اللوحة الزيتيّة للرسّام الهولندي ريمبراندت
عودة الابن الضال
عودة الابن الضال
مواضيع في التعليم المسيحي
سالزيان الشرق الأوسط
للجميع
أيقونة حقيقية تقود إلى السماء
لِنلْقِ نظرة إلى هذه اللوحة فنرى بسهولة المشهد الأساسي من مَثَل الابن الضال، الذي رواه لنا يسوع، وحيث يعانق الأب الابن الأصغر الذي عاد إلى البيت. ونلاحظ أيضا في المشهد الأشخاص الأربعة الباقين: الابن الأكبر، ومتفرجا جالساً، وامرأتين واقفتين بوضوح أقل من الأشخاص الباقين. لنحاول قراءة النص الانجيليّ كما ورد في إنجيل القديس لوقا (15: 11-32)، وأن ندخل في عمق كلمات الأشخاص وجملهم وحركاتهم ومواقفهم، متصوّرين أيضاً الأمكنة والمشاهد. وبعدها ننظر من جديد إلى اللوحة متوقفين عند بعض تفاصيلها. يريد الرسّام، قبل كل شيء، أن يعبّر عن خبرته الداخلية الخاصة. فهذا الفنّان ينتمي إلى فنّاني الفن الفلامينغي flamand ويمتازون بالقدرة على استعمال النور والظلمة في رسوماتهم، وأيضاً يبحثون عن الطبيعة الحقيقيّة في تلك الرّسومات، ومن جهة أُخرى كان الفنّان ريمبراندت لديه القدرة على التعبير النفسي للأشخاص من خلال رسوماته، بالإضافة إلى التّحكّم الرائع بين الظلمة والنّور وهذا واضح في هذه الرسمة للابن الضال. كان هذا الفنان يعيش حياة ترف وضياع ولكنّه في أواخر حياته ارتدّ وخاصةً بعد وفاة زوجته “ساسكيا ” وابنه “تيوس”. حيث كان في بداياته يرسم الوجوه وخاصةً للأغنياء والبرجوازييّن، لذلك أصبح غنيّاً. أمّا في أواخر حياته اتّجه إلى الرّسومات الدّينيّة، ومن أشهرها هذه الرسمة الّتي نحن بصدد التّعرّف عليها، والّتي يعبّر فيها عن ندمه وعودته إلى الله من خلال الابن الأصغر. لقد كانت هذه اللوحة من أواخر رسوماته حيث توفي في نفس السنة التي رسم فيها اللوحة.
قصة لوحة شهيرة:
إذا ذهبتَ إلى متحف سان بيترسبورغ (لينينغراد سابقاً، في عهد الاتحاد السوفييتي) في روسيا، تشاهد كل يوم طابوراً طويلاً من الزوار، الذين ينتظرون دورهم للدخول. أكثر من أي شيء آخر، يريدون أن يتمتّعوا بمشاهدة اللوحة الزيتية للرسّام الهولندي الشهير ريمبراندت (1606-1669) والمعروفة باسم “عودة الابن الضال”. يلفت نظرك أولاً فخامة قياساتها: 224 سم طولا و88، 182 عرضاً. غير أن فخامتها الحقيقية تكمن في تعابير أشخاص المشهد. اللذان يستحوذان توّاً على انتباهك هما شكلا الأب والابن الأصغر، واللذان يشكّلان وحدة واحدة في عناقهما، كما يشكّلان بدون أي شك بؤرة المشهد المركزية. ومن ثم يمتدّ النظر إلى الأشخاص المحيطين بهما: الأخ الأكبر الواقف منتصباً على قدميه، ورجل جالس يتأمّل المشهد تأمّلاً مليّاً، وامرأة واقفة تتوّج بابتسامتها هذه اللحظة البهيجة الحميمة، وامرأة أخرى في الخلف مختبئة تقريباً على خلفية معتمة. ثمة في اللوحة تلاعب كثيف بالنور والظل، ومفارقة بين الأحمر والأسود بمختلف أشكالهما، وكلّها تسحب المشاهد كي يعود باستمرار إلى البؤرة المركزية. وهذا المركز اللامنظور والخفي، والذي، مع ذلك، يملأ المكان كله، هو قلب الأب، الذي منه ينبثق كل شيء وإليه يصل كل شيء.
