المسيح يعطي للألم معنى
الألم والفرح
الألم والفرح
مواضيع في التعليم المسيحي
سالزيان الشرق الأوسط
للجميع
عندما خلقنا الله، وجّهنا نحو السعادة ووضع فينا تعطشاً إلى سعادة لا محدودة. وقد جاء هو نفسه إلى هذا العالم ليكشف لنا عن معنى حياتنا، وما رسالته إلا وعد بالسعادة (أنظر التطويبات في الموعظة على الجبل متى 5). لما كان يستحيل على المرء أن يعيش بدون أن يتألم، فنحن بحاجة إلى سعادة لا يقوى الألم على القضاء عليها. أما الذين يعتقدون أن السعادة تتعارض مع الألم والعذاب، فلن يجدوا أبداً الاستقرار في سعادتهم.
الفرح يفرض بذل الذات:
الفرح نتيجة الجهد والتعب: لا يستطيع الإنسان أن يقدِّر جمال القمم وينعم برؤية النجوم المتلألئة في السماء، إلا بعد تسلق بطيء وجهد جهيد وعناء شديد وتعب مرير ومعاناة للجوع والعطش، وأنت أيها الشاب، وأنتِ أيتها الشابة، لن تنعما برؤية مستقبل زاهر ينفتح أمامكما إلا بعد عمل شاق دؤوب، وسنوات طويلة من الدراسة، وليس العمل الفني الخالد إلا نتيجة إعداد طويل للفكر والقلب، وتمرين للجسم، وسيطرة أكيدة على الذات. والصداقة الحقة، كما بيَّنا، تقضي وقتاً طويلاً ينضج فيه الجسم والعقل والفكر معاً، كما تقضي انفتاحاً روحياً يجنب البحث الأناني عن المصلحة الخاصة ويمهد الطريق إلى هبة الذات.
الحب الصحيح يحتاج إلى تنقية: أن يحب المرء معناه أن يتشبه بالله، وأن يفسح المجال لله لكي يُحب فينا وبوساطتنا. أن الله يستقر في من يُحب. ولكن، كما أن الضوء لا يخترق الجسم الكثيف، كذلك لا ينفذ الحب في قلب ملوث. إن الله الكلّي القداسة لا يقبل في حضرته إلا النقي والطاهر: “طوبى لأطهار القلوب، فأنهم يشاهدون الله”. وهو تعالى يريد أن يقضي على الخطيئة الكامنة فينا، لكي يطهرنا وينقينا ويجعلنا أهلاً لاستقباله. فهو أشبه بأشعة الشمس على صفحة حوض ماء ملوث، فتنقيها بقدرتها العجيبة لتنفذ فيها.
وإذا ما أراد الله أن يطهّرنا، لا يكتفي بأن يمحو خطايانا ويغفرها لنا. بل يردنا أن نشترك في عمل التطهير هذا، ولذلك يسمح بالألم.
التطهير بالآلام والعذاب: إن عمل التطهير شاق ويتم بقبول ما يؤلمنا. فعلينا إذاً أن نحمل الصليب ونتبع يسوع. وما صنعه يسوع أولاً، علينا أن نقوم به وراءه ومعه. لقد تصرف بموته على الصليب كرأسٍ للبشرية، ورسم لنا الدرب الذي يتوجب علينا أن نسلكه. ومع أنه لم يكن بحاجة إلى تطهير أو تنقية. فقد مات على الصليب ليتيح لنا، نحن الخطأة، أن نشترك في ألآمه وموته ونعود هكذا إلى الآب، على غرار ما صنع هو نفسه.
المسيحي إزاء الألم والعذاب:
إن يسوع المسيح نفسه، في بستان الزيتون، سأل أباه أن يبعد عنه كأس الألم. والمسيحي أيضاً، شأنه في ذلك شأن سائر الناس، يحاول أن يتجنب الألم، ويستخدم كل الوسائل ليتحرر منه. ولكنه لن ينظم حياته كلها ليعيش في مأمن منه، ولن يتواطأ مع الشر ليتجنبه. كان يسوع يعلم أنه لو صعد إلى أورشليم، سوف يُلقي أعداؤه القبض عليه ويحاكمونه ويصلبونه. ولكنه لم يعدل عن الصعود إليها، على الرغم من تنبيهات بطرس، لأن المسألة في نظره تقوم على إتمام رسالته حتى النهاية. وهذا ما صنعه بولس الرسول على غرار معلمه. لقد تنبأوا له أن اليهود في أورشليم، سوف يسلّمونه إلى أيدي الأمم: “فلما سمعنا ذلك أخذنا نسأل بولس ألا يصعد إلى أورشليم فأجاب: ما بالكم تبكون وتفطرون قلبي؟ لا أرضى أن أُشَد فحسب، بل أموت في أورشليم لاسم الرب يسوع” (أعمال 21،12-13).
