء… منذ ذلك الحين وكل يوم يذهب ريمون لملاقاتها ومؤانستها. وكل مرة تقول له تلك السيدة: “باركك الله!” وتتناول يده وتقبلها وكأنها ترى حضور الله في هذا اللقاء!…
الخبراء على يقين من أن طفلاً حُرِم من التدليل، غالباً ما يصبح شخصاً بالغاً متوتراً، قلقاً، متردداً، غير قادر على التمتع بهناء النفس وبالأمان.
قَدَّمت طفلة إلى معلمتها صفحة كتبت فيها، بمساعدة جدتها، “وَصْفَتها السحرية لاستمرارية الحياة”. كتبت تقول: ” نحتاج الى أربع معانقات في اليوم للبقاء، نحتاج إلى ثماني معانقات لنتحمّل أعباء اليوم ، نحتاج إلى اثنتي عشرة معانقة في اليوم لكي نواصل النمو”.
ليس في ذلك مبالغة. فمعانقة خمس ثوانٍ أبلغ تعبيراً من ساعة ثرثرة.
إن المعانقة أفضل تغذية نفسية أساسية للنمو إنسانياً.
الإنسان اللامبالي لا يثمر شيئاً. من يعانِق يهِب كل شيء: الحب والتقدير والأمان والحنان والطاقة. المعانقة تمنح الحياة مذاقاً إنسانياً.
الكلمات تتبخّر طَيّ النسيان…المعانقة ليست كذلك.
الدموع تكشف كم هو ضعيف الإنسان، ولكنها تظهر أيضاً كم هو طيب القلب. البكاء ليس عاراً.
في العصور القديمة كان البكاء ظاهرة عامة: أبطال الأساطير اليونانية كانوا أكثر بكاء من فتاة يافعة من يومنا هذا.
كومودوس، ابن الإمبراطور الروماني مارك أوريليوس، بكى في شبابه على أسير توفّي وكان عزيزاً عليه. وكان أفراد الحاشية يحاولون تعزيته، لكن مارك أوريليوس قال لهم:” دعوا ابني يبكي كي ينضج كإنسان، قبل أن يكون إمبراطوراً.” ويا للحكمة!!
البكاء لا ينطِق، لكنه يُظهر أننا ودعاء، مسالمون، متعاطفون: البكاء يقول أفضل من أي تعبير آخر أننا إنسانيون. إنه مِنبر يعلّم الإنسانية. كان الشاعر الفرنسي المعروف ألفونس دي لامارتين يقول:
” باستثناء الاستشهاد، الدموع هي أفضل ما يستطيع الإنسان تقديمه.”
“براعة الكلام هي موهبة كثيرين. براعة السكوت هي حكمة قليلين. أما براعة الإصغاء فهي كرم قلة نادرة”. من يُنكر حقيقة هذه الكلمات التي عبر عنها بكل صفاء أحد المفكرين؟!
هي حقيقة تفسّر أيضاً ما يمكن أن نسميه ” التصحّر الإنساني”. فالإصغاء يُعتبر مستودعاً يخزّن القيم!
أن نصغي إلى إنسان يعني أن نعتبره ذا أهمية بالنسبة إلينا، أنه إنسان يُعتَمد عليه،
يعني أننا على استعداد للتعاون وإياه، ولربط أواصر الثقة معه.
الإصغاء إذاً وليس السَّمْع فقط. السَّمْع مسألة التقاط صوتي، أما الإصغاء فهو أن ندع كلمات الآخَر تخترقنا حتى العمق وأن يتردّد صداها في داخلنا بكل قوة.
لو تحَلّى إصغاؤنا بهذه الصفات، لاستطعنا أن نُهدي مُحاورَنا تجربة إنسانية فائقة العادة، قد تغمره بالرضى أو تفتح أمامه سبيل خلاص من مأزق كان يؤرقه.
هناك قصة لطيفة تعبّر عن ذلك:
كان في قديم الأزمان صديقان يعيشان في الصين. أحدهما كان فناناً في العزف على القيثارة. أما الآخر فكان مرهَف السَمْع في الإصغاء إليه. فحين كان الأول يعزِف أو يغني أغنية تُنشِد جمال الجبال، كان الآخر يقول: “أرى الجبال وكأنها شامخة أمامي!”
وحين كان الأول يعزِف متغنّياً بالجداول تجري في الوديان، كان الذي يصغي إليه يهتف بحماس: أسمع خرير المياه تتدفّق من قلب الصخور!”
لكن، في يوم كئيب، مرض الصديق الصاغي ثم مات. الصديق العازف قطّع أوتار القيثارة وكف عن العزف نهائياً…
وبالتالي:
فنحن نعي حقً وجودنا حين نلتقي من يُصغي إلينا.