لقد رسم ريمبراندت هذه اللوحة عند نهاية حياته تقريباً، ومن المحتمل أن تكون إحدى لوحاته الأخيرة. وعندما نعرف حياته المضطربة، ليس من الصعب أن نرى فيها صورة لعودته إلى البيت الحقيقي، بيت الآب. عرف هذا الرسام، في أيام شبابه، الشهرة والمال، ولكن أيضاً حياة متكبّرة ومتعجرفة ومنحلّة. إن بعض رسوماته الأولى تبيّنه شاباً متسكعاً أسلم نفسه للملذات والفسق. وهذا ما يؤهّله لرسم نفسه في الابن الأصغر الذي “جمع كل شيء له، وسافر إلى بلد بعيد، فبدّد ماله هناك في عيشة إسراف” (لوقا 15: 13). ولكنه، مع مرور الأيام، هو أيضاً وجد نفسه “يشكو العوز” (15: 14): مصائب، وأكدار عائلية، وآلام، وانفصالات، وموت أحباب، ومشاكل مالية وديون، ووحدة وهجران. إن البكاء والألم والرغبة في الاستقرار، والندم، تقود خطوات الفنان من جديد إلى البيت الذي ظلّ مفتوحاً، وإلى الذراعين اللتين بقيتا ممدودتين، إلى النور الذي لم ينطفئ قط، وإلى القلب الذي لم يتوقف لحظة واحدة عن الحب. لدى اقترابه من الموت، فقد كل شيء، ولكنه، في الوقت عينه، وجد كل شيء. لقد وجد إلهه وأباه العزيز والمحبوب.
تشهد اللوحة لخبرته الحياتية وتنقلها إلينا. ولقد حصلت كاترينا الكبيرة على هذه اللوحة سنة 1776 لمتحف سانت بيترسبورغ (المدعو “الصومعة”) حيث لا تزال محفوظة. غير أن اللوحة طافت العالم ونجد نسخاً لها في الكنائس والقاعات المسكونية والبيوت وفي المجموعات الخاصة. وتعرف لوحة ريمبراندت “عودة الابن الضال” نجاحاً في دور النشر، حيث كثيراً ما نجدها في المجلات وتعاد طباعتها ويتم التعليق عليها في النشرات، وتعرض في الكنائس، وتستعمل في الرياضات الروحية. وليس بالغريب أن تكون موضع دراسات وأيضاً أطروحات دكتوراة ليس فقط في المجال الفني بل أيضاً في المجال اللاهوتي. ولقد كُتبت أيضاً حول هذه اللوحة الشهيرة مجلدات تمتاز بعمق التفسير الروحي، مما يجعلها تقوم برسالة أيقونة حقيقية تقود إلى السماء.
لنتأمل اللوحة في تفاصيلها:
إن صورة الابن الأصغر تعطي الاسم للوحة بأكملها. فالنقاد الفنيون يطلقون عليها اسم “عودة الابن الضال”. إنّه راكع أمام أبيه يرمي برأسه على صدره وكأنّه يسكب في قلب الأب كل غمّه وندامته وتعبه من الحياة، كما ويجد فيه السلام والأمان والترحاب والغفران والحب. يشبه منظره الخارجي العبد أو المستعطي بثيابه الرثّة والمغبرّة، وحذائه المتلف، وزناره المستعار، وكيس نقوده الفارغ. ما يُرى من جسده الرأس وأحد القدمين. أما الرأس فعارٍ ومحلوق، وكأنه امرئ فقد عزّة نفسه واستقلاليته.
