الكنيسة من الإفخارستيا
رسالة رسولية
رسالة رسولية
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الكنيسة جمعاء
مقدمة
الكنيسة من الإفخارستيا. تختصر هذه العبارة سرّ الكنيسة بأكمله. وهي تتميم، يحصُل في الفرح، لوعد المسيح: “وها أنا معكم طوال الأيام حتى انقضاء الدهر” (متى 28، 20). تعيش الكنيسة هذا الوعد في سر الإفخارستيا بشكل فريد. فمنذ أن بدأت الكنيسة مسيرتها الأرضية يوم العنصرة، ترافقها الإفخارستيا كلّ يوم وكل لحظة. وقد قال المجمع بحق إن الإفخارستيا هي “أساس الحياة المسيحية وقمّتها”. فسرّ الإفخارستيا يحوي كنـز الكنيسة الروحي بأكمله، أعني يسوع المسيح نفسه، فصحَنا والخبز الحيّ الذي يمنح الحياة للعالم من خلال جسده الذي يُحييه الروح القدس. لذا تنظر الكنيسة باستمرار إلى يسوع المسيح المتواجد في القربان حيث يُظهر ملء محبته.
منحني الله النعمة لأن احتفل بالإفخارستيا، أثناء سنة اليوبيل الكبير، في عليّة صهيون في القدس، في نفس المكان الذي يقول التقليد إن السيد المسيح أسّس فيه سر القربان. هناك، أخذ المسيح خبزا في يديه وباركه وكسره وأعطاه تلاميذه قائلا: “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يُبذل من أجلكم. ثم أخذ الكأس وقال لهم: “خذوا واشربوا منها كلّكم، هذه هي كأس دمي، دم العهد الجديد الأبدي، الذي يراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا”. أشكر الله الذي منحنى النعمة أن أقول، في نفس المكان، نفس الكلمات التي قالها هو، طاعة لأمره: “اصنعوا هذا لذكري”.
هل فهم الرسل الكلمات التي نطق بها السيد المسيح؟ ربما لم يفهموها. فمعنى هذه الكلمات لم يتّضح إلاّ في الثلاثيّة الفصحية، أي من يوم الخميس إلى يوم القيامة. في هذه الأيام نجد “السر الفصحيّ”، وفيها أيضا نجد “السر الإفخارستي”.
الكنيسة تلد من السر الفصحيّ. لذا تأخذ الإفخارستيا مكانها في قلب حياة الكنسية. وهذا ما نقرأه في أعمال الرسل عن الجماعة المسيحية الأولى: “وكانوا مواظبين على تعليم الرسل والحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة”. كسر الخبز يعني الاحتفال بالإفخارستيا. وما زلنا، بعد ألفي سنة، نحتفل بالسر ذاته. وفيما نحتفل بهذا السر، تتأمّل عيون نفسنا في الثلاثية الفصحيّة، وبالخصوص في خميس الأسرار وبعده. ذلك أن ما حصل يوم الخميس استباقٌ لما سيحدث في اليوم التالي، ابتداءً من النزاع في بستان الجسمانية. نرى يسوع يخرج من العليّة ويتّجه إلى بستان الزيتون، والذي ما زالت فيه بعض الأشجار التي قد يعود عمرها إلى ذلك الزمان، الزمان الذي أصبح فيه عرق يسوع “كقطرات دم تتساقط على الأرض” (لوقا 22، 44). وهكذا بدأ دمه يراق، ذاك الدم الذي أعطاه قبل قليل تلاميذَه ليشربوه. وسفك الدم يجد تمامه على الجلجلة، حيث ” يسوع، كاهن الخيرات المستقبلة، دخل الهيكل مرة واحدة، لا بدم التيوس والثيران، بل بدمه، فكسب لنا فداءً أبديا” (عبر. 9، 11-12).
ساعة فدائنا. مع أن يسوع شعر بالاضطّراب، إلاّ أنه لم يهرب حين زفّت ساعته: ” ماذا أقول؟ يا أبت نجّني من هذه الساعة؟ وما أتيت إلاّ لتلك الساعة (يوحنا 12، 27). يرغب يسوع أن يبقى التلاميذ في صحبته، ومع ذلك يرى أن عليه أن يختبر محنة الوحدة والعزلة: “أهكذا لم تستطيعوا أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة” (متى 26، 40 –41). فقط يوحنا بقي واقفا تحت الصليب، مع مريم وبعض النسوة. كان النزاع في بستان الزيتون مقدمة للنزاع على الصليب. وعندما نحتفل بالإفخارستيا في كنيسة القيامة، نعود بشكل عفوي إلى “ساعة” يسوع، ساعة الخلاص والمجد. كل كاهن يحتفل بالإفخارستيا، يعود، هو والشعب الذي يشترك معه في الصلاة، إلى تلك “الساعة”. “وصُلب ومات وقبر وقام في اليوم الثالث”. تُقابل هذه الكلمات من قانون الإيمان، ما نقوله في تكريم الصليب: “هوذا عود الصليب الذي عليه عُلّق خلاص العالم، هلمّوا نسجد له”. تلك هي دعوة الكنيسة إلى جميع المؤمنين مساء الجمعة العظيمة. وتكتمل هذه العبارة بما تنشده الكنيسة بعدئذ في الزمن الفصحيّ: ” قام الرب من القبر، قام من عُلّق من أجلنا على الخشبة، هللويا”.
هذا سر الإيمان. يقول الكاهن هذه الكلمات فيجيب الشعب: “إننا نخبر بموتك ونعترف بقيامتك وننتظر مجيئك في المجد”. تشير الكنيسة في هذه الكلمات إلى سرّ آلام المسيح، كما تشير إلى سرّها هي. فالكنيسة من الإفخارستيا. فإن كانت الكنيسة رأت النور بقوة الروح القدس يوم العنصرة وبدأت مسيرتها في تاريخ البشر، فلا شك أن وضع سرّ الإفخارستيا في علية صهيون هو لحظة تأسيسها الحاسمة. فأساسها وقمّتها هي الثلاثية المقدّسة، والتي نجدها بشكل مسبّق ومكثّف الى الأبد في هبة الإفخارستيا. وفي هذه الهبة يعهد المسيح إلى الكنيسة بتأوين سرّه الفصحيّ في الزمان والمكان. في هذه الهبة، جعل المسيح “تزامُنا” سريّا بين الثلاثية الفصحية وسير الدهور. التفكير في هذه الأمور يملأنا اندهاشا ومشاعرَ شكر. ففي الحدث الفصحيّ وفي الإفخارستيا التي تأوِّنه عبر القرون، هناك مضمون ضخم، يحتوي التاريخ من حيث أنّه هدف النعمة والخلاص. وهذه المشاعر يجب أن تملأ الكنيسة التي تحتفل بالإفخارستيا، وأن تملأ بنوع خاص خادم الإفخارستيا، فهو الذي يقيم سر الإفخارستيا، بقوّة النعمة التي حصل عليها برسامته الكهنوتية. وهو الذي يلفظ كلمات التقديس، بقوّة المسيح في العليّة: “هذا هو جسدي… هذا هو دمي المهراق من أجلكم…” يلفظ الكاهن هذه الكلمات، أو بالأحرى يضع فمه وصوته تحت تصرّف المسيح الذي قال هذه الكلمات في علّية صهيون، والذي أراد أن تُعاد هذه الكلمات إلى أبد الدهور من خلال الذين يُشرِكهم في كهنوته.
أريد بهذه الرسالة أن أجدّد مشاعر الإعجاب الإفخارستيّ، في خط الوصية التي أعطيتُها الكنيسةَ في نهاية الاحتفالات باليوبيل الكبير، وفي الرسالة عن المسبحة الوردية. التأمل في وجه المسيح، والتأمل به مع مريم، هذا هو البرنامج الذي وضعتُه للكنيسة في فجر الألفية الثالثة، داعيا إياها إلى التقدم في عالم البشر بشجاعة وحماس التبشير الجديد. والتأمل في وجه المسيح يعني التعرّف عليه في جميع مظاهره، وخصوصا في سر جسده ودمه. فالكنيسة تعيش من المسيح الإفخارستيّ، ومنه تتغذّى وبه تهتدي. الإفخارستيا سرّ إيمان، وسرّ نور. وفي كل مرة تحتفل فيها الكنيسة بسر القربان، يختبر المؤمنون ما اختبره تلميذا عماوس: “فانفتحت أعينهما وعرفاه” (لوقا 24، 31).
منذ أن بدأت خدمتي كخليفة بطرس، أردت أن أبعث برسالة خاصة إلى جميع كهنة العالم يوم خميس الأسرار. وأريد في هذه السنة الخامسة والعشرين من خدمتي أن أدعو الكنيسة كلها إلى التفكير في الإفخارستيا، وأشكر الرب على نعمة الكهنوت والقربان الذي هو “هبة وسر”. وإن تعمّدت أن أضع هذه السنة الخامسة والعشرين من خدمتي تحت حماية مريم العذراء سيدة الوردية، للتأمل في وجه المسيح على غرارها، لا يمكن أن يمرّ خميس الأسرار هذه السنة دون أن نتأمل في “وجه المسيح الإفخارستي”، للتأكيد على مكانة الإفخارستيا المركزية في حياة الكنيسة. فالكنيسة تتغذّى بهذا “الخبز الحي”. كيف لا ندعو العالم كلّه إلى تجديد خبرته باستمرار بالخبز النازل من السماء؟
عندما أفكّر بالإفخارستيا، ككاهن وكأسقف وكخليفة بطرس، أعود بذاكرتي إلى جميع الأماكن التي احتفلت بها بهذا السر. أولا الكنيسة الراعوية حيث خدمت في أبرشية كراكوفيا ثم في كاتدرائية فافل Wawel ثم في كاتدرائية القديس بطرس وفي الكثير من الكاتدرائيات والكنائس في مختلف بقاع العالم. احتفلت بالإفخارستيا في معابد صغيرة في الجبال، وعلى شواطئ البحار والبحيرات، كما احتفلت بالإفخارستيا في ساحات واسعة في مختلف المدن… وتنوّع الأماكن هذا يحملني على التفكير بالبُعد الكوني لهذا السرّ. أقول البُعد الكوني لأننا عندما نحتفل بالإفخارستيا في كنيسة صغيرة في قرية نائية، فنحن نحتفل بها على مذبح العالم. الإفخارستيا رباط يجمع بين الأرض والسماء، وهي تتغلغل في الخليقة بأكملها، ذلك أن ابن الله تجسّد ومات ليُعيد الخليقة بأكملها إلى أبيه السماوي في نشيد تسبيح. وهو الذي يدخل المعبد الأبدي بذبيحة جسده ودمه، ويعيد الخليقة المفتداه الى الآب الخالق. ويقوم بذلك بقوة كهنوت الكنيسة الخِدَمي ولمجد الثالوث الأقدس. نحن هنا أمام سر الإيمان الذي يتحقق في سرّ الإفخارستيا. فالعالم الذي خرج من يد الآب يعود إليه بعد أن افتداه يسوع المسيح.
الإفخارستيا هي حضور المسيح الخلاصي وسط الجماعة المسيحية وغذاؤها الروحي، وهي في نفس الوقت أثمن ما تملكه الكنيسة في مسيرتها التاريخية الطويلة. من هنا نفهم الاهتمام الخاص جدا الذي توليه الكنيسة لهذا السر، ويظهر هذا الاهتمام في تعليم البابوات. كيف لا نقدّر ما قاله المجمع التريدنتيني عن الإفخارستيا؟ فما قاله هذا المجمع أنار تعليم الكنيسة لعدّة قرون. وفي العصور الحديثة نذكر رسالة البابا ليون الثالث عشر Mirae caritatis (1902) ورسالة البابا بيوس الثاني عشر Mediator Dei (1947)، ورسالة البابا بولس السادس Mysterium Fidei (1965). ومع أن المجمع الفاتيكاني الثاني لم يخصص وثيقة لسر الإفخارستيا، إلاّ أنه تناول موضوع الإفخارستيا أكثر من مرة، لا سيما في الوثيقة “نور الأمم”، و” الليتورجيا المقدّسة”. كما تناولت أنا أيضا بعض جوانب السر الإفخارستيّ في رسالة Dominicae cenae (1980) تكلّمت عما يعنيه سر الإفخارستيا، لا سيما بالنسبة لخادم السر. وأعود اليوم لمعالجة نفس الموضوع، بينما تتردّد في داخلي كلمات صاحب المزامير: “ماذا أردّ إلى الرب عن جميع ما كافأني به. آخذ كأس الخلاص وأدعو اسم الرب” (مزمور 115، 11-12).
ومقابل دعوات تعليم الكنسية الرسمي، شهدت الكنيسة نمّوا روحيا داخليا. لا شك ان الإصلاح الليتورجي الذي قام به المجمع أثمر ثمارا روحية غزيرة على صعيد مشاركة الشعب المؤمن في سر الإفخارستيا. ثم إن عادة السجود للقربان الأقدس ازدادت في أكثر من مكان، وأصبحت تمثّل منبع نعم وقداسة للكثيرين. أضف إلى ذلك مشاركة شعبية كبيرة للتطواف الذي يقام هنا وهناك بالقربان الأقدس. وهنالك علامات أخرى إيجابية كثيرة في هذا المجال. لكن يجب القول، مع الأسف، إن هنالك أيضا أماكن هُجرت فيها عادة التعبّد لسر الإفخارستيا، إضافة إلى بعض الممارسات الخاطئة التي لا تنم إلى العقيدة الصحيحة بصلة. هنالك أيضا تفسيرات ناقصة لهذا السر، وحصر معناه في مجرّد لقاء أخوي. وهنالك أيضا تهميش لدور سرّ الكهنوت الخدمي في إقامة السر… وينتج عن ذلك بعض الاحتفالات المسكونية بسر القربان والتي – بالرغم من النية الصادقة من قبل القائمين عليها – لا تحترم قدسية السر كما تؤمن به وتعلّمه الكنيسة. كيف يمكننا ألاّ نتألم من هذه الممارسات؟ فالإفخارستيا سرّ عظيم ولا يمكن السماح عن ممارسات لا تتقيّد بهذه القدسية. آمل أن تساعد هذه الرسالة في انقشاع ما يحوم حول سر الإفخارستيا من أخطاء، فيعود السر يشعّ بهاء وعظمة وقدسية.
تابع القراءة بتحميل الملف