الكتاب المقدس
كلام الله أم كلام البشر
كلام الله أم كلام البشر
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب السالزياني داني قريو
للجميع
الوحي: هو إعلان الله ذاته للإنسان وكشف حقيقته له.
الإلهام: هو قبول الإنسان وحي الله فيصبح ملهماً ويعبِّر عن حقيقة الله المعلنة، بلغته، بثقافته، وفي بيئته ويؤيده الروح القدس.
المخطوط: هو ما كتب باليد أو خط باليد.
أهمية المخطوطات:
للمخطوطات القديمة قيمة تاريخية، تعود إلى دلالتها الثابتة، وإلى شهادتها الحية على مصداقية الأقوال والأحداث وقيمة حضارية، إذ تعني وتعمِّق معرفتنا بحضارات الشعوب، وبتطورها الروحي والمادي.
لم يعثر على النصوص المقدسة الأولى، التي كتبها مؤلفوها الملهمون أصلاً؛ إلا أنَّ العناية الإلهية سهرت على سلامة نصوص الكتاب المقدس، مادياً (ما يتعلق بسلامة المفردات) وصورياً (ما يتعلق بفهم المفردات والتعبير) معاً، إذ وردت أجزاء في مخطوطاتٍ متفرقة وفي أزمنةٍ مختلفة.
مخطوطات العهد القديم:
قبل نفي الشعب اليهودي إلى بابل 586 ق.م لم يكن اهتمام بالغ بكتابة النصوص المقدسة بل كانت هناك عفوية وروحانية خاصة تتناقل النصوص وتعيشها. أما في المنفى وبعده، فأصبح الاهتمام بالغاً بجميع النصوص، وترتيبها، والسهر على سلامتها، كي تبقى لشعب التوراة، ميزته الخاصة.
وكانت تُكتب المخطوطات باللغة العبرية، ولكن عندما انتشرت اليونانية في منطقة حوض المتوسط تبنى اليهود هذه اللغة فترجموا التوراة من العبرية إلى اليونانية.
مخطوطات العهد الجديد:
كُتبت مخطوطات العهد الجديد باللغة اليونانية أما كتّابها فكانوا من أصلٍ سامري ماعدا القديس لوقا، الذي كان من أصلٍ انطاكي “وثني أو هليني” فأطغوا عليها طابعهم.
كتبت نصوص العهد الجديد على أوراق البُردي (نبات مائي كالقصب، كان الأقدمون يستعملون قشره لصنع صفائح للكتابة) مما يؤدي إلى تلفها فكان من الضروري أن تُنسخ المخطوطات البردية كل خمسين سنة على بردية جديدة حفظاً للنصوص من التلف.
والمخطوطات الموجودة لدينا تعود إلى ما قبل القرن الرابع المسيحي. أما المخطوطات الجلدية (أغلبها من جلد الغزال) فتعود إلى ما قبل القرن التاسع المسيحي.
إن تعبير كتّاب الكتاب المقدس عن الحقائق الإيمانية أتخذ أشكالاً متنوعة فالحركة نوع من التعبير، والكتابة نوع آخر، النحت، الرسم، الموسيقى… كلّها وسائل تعبير عن حقيقة يختبرها الانسان في حياته. (فمثلاً بيتهوفن كتب رسالة إلى صديقته بواسطة الموسيقى وسماها على اسمها إليزا وهي من أجمل ما كتب).
الإنجيليون الأربعة:
أنَّ كُتّاب الإنجيل وضعوا أعمالاً متمايزة، فكل إنجيلي يعطي رؤيته عن شخص يسوع، وعن حياته، وعن رسالته.
* تأكيدات نقضها العلم منذ زمن:
رواية الخلق في 6 أيام: (تك 1-2).
روايات عن العنف والغدر والجريمة: (تك 34)؛ (2صم13).
دوران الشمس حول الأرض: (يشوع 10/12-15).
* اختلاف في نقل أقوال يسوع:
“الأبانا” (متى 6/9-13)؛ (لو11/2-4).
كلام التقديس: متباين في (متى26/26-29)؛ (مر14/22-25)؛ (لو22/15-20)؛ (1قو11/23-25)
ليس الكتاب المقدس كتاب علوم طبيعية، فقد اهتم الكاتب الملهم بالتعبير عن الحقائق الدينية من خلال حضارته وعلوم عصره. (رغم معرفتنا العلمية للأمور نقول طلعت الشمس وغابت الشمس، ونتغزل بالقمر ونشبّه به وجه الحبيب).
ومن هنا فإنّ ما يجب التوقف عنده هو الرسالة الدينية، وأخذها بعين الاعتبار. فرواية الخلق، مثلاً تؤكد على أنّه:
أولاً: الكون بأسره يستمد حقيقة وجوده من الله.
ثانياً: الإنسان والمادة متضامنان في مصير واحد صمَّمه الله. وهذا المصير مرهون بإرادة الإنسان الحرّة التي مالت إلى الشر وابتغت استقلالاً عن الله.
ليس الكتاب المقدس كتاب تاريخ عالمي عام. فهو يتحدث عن تاريخ الشرق الأوسط، ويذكر الإمبراطوريات التي عرفها في زمانه، كمصر، أشور، بابل، فارس، روما. ولم يأتِ أبداً على ذكر الشعوب المعاصرة في الهند والصين واليابان…
سفر التكوين يخبرنا عن أصل الشعوب، والأعراق، التي عرفها الشعب؛ عن تحدُّر البشر جميعاً، من آدم وحواء، وبعد الطوفان، من سام وحام ويافث.
هذه الأخبار مرفوضة تاريخياً وعلمياً، ولكنها تعبّر عن حقيقة أساسية، وهي أنّ الشعب الذي تجلّت من خلاله حقيقة الله، يدخل في إطار تاريخ البشرية العام، الذي تشدّه إليه رابطة القرابة، وأنّ الله اختاره وحمّله رسالةً للبشرة جمعاء.
ليس الكتاب المقدس بحثاً منهجياً في الدين والأخلاق. ففي العهد القديم نجد آراء وأفكار عن الله تبدو غريبة ومدهشة:
فنرى الله كالإنسان: غيور، حسود، غضوب، يأمر بقتل أعداء اسرائيل. يساعد اسرائيل على حساب سائر الشعوب ومع ذلك فهو رحوم، غفور، أمينٌ لوعوده وعهوده..
بعض الطقوس هي أقرب إلى السحر منها إلى الإيمان بالله: إقامة العهد مع ابراهيم (تك15)
تصرفات بعض المختارين: كذب ابراهيم في مصر، وادعى أنّ امرأته سارة هي أخته (تك12/10-14)
الكتاب المقدس هو قصة حب بين الله والانسان، هو لقاء الله بالإنسان ولقاء الإنسان بالله. لقاء شخصين في العمق يحتاج إلى وقت طويل ويتم مع مر الزمن. فالفكرة التي نكوّنها أحياناً عن الآخر لا تطابق الواقع، أما العلاقة، فكفيلة بكشف الأمور والوصول إلى الحقيقة. إن الكتّاب الملهمين قدّموا لنا اللقاء بين الله والإنسان، واكتشاف الواحد للآخر.
اللقاء مع الله صعب، بالنسبة إلى الإنسان الذي يفضل أن يجعل من الله فكرة تستجيب لرغبته العفوية. يريده شخصاً يضمن له الحياة والنجاح دون مخاطر.
الكتاب المقدس يروي لنا كيف ابتعد الشعب عن الله، وكيف الله، بمحبة عظيمة تلقائية، لا ينفك يفتش عن الإنسان، ويكشف له عن ذاته من خلال الأحداث. فالله يقيم علاقة حب الإنسان، الذي يتنكر أحياناً لها. وذروة هذا الحب كانت يسوع المسيح الذي منه شعّ النور كلّه.
الكتاب المقدس هو كلام الله في كلام البشر. وهو كتاب يتكلم فيه الله:
“إنّ كلام الله، الذي عُبِّر عنه بلغة البشر، صار شبيهاً بالكلام البشري، كما حدث، فيما مضى من الأزمة، بأن صار كلمة الله الأزلي شبيهاً بالبشر، بعد أن أخذ جسد ضعفنا البشري”. فكما أن المسيح إله وإنسان، كذلك الكتاب المقدس إلهي وإنساني معاً (المجمع الفاتيكاني، في الوحي الإلهي، فصل 13).
قصة الخلق:
هي الإيمان بأن محبة الله هي التي أوجدت الخلائق كلها وإن العالم ليس وليد الصدفة (رمي الأحرف بالصدفة تشكل بيت شعر موزون كم بالأحرى الإنسان) بل ثمرة اختيار الله وقصده المحب (الخلائق تُصنع تُنشئ لكن لا توجد، الله يعطيني الوجود من خلال نشأة مرتبطة بالوالدين، ارتباط القلم بصانعه ليس ضروري، مات الصانع يستمر القلم بالكتابة على عكس ارتباطي بالله خالقي). فالإيمان بالله الخالق هو نتيجة لقاء بين كشف الله عن ذاته وخبرة الانسان لمحبة الله.
في العهد القديم: اختبر اليهود محبة الله المخلص الذي أنقذهم من عبودية مصر وانطلاقاً من هذه الخبرة راحوا يتأملون في الإله الخالق. الإله الذي أحبهم وخلّصهم هو نفسه الإله الذي أحبهم وخلقهم وخلق الكون بأسره.
في العهد الجديد: ظهر خلاص الله في شخص يسوع المسيح وانطلاقاً من الإيمان بالله الذي خلّصنا عبّر الرسل والمسيحيون الأوائل وإيمانهم بالله الذي خلقهم بالمسيح.
الكتاب المقدس ليس كتاباً علمياً يحتوي دروساً في علم الكون أو في علم الأحياء. إنما كتاب ديني يحوي تعاليم عن علاقة الكون بالله خالقه. وعندما يتعمّد إلى وصف عمل الله الخالق لا يستطيع أن يصفه إلا في إطار الصورة التي كان البشر في القديم يرون فيها العالم. (الأرض منبسطة على شكل مربع وفوقها أحواض مليئة بالماء ومعلقة في السماء و…).
فالله لا يكلمنا إلا عن طريق البشر والكتاب المقدس الذي هو كلام الله لا يمكنه أن يعطينا تعاليمه (لا يستطيع التكلم باللغة الإنكليزية مع شعب لا يفهم الإنكليزي إلا في لغة الشعب الذي نشأ فيه وفي عقليته وتصوراته للكون. فلا بدَّ من فهم تلك العقلية وتلك التصورات لاكتشاف الله وإدراك تعاليمه المقدسة. (بولس في الأريوباغوس يتكلم بحسب عقليتهم الإله المجهول).
الرواية الأولى: القرن السادس ق.م أثناء الجلاء:
نلاحظ أولاً أن لفظة الله تتكرر تقريباً في كل آية من آيات هذا الفصل. “خلق الله” “قال الله” “رأى الله” “سمّى الله” “فصل الله” “صنع الله” “باركها الله”. لا يقصد الكتاب المقدس وصف الخلائق وتكوينها بقدر ما يقص إظهار علاقتها بالله الخالق؛ فالله وحده أصل جميع الكائنات وهو مبدع كل الكائنات.
“ورأى الله ذلك أنّه حسن” تعاد هذه العبارة ست مرات ويؤكد الكاتب أنّ جميع ما صنعه وفي ذلك الحكم إعلان لجمال العمل الذي قام به الله وتركيز على قيمة الخلائق، ليس في تكوينها البيولوجي، بل في علاقتها بالله. فالله هو الذي أرادها لذلك لها قيمة كبرى في ذاتها.
نلاحظ أنّ الكائنات قد برزت للوجود في تدرج تصاعدي وفقاً لأهميتها. ثم توّج عمله بخلق الإنسان على صورته كمثاله ليتسلط على جميع الخلائق.
يُخلق الانسان “على صورة الله كمثاله” تقوم صورة الله في الإنسان على اشتراك الإنسان في سيادة الله على سائر الخلائق. وتلك السيادة تفرض العقل والحرية والارادة.
إن الكاتب وزّع على ستة أيام، وما ذلك إلا طريقة تعليمية تظهر في عمل الله مثالاً لعمل الإنسان وتؤكد ضرورة تقديس يوم الرب كما جاء في الوصية.
الرواية الثانية: القرن العاشر قبل الميلاد عهد سليمان النبي:
وجمعت الروايتان بعد الجلاء ودونتا في الفصلين الأولين في الكتاب المقدس.
يبدو لنا الله في هذه الرواية أيضاً الإله الوحيد الذي خلق وحده كل شيء وتتميز بأنها تنسب إلى الله أعمالاً انسانية فالله يجبل تراباً وينفخ فيه. من البديهي أنه إله روح وليس له جسد ولا يدان ليجبل التراب، لكن الكاتب استخدم هذه الصورة ليؤكد أنّ الانسان من صنع الله في جسده وروحه.
إنّ لفظة عدن مشتقة بالعبرية من أصلٍ يعني “النعيم”، وتشدد على محبة الله للإنسان، فبعد خلقه وضعه في جنة نعيم فيها كل ما يتمناه المرء ويشتهيه.
“وأخذ الرب الإله الانسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها” ويعتبر الكاتب عمل الانسان أمراً أراده الله منذ أن خلقه فليس العمل في ذاته قصاصاً على الخطيئة الأولى أما نتيجة الخطيئة ستكون المشقّة في العمل فالخطيئة تحدث خللاً في طبيعة الانسان وفي علاقته مع الله ومع الآخرين ومع الكون.
“وبعد أن خلق الله الحيوانات “أتى بآدم ليرى ماذا يسميها”. إن الله قد أعطى الانسان السيادة على الحيوانات