أمّا القدم اليسرى فإنها خرجت من الحذاء وتغطيها الجراح. كل ما احتفظ به سيف صغير يتدلى على جنبه ولم تمتدّ إليه يد أحد، ويذكّر بمكانته الأثيلة. غير أن كرامة الابن، التي لم يفقدها قط، فتظهر بشكل خاص في تقاسيم الوجه: فالأعين المغمضة تشير إلى الألم والحاجة إلى الحنان، والفم الصامت يعبّر عن اعتراف قلبه الصادق. أما اليدان والرأس فإنها تستند إلى صدر أبيه وحضنه، وكأنه يعود ابناً كما كان عند الولادة وإلى حمى الحضن الوالدي. ويشير الركوع إلى الخضوع البنوّي والثقة الكاملة اللذين يقترنان بالاعتراف بالخيانة وعدم الاستحقاق.
إنه ابن كان يمتلك كل شيء، ومن ثم فقد كل شيء، وهو الآن يسترجع كل شيء. لقد أراد أن يختبر حريته ويمارس سيادته، فقرر أن يبني لنفسه حياة لوحده، بعيداً عن أبيه، وعائلته، وبيته، وبيئته الإنسانية، مستنداً فقط على سلطة المال الوهمية وعلى الصداقات المزيفة. وها إننا نرى على اللوحة إنساناً مذلولاً، مكسوراً، مسحوقاً، ضعيفاً، جائعاً، وحيداً. لقد فقد أحسن وأثمن ما عنده: الصحّة، السمعة الحسنة، الشرف، الثقة بالنفس، شجاعة الكفاح، الصداقة، السلام الداخلي، كرامة الابن، البيت العائلي. ولكنه يحسّ أنه لا يزال يمتلك الخير الأعظم، الذي يشمل سائر الخبرات كلها: أباه. لقد استيقظ فيه حبّ أبيه: “أقوم وأمضي إلى أبي فأقول له: يا أبت إني خطئت إلى السماء وإليك، ولست أهلا بعد ذلك لأن أُدعَى لك ابناً، فاجعلني كأحد أجرائك. فقام ومضى إلى أبيه” (لوقا 15: 18-20).
إن طريق العودة تبدأ من بعيد: من وعيه لخطيئته. ولكنها تبدأ أيضاً من قريب: من عمق قلبه. إن صوت الأب يرنّ فيه من جديد ويسمعه وكأنه يعيد على مسامعه هذه الكلمات: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك” (مزمور 2: 7). اليوم أيضاً أبي يحبني، واليوم أريد أن أعود إليه. ولكن السفر طويل وتتوالى الشكوك والتجارب: “ماذا أقول له؟ كيف سيستقبلني؟ هل سأكون جديراً به؟ وأخي وأمي، كيف ستكون ردود فعلهما؟ إنني تعيس مسكين ولا أستحق أن أكون واحداً من العائلة، لا أستحق أن أكون ابناً. ومن العدل أن أُعاقب. أقبل أن أكون أقلّه أجيراً في خدمة البيت”. ويصل أخيراً إلى البيت، ولكن السيناريو الذي تخيّله لم يسعفه، لأن الأب سبقه وبادره بالحبّ.
رُسِم الأب على شكل عجوز نصف أعمى، بلحية وشاربين، وسترة طويلة مطرزة بالذهب ومعطف أحمر غامق. إنه متحد بالابن والابن متحد به، ولا يمكن فصلهما. فالابن يستند إلى الأب والأب يسند الابن. ومع أنه لا يحرك ساكناً ولكنه يضفي حركة على المشهد بأكمله، وبعينيه المغمضتين يلقي ضوءاً على جميع الأشخاص، وبذراعيه الممدودتين وبيديه المعانقتين فإنه يسترعي انتباه الجميع بحبه. ومع أنه متقدم في السن غير أنه يفيض حياة جديدة في مَن هو على وشك الموت من العوز. كل شيء ينطلق منه وكل شيء يتوجه إليه، والنور المنبثق من وجهه يضيء وجوه الأشخاص الآخرين ولو بنسب متفاوتة.
يظهر هذا النور حياً وساطعاً خاصة في يديه، اللتين تصبحان مصدراً للنور والحرارة، وينفذ هذا النور المنبثق منهما إلى جسد الابن الراكع كله، ويغمر بشكل خاص صدره (مكان القلب). إنهما يدان من نار تحرقان كل شر ويمنحان حياة جديدة. إنهما يدان تلمسان وتشفيان وتعطيان الأمل والثقة والتعزية. إن هاتين اليدين تسترعيان انتباه جميع مشاهدي لوحة ريمبراندت وإعجابهم. إن زوار اللوحة الأصلية والمعجبين بنسخها يركزون دوماً انتباههم عليها. إنهما يدان متشابهتان ومختلفتان، في الوقت عينه. فاليد اليسرى قوية وأصابعها مفتوحة وتغطي جزءاً كبيراً من الكتف الأيمن للابن الضال. إنها يد تضم وتسند، وتحمل ملامح يد رجل. أما اليد اليمنى، فإنها بالأحرى رقيقة وعذبة وحنونة جداً بأصابعها المتقاربة والأنيقة التي تمتد بحنو على الكتف. إنها تداعب وتحمي وتعزي وتبعث السكينة. إنها يد أم. يدان مختلفتان لحب واحد: إنه حب الأب والأم في الوقت عينه.
كل شيء في الأب يعبّر عن الحب: الوجه المستغرق في التفكير، والثياب التي تحمي، والجسد الذي يرحب، والأيدي التي تعانق وتبارك. لقد تحوّل جسده إلى حضن يستقبل ويداه تضمّان الابن العائد وتداعباه. إنه حب بكل صيغة وتعابيره: فهو ترحيب، وغفران، وبكاء، وحنان، وعطاء، ومشاركة، وبركة، وأمنية، وفرح، وعيد، وحياة، وميراث، وسخاؤه يترك جميع الحاضرين في حالة ذهول. صحيح أن كل واحد منهم يتفاعل بطريقته الخاصة، غير أن الجميع مذهلون. إن المعطف الكبير الأحمر يلفّ الابن. فهو كالبيت المضياف، وكالخيمة التي تدعو إلى الراحة وإلى المائدة، ويشبه أكثر من أي شيء آخر جناحي نسر أو جناحي دجاجة حاضنة. والصغير يجد فيها الملجأ والقوة والأمان. إن الأب المتقدم في السن ينحني نحو الابن ليكوّن معه وحدة واحدة. إنه يستقبله على مرتفع صغير قد يكون منصّة صغيرة أو درجة البيت، وهو، في كل الأحوال، رمز للكرامة والشرف المستعادين وسمو البنوّة.
إن صورة الأب مركزية في اللوحة بحيث يمكن أن نسمّي اللوحة “استقبال الأب الرحيم”. وبعضهم يقلب الكلمات ويدعو اللوحة “الأب السخي”، السخي بعطاياه. لا تبرز اللوحة جميع هذه العطايا المذكورة في المثل الإنجيلي بشكل ظاهر: أحسن الثياب، والخاتم، والحذاء، والعجل المسمن، والمائدة الفاخرة، والجوقة الموسيقية، ولكن الرسام وضع كل هذا في قلب الأب الذي ينبع منه كل خير. والإنجيل نفسه يضع الأب في قلب المثل وفي قمة القصة: “وكان لم يزل بعيدا إذ رآه أبوه، فتحركت أحشاؤه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبله طويلا” (لوقا 14: 20). إن الفعل الأساسي هو “تحركت أحشاؤه”، أي انه تحرك في صميم قلبه.
الأب:
. إن القوة الوحيدة التي يطالب بها الآب هي قوة الحب. فهو لا يرغم لا الابن الأصغر ولا الابن الأكبر، بل يترك كلاً منهما أمام حريته. ما يريده، هو أن يكون الأبناء أبناء حقاً، أي أحراراً أن يحبوا، وأحراراً أن يختاروا. إنه يعرف أن هذا يمكن أن يؤدي بهم إلى الابتعاد، أو القطيعة، أو الإهانة، أو الطرق الملتوية، أو الضيق، أو التعاسة، كما ويعرف أن كل ذلك ينعكس على قلبه الأبوي، فيتحول ألماً وحناناً. في عمق ألمه بسبب خطايا أبنائه، يتألم الأب من أجلهم، ويمد يداه دوماً ليشفي وذراعيه ليستقبل مَنْ يعود إلى البيت، ويمنح الغفران والمصالحة والشفاء والسكينة، والأمان، والقوة. انه لا يكلّ بأن يكرر للابن الأصغر العائد وهو ينظر إلى ابنه المصلـوب: “أنت (أيضاً) ابني الحبيـب، الذي عنه رضيت” (مرقس 1: 11).
تعبّر لوحة ريمبراندت عن هذا الحب من خلال الوجه، وأيضاً من خلال اليدين. إن هاتين اليدين، يد الأب بقوتها ويد الأم برقتها، تحملان رسالة حية. إنهما تذكراننا بالكثير من كلمات الكتاب المقدس ولفتاته، خاصة كما وصل إلى ملء وحيه في يسوع. وهي كلمات ولفتات تقول إن الله يحب البشر كأب وكأم. يقول الرب: “أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك” (اشعيا 49: 15). ويسوع عينه، الذي يوحي حب الأب للبشر ويجسّده، فإنه يستعمل صورة الدجاجة الأم ليعبر عن حبه تجاه الشعب المختار، هذا الحب الذي لم يجد جواباً له: “أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها! فلم تريدوا” (متى 23: 37). إنها القصة عينها التي عاشها الابن الذي هجر البيت الوالدي، وهي قصة كل واحد منا. ومع ذلك، فإن الله يرحب بنا دائماً وما انحناؤه على الابن (أو الابنة) الذي يعود إلا صورة للعودة إلى الحياة. إن حضن الآب (راجع يوحنا 1: 18) هو ينبوع الحياة وينبوع الحياة الجديدة.
يحب الآب الجميع من غير تمييز. فهو يعانق الابن الأصغر، ويحاور الابن الأكبر حوار الحب فيخرج للقائه ولكن من غير أن يضغط على حريته: “يا بُنيّ، أنت معي دائماً أبداً، وجميع ما هو لي فهو لك” (لوقا 15: 31). إن الاحتفال بالابن الذي عاد لا يكتمل إلا إذا اشترك فيه الابن الأكبر. يريد قلب الأب أن يجلس الاثنان معاً على المائدة الواحدة. إن الآب لا يقارن بين الابنين، لأنه يحب كلاهما في الاحترام لحرية كلٍّ منهما. فالجميع، بالنسبة لله، أبناؤه المحبوبون بحب خاص وفريد وشخصي. وهذا هو التعليم عينه الذي ينقله إلينا يسوع في “مثل العَمَلة وأجرتهم” (متى 20: 1-15). فمن يحق له القول أنه غير راضٍ عن أجرته لا لسبب إلا لأن صاحب الكرم أظهر سخاءه وصلاحه للجميع؟ عندما نقوم نحن بالمقارنة، أو نطالب بالامتيازات والأفضلية، أو نفتخر باستحقاقاتنا، أو نتشكّى من نجاح أصدقائنا ومنافسينا، فيجب أن نسمع جيدا ما يقوله الرب: “أم عينك حسود لأني كريم؟” (متى 20: 15).
يدعو الأب في المثل إلى عيد كبير لابنه الذي عاد إلى البيت. ولا ينقص شيئاً لهذا العيد: الثياب، الخاتم، الوليمة، الموسيقى، الرقص. هو ذاته يرتدي ثياب العيد، ويزين البيت، ويعدّ المنصّة للابن. إنه يتجاوز تحفظات الابن الأكبر وعتابه: “قد وجب أن نتنعم ونفرح” (لوقا 15: 32). في صيغة الأمر هذه لا نلمس أمر السلطة، بل أمر الحب، والحب لا يعرف الحدود، ويتفجر فرحاً وعيداً. والفرح هذا ليس فرحاً حقيقياً إذا لم يشترك فيه جميع الحاضرين. إن متغيباً واحداً يعكّر صفو أجواء العيد.
إن الرجل، الذي يقف منتصباً على يمين المرتفع، هو الابن الأكبر. وثمة مسافة بينه وبين الأب الذي يعانق الابن الأصغر. والمسافة ليست فقط ماديّة، بل أيضاً روحية. إنه لا يشارك موقف الأب ويبدي نفوراً من الابن المتمرد، ويقف مستغرباً أمام هذه الحفاوة. في نظرته لغز. فهي تتراوح بين القسوة وعدم التصديق، بين الضائع والمتردد. إنه ينظر إلى الأب، لكن من غير أن يبدي فرحاً أو موافقة، وكأنه غير معنيّ بما يجري. إنه يودّ أن يدين، ولكنه يشعر بشكل من الأشكال أنه هو أيضاً مدان. يبدو حانقاً، ناقماً، مهاناً، ولكن ملامحه تدل أيضاً على أنه يفكر. يسأل ولكنه يشعر أنه هو أيضاً موضع تساؤل. ولِمَ لا نقرأ أيضاً في عينيه بعض التساؤلات التي تستيقظ في وجدانه؟ كهذه التساؤلات: “ها إن الابن المتمرد قد عاد، ولكن لماذا يستقبله أبي بهذا الشكل؟ ومن أنا وقد كنت دائماً مخلصاً؟ ومن أحب أباه أكثر، هو أم أنا؟ هو وحده ترك البيت أم أنا تركت البيت أيضاً؟”. ولكن يبدو أن أصوات الكبرياء وعزة النفس تطغيان عليه: ألستُ أنا الابن الأكبر؟ ألم أكن دائما مخلصا في تعاملي مع أبي إذ خدمته في كل شيء؟ فلماذا الآن يوجه لي هذه الإهانة إذ يفضّل عليّ هذا الابن المنحل؟”.
ومع ذلك، فإن نظرة سريعة تبيّن لنا أن هذا الابن الأكبر يشبه الأب أكثر مما يشبه أخاه الأصغر. فشأنه شأن أبيه، يقف على رجليه، وله لحية، ويرتدي معطفاً أحمر واسعاً يمتد على كتفيه، ورأسه تغطيه عمامة جميلة، ووجهه مضيء. ولكن نظرة أكثر عمقاً، من ناحية أخرى، تبيّن إلى أي حد يختلف عن الأب. فالأب منحنٍ، وأما هو فمنتصب بكبرياء، وعينا الأب مغمضتان، أما عينا الابن فمفتوحتان. ولكن الأب هو الذي يبصر جيداً، وأما الابن “فإنه ينظر ولا يبصر” (متى 13: 13). إن معطف الوالد واسع مضياف، أما معطف الابن فهو متصلب ويلتصق بالجسد وكأنه ملك أناني. إن أيدي الأب العجوز مفتوحتان وتستندان على كتفي الابن الذي كان ضائعاً فوجد، أما يدا الابن، الذي بقي في البيت، فهما مضمومتان وكأنهما مقيدتان، وتستندان على صدره وفيهما عصا (عصا السفر؟ العمل؟ القيادة؟). إن ضوء وجه الابن الأكبر يظل محصوراً ولا يشعّ حوله، بينما ينعكس ضوء وجه الأب على الابن ويفيض فيه الضوء والحرارة.
إن جميع هذه الاعتبارات يمكن أن تقودنا إلى أن نعطي عنوانا ثالثا للوحة ريمبراندت، بالإضافة إلى العنوانين الآنفين، ألا وهو “مثل الابنين الضالين”. إن مشاعر الضغينة والبغضاء تجعل من الابن الأكبر أيضاً ابناً ضالاً. يخبرنا المثل، الذي يرويه لنا يسوع، أن الابن الأصغر عاد، ولكنه لا يقول شيئاً عن المخرج النهائي للابن الأكبر. إنه مثل مفتوح بدون خاتمة بيّنة، والرسام الهولندي يترك الباب مفتوحاً. إن كل مستمع للمثل وكل مشاهد للوحة مدعو إلى الشعور بأنه معنيّ، مدعو إلى أن يرى نفسه في أحد الابنين وأن يعطي جوابه هو.
إن الأشخاص الآخرون ثانويون، ولكنهم يكملون اللوحة، إذ يمثّل كل واحد منهم ردة فعل شخصية لما يحدث أمامه تتسم بالمشاركة المتفاوتة أو حتى النقد وعدم الاكتراث. بجانب الابن الأكبر، نرى رجلاً جالساً ويضع رجلاً على رجل بينما يضم يديه على صدره. إنه حسن الهندام، وينطلق من وجهه إشعاعاً خفيفاً، وعيناه مفتوحتان، وفمه مغلق. إنه لا ينظر مباشرة إلى مشهد المعانقة، بل يحدّق في الفراغ. إنه يفكر، ويحلم، وينتقد، ويوافق، وتبدو عليه إمارات التردد ويتساءل كثيراً، وقد يمثّل هذا الرجل الأشخاص الذين كانوا ينتقدون تصرفات يسوع. وبالفعل، فإن أمثلة الرحمة الثلاثة (الخروف الضال، والدرهم المفقود، والابن الضال) رواها يسوع لأن “الفريسيين والكتبة (كانوا) يتذمرون فيقولون: هذا الرجل يستقبل الخاطئين ويأكل معهم” (لوقا 15: 2).
خلف الرجل الجالس، وعلى حدة قليلاً، نرى امرأة تستند إلى عامود البيت. إنها تقف بين الرجل الجالس والأب، في المركز الهندسي للمشهد تقريباً. فقط رأسها مشع ويخرج من الظل. يعبّر وجهها عن فرح مكبوت، وشكّ، واندهاش، واهتمام. قد يمثّل هذا الشخص ما يقوله مثل يسوع عن العيد والفرح والموسيقى والرقص (راجع لوقا 15: 25).
أخيراً، نلمح على الخلفية المعتمة امرأة أخرى لا يُرى منها إلا الوجه ومن الزاوية الجانبية. إنها تلقي نظرة خاطفة إلى المشهد ومن الصعب التقاط مشاعرها: الفضولية؟ التخفّي؟ التعاطف؟ الدهشة؟ الخوف؟ الرغبة في الاندماج؟
هنالك قاسم مشترك بين جميع هؤلاء الأشخاص الثانويين وهو اللغز الذي يكتنفهم والذي يمكن أن يعطي المجال لقراءات مختلفة. وهذا يعني أن اللوحة، شأنها شأن المثل الإنجيلي نفسه، لها حدودها، بمعنى أنها لا تعطي حلاً سريعاً وسهلاً لجميع الأسئلة. وفي الحقيقة، إننا لا نلمح مصالحة شاملة فجائية، أو قصّة ذات نهاية سعيدة للجميع. يبقى السؤال عن خاتمة الحوار بين الأب والابن الأكبر، والسؤال حول معنى وجود الشخص الجالس والمرأتين. إن أية مصالحة تنطوي في الحقيقة على صراع داخلي وقرار حر في اتجاه الحب.
ماذا يمثّل الأشخاص الرئيسيون؟
تبيّن لوحة ريمبراندت المشهد الأساسي من المثل الذي رواه يسوع، والأشخاص الماثلون فيها يجسّدون بأمانة الأشخاص المذكورين في المثل. ولكن يسوع، الذي يطيب له أن يتكلم بأمثال، يريد أن يعلن إنجيل الخلاص، أي هذا الخبر السار بأن الله يحبنا دائماً لأنه بالذات أب. وعليه، فإن الأشخاص المذكورين في المثل يتّسمون بالطابع النموذجي والبعد الشامل. والقارئ ذاته، الذي يتعامل مع المثل بانتباه (عن طريق القراءة، أو الإصغاء، أو المشاهدة) فإنه مدعو إلى الشعور بأنه معنيّ. وإذا ما بقي غريباً عما يجري وبعيداً عن الرسالة التي ينطوي عليه المثل، فإنه يفوّت فرصة سانحة لأن يقرع الله باب قلبه.