لم يتهرب القديس بولس من العذاب بالحد من رغباته على طريقة الأبيقوريين، ولم يدع تحدي الموت بقوته الذاتية على طريقة الرواقيين، بل كان على أهبة الموت لأجل اسم الرب يسوع. فهو الذي قال أيضاً: “أستطيع كل شيء بذاك الذي يقويني” (فيلبي4: 13).
لقد أعطى يسوع المسيح الألم معنى:
يتضح لنا أن يسوع المسيح لم يأتِ إلى العالم ليُزيل الألم والعذاب من الوجود، بل أتى ليعطيهما معنى. فالألم بحد ذاته شرّ، ويذهب ضحية من يقتصر على تحمّله والاستسلام له. وهو في هذه الحالة يُقسّي القلب ويجعله صلباً كالحجر، ويزرع فيه التمرد والنقمة. وفي النهاية يحط من قيمة الإنسان.
لقد تغير معنى الألم بتألم المسيح وموته على الصليب، وأصبح علامة حب وفداء: “ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه” (يوحنا 15: 13). والموت أيضاً، وهو قمة العذاب والألم، قد أصبح في المسيح تضحية فدائية.
وعليه، لكي يتغير وجه ألآمنا وعذاباتنا، حسبنا أن نستقبلها باسم يسوع المسيح. فعندما نتعرض للألم علينا أن نحاول إبعاده عنا بشتى الوسائل، ولكن بعد ذلك، علينا أيضاً أن نلتفت بفكرنا إلى المسيح الذي مات في سبيلنا، ونتحد بتضحيته، فيصبح ألمنا بالتالي ألماً فدائياً.
فالألم هو إذاً بالنسبة إلينا وسيلة للاتحاد بالمسيح اتحاداً فعلياً، كما أنه وسيلة خلاصنا. فبه تتوثق عرى المصالحة بيننا وبين الله. إن الله يثبت فينا، وبما أنه الحب بالذات، فهو يجعلنا قادرين على أن نحب حباً صحيحاً. وذلك يعني أننا في المسيح وبفضل الألم والعذاب نصبح قادرين على بذل حياتنا في سبيل إخوتنا: “نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب إخوتنا… وإنما عرفنا المحبة بأن ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا، فعلينا نحن أيضاً أن نبذل نفوسنا في سبيل إخوتنا” (1يوحنا 3: 14-16).
لا شكَّ أن هناك وسائل شتى للاتحاد بيسوع، ولكن الألم هو أنجح وسيلة إلى ذلك. فهو الطريق الملوكي المؤدي إلى الحياة.
العذاب والفرح:
من يتحد بموت المسيح يتحد أيضاً بقيامته. لقد وجّه القديس بطرس إلى المسيحيين الإرشاد التالي: “افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه، حتى إذا ما تجلى مجده كنتم في فرح وابتهاج” (1 بطرس 4: 13). وقد بيَّن الرسل أن هذا ممكن، إذ أنهم بعد أن جُلدوا بأمر من المجلس، “انصرفوا مسرورين، بذلك بأنهم وجدوا أهلاً لأن يلقوا الهوان من أجل اسم يسوع” (أعمال 5: 41). وقد اختبر القديس بولس أيضاً هذا الاختبار الغريب. فأثناء سجنه برومة، كتب إلى مسيحيي قولوسي قال: “يسرني الآن ما أعاني لأجلكم، فأتم في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة” (1: 24).
فزمن الألم والعذاب في نظر المسيحي هو أيضاً زمن الفرح، لأنه زمن الحب.
القديسون والألم:
لقد أدرك القديسون أن غاية الحياة على هذه الأرض ليست السعادة، بل التطهير. لذلك رغبوا في الألم المطهر المنقّي. كانت القديسة تريزيا تصلي على النحو التالي: “يا رب، أو التَّألم أو الموت”. والقديسون بعامّة هم مسيحيون نظروا إلى الحياة نظرة جادة: بما أنهم صُلِبوا مع المسيح في المعمودية، أرادوا أن يستمروا في هذه الحال. ولما كان دأبهم التمثل بالمسيح، فقد أحسوا تدريجياً الحاجة إلى اللحاق به، لاسيما في تألمه، فاكتسبوا الحكمة الحقة، ألا وهي الهيام بالصليب. يقول صاحب كتاب الاقتداء بالمسيح: “وإن بلغت إلى حدّ أنك تستعذب المحن وتستطيبها، فاحسب نفسك في غبطة لأنك وجدت الجنة على الأرض. أما إذا استثقلت الشدة وحاولت الفرار منها، فلن تهنأ أبداً” (12:2).
للبحث والمناقشة: