الصليب خشبة الخلاص
لماذا اختار السيد المسيح أن يموت مصلوباً؟
لماذا اختار السيد المسيح أن يموت مصلوباً؟
مواضيع في التعليم المسيحي
سالزيان الشرق الأوسط
للجميع
لماذا الصليب؟
إن عمق الصليب يتعلق بمفاهيم ومعانٍ في خطة الله لخلاص الإنسان. فالقديس بولس الرسول يقول “إن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأمّا عندنا نحن المُخلّصين فهي قوة الله” (1كو1: 18). لذلك لم يكن الصليب مجرد وسيلة للإعدام.
الصليب روحياً:
الصليب يدخل في أعماق مشاعر الإنسان وفكره الروحي وأبعاد عمل الروح القدس في داخله. فقد كان الصليب بالنسبة للقديسين هو موضوع عناق قوي في علاقتهم بالله. وهو موضوع تأمل وممارسة حياة يومية. هو قوة الله للخلاص. فالصليب له معانٍ تدخل إلى أعماق النفس بقوة الروح القدس حتى ولو لم يدرك الإنسان تلك المعاني. الصليب هو قوة وغلبة وانتصار وحياة بالنسبة لنا. فلماذا إذاً؟
لماذا مات المسيح مصلوباً:
1 – بالصليب صار هو الكاهن والذبيحة:
لم يكن السيد المسيح هو مجرد ذبيحة قُدِّمت عن حياة العالم لكنه كان هو الكاهن وهو الذبيحة في آنٍ واحد. فإذا كان قد تم ذبحه على الأرض مثلاً؛ سيكون في هذا الوضع ذبيحة وليس كاهناً. ولكن على الصليب هو يرفع يديه ككاهن وهو في نفس الوقت الذبيح المعلّق. فالناظر إليه يراه ككاهن يصلي وفى نفس الوقت يراه ذبيحاً ويقول “فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا” (1كو 5: 7). هو يشفع في البشرية أثناء تقديمه لذاته كذبيحة. لذلك رآه يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا مثل “خروف قائم كأنه مذبوح” (رؤ5: 6).
الجرح الداخلي أعمق:
كان لابد أن يكون السيد المسيح قائماً؛ فلا يمكنه أن يكون ملقى أثناء ممارسته لعمله كرئيس للكهنة. لذلك فإن عملية الذبح كانت داخلية (بالرغم من وجود جراحات مثل آثار المسامير وإكليل الشوك) لكن الجرح الأساسي كان داخلياً. وهنا تظهر نقطة عميقة في محبة الله، وهي تتمثل في شخص السيد المسيح أنه مذبوح في داخله كما يقول بولس الرسول “في أحشاء ربنا يسوع المسيح” (فى1 :8) فالذبح الداخلي أصعب بكثير من الذبح الخارجي وفى هذا يقول الشاعر:
“وظُلم ذوي القُربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحُسام المُهندِ”
فوقع السيف الحاد أخف من ظلم ذوي القرابة. ويقول الكتاب في هذا المعنى “ما هذه الجروح في يديك؟! فيقول هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي” (زك13: 6).
النزيف الداخلي:
السياط التي جُلد بها السيد المسيح كانت مصنوعة من سيور البقر وفى أطرافها عظم أو معدن، لذلك فقد مزّقت الشرايين المحيطة بالقفص الصدري وأحدثت نزيفاً داخلياً. فلما ضربه الجندي بالحربة كان الدم عندئذ يملأ القفص الصدري فسال الهيموجلوبين الأحمر بلون الدم ثم البلازما الشفافة ثم السوائل الخاصة بالأوديما (أي الارتشاح المائي). هذه التي عبّر عنها ببساطة القديس يوحنا أنه بعدما طعن في جنبه بالحربة “خرج دم وماء” (يو19: 34). وقد رأى القديس يوحنا مركبات الدم مفصولة لأن السيد المسيح كان قد أسلم الروح في الساعة التاسعة وعندما طعنه الجندي قرب الغروب كان قد مضى حوالي ساعتين.
مات ذبيحاً:
اهتم القديس يوحنا أن يذكر واقعة خروج الـدم والماء لكي يؤكّد أن السيد المسيح مات ذبيحاً. ويقول و”الذي عاين شَهِد وشهادته حق” (يو19 :35). كانت رقبة السيد المسيح سليمة نسبياً والصدر سليم نسبياً بحسب الظاهر خارجه بينما كان النزيف حاد من الداخل. في الخارج كانت تظهر آثار ضربات السياط، بالإضافة إلى الجروح التي كانت في اليدين والقدمين، وقد أحدثت نزيفاً خارجياً لكنه محدود. فالمصلوب كان يمكن أن يبقى معلقاً على الصليب ويتعذب وقد لا يموت إلا بعد ثلاثة أيام. ولكن كان يهّم القديس يوحنا الإنجيلي جداً أن يؤكّد أن السيد المسيح هو خروف الفصح الذي ذُبح لأجلنا، لذلك أكَّد نزول الدم والماء من جنبه لكي نعرف أنه ذُبح.
سبب الهبوط في القلب:
النزيف الداخلي الحاد الذي تعرَّض له السيد المسيح نتج عنه أن كمية الدم الباقية في الدورة الدموية كانت بسيطة جداً. لذلك احتاج القلب أن يعمل بسرعة لتعويض الدم المفقود. ولكي يعمل بسرعة، كان القلب نفسه كعضلة، يحتاج لكمية أكبر من الدم. ولكن الشرايين التاجيّة التي تغذّي القلب لم يكن في إمكانها أن تقوم بهذا الدور لقلة كمية الدم الواصل إليها نتيجة للنزيف. وإذا كانت سرعة ضربات القلب في الإنسان الطبيعي هي سبعين نبضة في الدقيقة ففي حالات النزيف ترتفع إلى 140 نبضة. وكل هذا يجهد عضلة القلب فتصل إلى مرحلة الهبوط الحاد جداً في الجزء الأيمن منها ويؤدى ذلك إلى الوفاة.
صرخة الانتصار:
كان السيد المسيح يقترب من هذه اللحظة الأخيرة، وهنا وفي آخر لحظة صرخ بصوت عظيم وقال “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” (لو23: 46). وقد كانت هذه الصرخة هي صرخة انتصار. لأنه لأول مرة منذ سقوط أبينا آدم من الفردوس يستطيع أحد أن يقول “في يديك أستودع روحي” فكل من مات لم يستطع أن يستودع روحه في يدي الآب بل كان إبليس يقبض على تلك النفوس. وإذ صرخ السيد المسيح بصوت عظيم رغم حالة الإعياء الشديدة التي كان يعاني منها إنما أراد بذلك أن يلفت النظر إلى عبارة الانتصار هذه. وهذه هي أول مرة منذ سقطة آدم يضع ذو طبيعة بشرية روحه في يدي الآب.
صار السيد المسيح هو القنطرة أو الجسر الذي يعبر عليه المفديون من الجحيم إلى الفردوس وإلى ملكوته. وقد خاب أمل الشيطان في هذه اللحظة لأنه رأى أمامه قوة الذي انتصر بالصليب. وفى قداس للقديس يوحنا ذهبي الفم يقول:” عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذي لا يموت حينئذ أمتَّ الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى صرخت نحوك القوات السماوية أيها المسيح الإله معطي الحياة المجد لك”. فقد أبرق السيد المسيح حينما سلّم روحه في يدي الآب. وبتعبير آخر: “أصبح كالبرق وأفزع كل مملكة الشيطان”.
أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان وكان يقول “نفسي حزينة جداً حتى الموت” (مر14: 34). كان يجاهد ويأتي ملاك ليقويه في الصلاة من أجل إخفاء لاهوته عن الشيطان ولكن في اللحظة التي أسلم فيها روحه على الصليب؛ أي عندما غادرت روحه الإنسانية الجسد، في الحال أبرق بمجد لاهوته، لذلك يقول “إذ جرّد السلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه (في الصليب)” (كو2: 15). فقد تحوّل الموقف تماماً وكأن الشيطان يقيم حفلاً أو وليمة وأحضر معه كل بوابات الجحيم وكل قوات الظلمة لتحيط بمنطقة الجلجلة فوقف أمامه من “خرج غالباً ولكي يغلب” (رؤ6: 2) ففزعت من أمامه كل هذه القوات حينما أبصرت مجد لاهوته.
2- بالصليب كان هو الميت القائم:
كان لابد أن يكون المسيح هو الذبيحة التي ذبحت وهي تصلي أي وهي قائمة. فبعدما مات وسلّم الروح على الصليب كان المشهد في غاية العجب: إنه ميت وقائم في نفس الوقت. ذلك لأن المعلّق على الصليب تحمله رجلاه، لذلك عندما جاءوا ليكسروا ساقي السيد المسيح وجدوه قد أسلم الروح فلم يكسروهما فهو واقف على قدميه فعلاً، وقد سلم الروح وهو واقف، وهذه إشارة إلى أنه في أثناء موته هو القائم الحي. ليس معنى هذا أنه لم يمت حقاً لكن هذا رمز إلى أن “فيه كانت الحياة” (يو1: 4). فهو قد أسلم الروح لكن قوة الحياة كائنة فيه. وحتى وهو قائم من بين الأموات كان محتفظاً بالجراحات لكي نراه مذبوحاً وهو قائم. أي أنه وهو مذبوح: هو قائم، وهو قائم: هو مذبوح. كما ورد أيضاً في سفر الرؤيا أنه “خروف قائم كأنه مذبوح” (رؤ5: 6). فلا يمكن إذاً أن يُحرق أو يموت غريقاً لأن هذه المعاني لن تتفق في هذه الميتات.
3- بالصليب صالح الأرضيين مع السماويين:
هل السيـد المسيـح يُمثل الله في وسط البشر أم يمثل البشر أمام الله؟ بالطبع هو الأمران معاً في وقت واحد. هو ابن الله وهو ابن الإنسان في نفس الوقت. بدون التجسد كان السيد المسيح سيبقى ابنا لله والبشر هم أبناء الإنسان. ولكنه في تجسده وحّد البنوة لله مع البنوة للإنسان إذ صار هو نفسه ابناً لله وابناً للإنسان في آنٍ واحد. وأراد أن يجعل هناك صلة بين الله والبشر.
متى تصل الصلة إلى ذروة هدفها؟
تصل الصلة بين الأرض والسماء إلى ذروتها على الصليب. فإن كان السيد المسيح وهو ابن الله الوحيد قد صار بالميلاد ابناً للإنسان لكنه لم يصل بالميلاد وحده إلى عمل علاقة بين الله والبشر… فهو يريد أن يصالح الله مع البشر. فليس هناك شركة بين الله والإنسان إلا بيسوع المسيح وهو معلَّق على الصليب. فهو الله الظاهر في الجسد، وهو باكورة البشرية في حضرة الآب السماوي، والسلّم الواصل بين السماء والأرض.
عندما ننظر إلى السيد المسيح على الصليب نقول هذا هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو نفسه يقول “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6). كل إنسان ينظر إلى ناحية الصليب لابد أن ينظر ناحية السماء “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان” (يو3: 14) فلابد أن الناظر إليه ينظر إلى أعلى. هو معلّق بين السماء والأرض. فحينما نراه نرى فيه الله الظاهر في الجسد ونرى حب الله المعلن للبشرية. وفى نفس الوقت حينما يراه الآب من السماء يرى فيه الطاعة الكاملة ورائحة الرضى والسرور التي اشتمها وقت المساء على الجلجلة. إذاً هو نقطة لقاء بين نظرنا نحن ونظر الآب السماوي. فالآب ينظر إليه فإذا نظر كل منا إلى السيد المسيح فسوف يلتقي بالآب. بتعبير آخر إذا كنت واقفاً بجوار الصليب والآب ينظر من السماء إلى الصليب فسيراك أنت تحته وإذا أنت نظرت إلى الرب يسوع سترى الآب الذي يتقبل الذبيحة.
4- الصليب والأنا المبذولة:
علامة الصليب تشير إلى الأنا المبذولة أو الطاعة الكاملة. فإذا أردنا شطب أو إلغاء أي خط نضع خطاً متعارضاً مع الخط المراد إلغاءه. فالصليب في حد ذاته يُعلن حياة التسليم الكامل لله. كما أن السيد المسيح في مظهره على الصليب كان واقفاً وأما في الحقيقة فقد كان كل جزء في جسده مقيداً لا يستطيع أن يتحرك. معنى هذا أن السيد المسيح يريد أن يقول لنا إنه لابد من “صلب الجسد مع الأهواء والشهوات” ونقول “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيّا فيّ” (غل 20:2).
تسمّرتْ على الصليب كل أهواء الجسد ومشيئته الخاصة. لم تكن للسيد المسيح طبعاً رغبات خاطئة حاشا، لكن كانت له رغبات طبيعية مثل الأكل والشرب والراحة. فقد جاع عندما صام مثلاً. ورغبات الجسد هذه غير خاطئة في حد ذاتها. لكن كانت مشيئة الآب السماوي بالنسبة للسيد المسيح هي أن تبطل هذه الرغبات، فكانت الطاعة الكاملة هي الجواب.
لذلك عندما أتى الشيطان ليجرِّبه وهو جائع وقال له “قل للحجارة أن تصير خبزاً” أجابه السيد المسيح أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 3-4). فكما أن الجسد يقتات بالخبز، فمن الجانب الآخر ستتعطل الروح بسبب إتمام رغبات الجسد حتى لو كانت هذه الرغبات غير خاطئة. فليصلب الجسد إذاً لكي تنفذ المشيئة الإلهية. وأيضاً وهو على الصليب قيل له “إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب” (مت27: 40) فلماذا هذا التعب ولماذا هذه الآلام المريعة؟ ولكن السيد المسيح لن يطع الجسد طالما يتعارض هذا مع مشيئة الآب السماوي. وبذلك يكون مفهوم عبارة “لتكن لا إرادتي بل إرادتك” (لو22 :42) هو: لتكن لا رغبات الجسد في أن يرتاح أو أن يتحرر من الآلام الجسدية أو النفسية، بل لتكن مشيئة الآب في إتمام الفداء.
تعرّض السيد المسيح لآلام نفسية مريرة بجوار الآلام الجسدية. تمثَّلت هذه الآلام النفسية في الآلام التي عاناها السيد المسيح نتيجة لخيانة يهوذا (فهو إحساس مُر أن يهوذا تلميذه يُقبّله ويُسلّمه لأعدائه بهذه الصورة). وأيضاً في تعييرات الناس الذين أتى لأجل خلاصهم ويقدِّم لهم حبه، فتكون هذه هي مكافأته. إحساس مُر لا يُعبَّر عنه. كما أن كونه موضوعاً في وضع الملعون والمصاب والمضروب من الله ويحمل كل خطايا البشرية لكي يقدّم ثمن عصيان الإنسان وتمرده كأس مملوءة بالمر.
كان من الطبيعي أن النفس والجسد يشعران أنهما أمام اجتياز كأس مريرة جداً لابد أن يشربها إلى نهايتها. فيقول للآب “لتكن لا إرادتي” (لو22: 42). وليس المقصود بالإرادة هنا الإرادة المسؤولة عن اتخاذ القرار لأن القرار هو قرار الثالوث القدوس بإتمام الخلاص الذي أتى المسيح لأجله. إنما المقصود بها هو الرغبة الطبيعية أو الاحتياج الطبيعي الناشئ عن حمل السيد المسيح لطبيعة بشرية حقيقية من خصائصها الشعور بالألم وبالحزن وبالمعاناة. وهكذا فإن السيد المسيح في معاناته الرهيبة يريد أن يقول للآب: “لن يكون قراري مبنياً على ما في هذه الخصائص البشرية من تعب وألم وحزن، لكنه مبني على ما في رغبتي الكاملة في إرضائك وفى تخليص الذين أحببتهم للمنتهى. فهو الذي قيل عنه “أحبَّ خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى” (يو13: 1).
5- بالصليب تمت النبوءات:
كان الصليب ضرورة لأن فيه تمت النبوات. إذ يقول داود النبي في المزمور “ثقبوا يدىّ ورجليّ” (مز16:22) “ويقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون” (مز18:22) “وفي عطشي يسقونني خلاً” (مز69 :21) … وكل هذه النبوءات كيف تتم إلا إذا صُلب؟ … أو مثلاً عندما قال “كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان” (يو3: 14). فالمسيح حمل خطايانا التي ترمز إلى الشر (الحية) فصعد على الصليب وسمّر الخطيئة على الصليب ثم نزل هو وترك الخطيئة معلقة على الصليب. فلذلك نقول” مزِّق صك خطايانا أيها المسيح إلهنا “ويقول “إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمّراً إياه بالصليب” (كو2: 14). فقد سمَّر الخطيئة على الصليب والحية المُعلقة ترمز إلى حمله خطايا العالم كله. فلابد أن تكون الذبيحة مرفوعة لأعلى لتتم النبوات.
وكما شق موسى النبي البحر الأحمر بضرب عصاه ثم ضربه ثانية بعلامة الصليب وأرجعه ثانيةً فغرق فرعون الذي يرمز للشيطان هكذا كان الصليب هو وسيلة الغلبة على مملكة إبليس.
6- بالصليب ملك على خشبة:
قيل عن السيد المسيح المخلِّص “ملك الرب على خشبة” (مز95: 10) فلابد أن تكون أداة موته التي يملك من خلالها على قلوب البشر هي خشبة. ولأنه قال إن مملكتي ليست من هذا العالم لذلك كان لابد أن تعلّق هذه الخشبة مرفوعة إلى فوق. ويقول “جعلوا فوق رأسه علَّته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود” (مت27: 37). لذلك كان الصليب هو عرشه باعتراف الوالي نفسه الذي كتب: “يسوع الناصري ملك اليهود” (يو19:19) وقد كتبت بثلاث لغات اللاتينية واليونانية والعبرانية، بمعنى أن العالم كله قد اعترف رسمياً أن هذا هو ملك اليهود. ولكي تُعلّق علته فوق رأسه وهو جالس على عرشه كان لابد أن يموت مصلوباً لأن هذه الأمور لن تتوفر إذا مات مثلاً مذبوحاً أو محروقاً أو غريقاً…
ما هو سبب الصلب؟
سبب الصلب هو أنه “ملك اليهود” لأن عرشه هو الصليب فملكه هو سبب موته، وسبب موته هو ملكه. أي أن كونه ملكاً كان هو السبب في أنهم حكموا عليه بالموت. ولكن كيف مَلك؟ مَلك بالموت…!!
7- الصليب أعطى فرصة ثلاث ساعات لإتمام العمل:
لا توجد وسيلة موت تستغرق ثلاث ساعات. فإذا وضعوا شخصاً في النار سيموت خلال خمس دقائق. وكذلك الموت بالغرق، وكذلك الشنق (فعند إزاحة الشيء الذي يقف عليه المحكوم عليه بالإعدام يصير معلقاً من رقبته فيحدث انفصال للنخاع الشوكي في ثانية واحدة وبعد دقيقتين يُسلم الروح). ولكن السيد المسيح كان يموت طوال الساعات الثلاث وقد حدثت أمور هامة وضخمة جداً في هذه الساعات الثلاث:
أولاً: تذكُّر آدم
صُلِبَ السيد المسيح في اليوم السادس وفى الساعة السادسة ليذكّرنا بآدم الذي خلق في اليوم السادس.
ثانياً: خروف الفصح
تمت عملية الصلب ما بين الساعة السادسة والساعة التاسعة وكان ميعاد ذبح خروف الفصح حسب ناموس موسى “بين العشاءين” (عد9: 3).
ثالثاً: شمس البر
“ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة” (مت45:27) لأن الشمس قد أخفت شعاعها. وعلى المستوى الروحي يقول “ولكم أيها المُتقون اسمي تُشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها”(مل4: 2). وبالطبع لا توجد شمس لها أجنحة لكن السيد المسيح وهو معلّق على الصليب كانت الأجنحة، هي الذراعين المبسوطتين، التي تقول “يا أبتاه اغفر لهم” (لو34:23) وهذا هو الشفاء الذي في أجنحتها. الشمس أخفت شعاعها لتُعلن أن شمس البر هو المعلق على الصليب لأنه لا يصح وجود الشمس في وجود شمس البر الحقيقي.
رابعاً: كلمات السيد المسيح على الصليب
قول السيد المسيح للص “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43) وما وراء هذه العبارة من إعلان عن فتح الفردوس. وقوله “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو23: 34) وما وراء هذه العبارة من مشاعر الحب والغفران لمخلِّص العالم. وأيضاً “أنا عطشان” (يو19: 28) لكي يتم المكتوب. و “قد أُكمل” (يو19: 30) وما تحمله هذه العبارة من تأكيد على إتمام الفداء والنبوات المُختصة به. وقوله للعذراء أمه “يا امرأة هوذا ابنك” (يو19: 26) ويُسلِّمها ليوحنا لكي نعرف أن السيدة العذراء أصبحت أماً روحية لجميع القديسين، والشفيعة المؤتمنة للكنيسة كلها في شخص يوحنا الحبيب، كما نفهم أن العذراء هي العروس والهيكل والسماء الثانية.
خامساً: لقطات من الأبدية
المشهد الأول:
في خلال الساعات الثلاث على الصليب تكلّم السيد المسيح كلمات كثيرة منها أنه قال للص اليمين “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43). في بداية الأمر كان اللص اليمين غاضباً جداً ومتفقاً مع اللص الآخر في تعيير السيد المسيح. ولكن بمرور الوقت بدأ يتحول من التذمر إلى التوبة.
وكان لابد أن تكتمل هذه الصورة الجميلة التي رسمها السيد المسيح على الجلجلة. اللص اليمين كان خاطئاً تائباً ذهب إلى الفردوس، وأما اللص الشمال فكان خاطئاً لم يتب وذهب إلى الجحيم. كان المشهد كأنه لوحة فنية متكاملة على الجلجلة: فنرى يسوع ملك البر مخلّص العالم الذي اشترك معنا وحُسِبَ بين البشر وهو الله الكلمة يقف عن يمينه كل الذين طلبوا الغفران ونالوه، وعن يساره كل الذين رفضوا التوبة أبدياً. في يوم استعلان ملكوت الله سنرى نفس مشهد الجلجلة عندما قال إنه “متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار” (مت25: 31-33). هذا المشهد كان مجرد لقطة من الأبدية فنرى منظر المجيء الثاني أثناء إتمام الفداء على الصليب.يقول القداس الإلهي “فيما نحن نصنع ذكر آلامه المقدسة وقيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات وظهوره الثاني المخوف المملوء مجداً.. “من هذه العبارة نعرف أن الكنيسة لا تفصل بين أحداث الخلاص وأحداث المجيء الثاني والأبدية لأن كل هذا هو عمل الله الفادي. مثلما قيل عن مجيء إيليا النبي قبل مجيء السيد المسيح وهكذا نرى ما دونته الأسفار المقدسة وهي تشرح ارتباط نبوءات المجيء الأول بنبوءات المجيء الثاني وهكذا كتب القديس متى “سأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء. ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا” (مت17: 10-12). وفى سفر ملاخي يقول “هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف” (مل4: 5). لذلك كلما قابل الكتبة والفريسيون التلاميذ كانوا يقولون لهم إن إيليا لم يأت فليس هذا إذاً هو المسيح. فعندما رأى التلاميذ إيليا على جبل التجلي تذكروا كلام الكتبة والفريسيين وسألوا السيد المسيح لماذا يقول الكتبة والفريسيين “ينبغي لإيليا أن يأتي أولاً” فأجابهم يجب أن تفهموا الكتب. فالنبوءة مزدوجة فحينما قال “يتقدّم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يُهيئ للرب شعباً مستعداً” (لو1: 17) كان المقصود بها يوحنا المعمدان، وقد قال السيد المسيح بفمه الطاهر “أن إيليا قد جاء… حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مت17: 12، 13)، إذن النبوءة عن مجيئه الأول ولكنها سوف تتحقق أيضاً حرفياً في مجيئه الثاني. وفى سفر ملاخي ربط أيضاً المجيء الأول بالمجيء الثاني إذ قال “فهوذا يأتي اليوم المتقِّد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود فلا يُبقى لهم أصلاً ولا فرعاً” (مل4: 1).
المشهد الثاني:
وهو لوحة أخرى جميلة رسمتها العناية الإلهية أثناء أحداث الصلب: عندما خرج بيلاطس البنطي الحاكم الروماني ليقف في المنتصف والسيد المسيح من جهة وباراباس من الجهة الأخرى. وراء هذا المشهد معنى رهيب، فهو ليس وليد الصدفة. فبيلاطس يعتبر مجرد رمز للعدل لإنه يمثّل الحكم في الإمبراطورية الرومانية وهو يقف في المنتصف، وملك البر – السيد المسيح آدم الثاني- يقف من ناحية، وباراباس -المجرم والعاتي في الشر الذي يمثل آدم العتيق- يقف من الناحية الأخرى. في قصة الخلاص لابد أن يموت أحدهما، إذ كان لابد من الاختيار بين الإثنين. طلب الشعب أن يطلق باراباس ولكن ما وراء الأحداث في قصة الخلاص هو أنه كان لابد أن يُحكم على الرب بالموت لكي يفلت الأثيم الفاجر (الذي يمثل الإنسان الخاطئ) من الهلاك الأبدي.
جلسة محاكمة السيد المسيح كانت عجيبة جداً، فهي أعجب محاكمة في تاريخ البشرية كلها. هل حدث في التاريخ كله أن القاضي يحكم في نفس الجلسة على الشخص بالبراءة والإعدام في نفس الوقت؟ وبعدما حكم بالإعدام “غسل يديه قدام الجمع قائلاً إني برئ من دم هذا البار” (مت27 :24). لو قُدّر لأحد أن تنكشف عن عينيه ورأى الذين في الجحيم أو جهنم الأبدية، سيجد بيلاطس مازال يغسل يديه، ويداه ملآنة دماء ولن تُغسل إلى الأبد لأن هذه الجريمة لا يغسلها ماء بل كانت تغسلها التوبة أو التراجع عن الشر. وكأن القاضي نطق الحكم” حكمت المحكمة ببراءة فلان وإعدامه صلباً”. فالسيد المسيح بريء من جهة بره الشخصي، ويحسب خاطئاً لأن الآب وضع عليه إثم جميعنا حسبما هو مكتوب “جَعَلَ الذي لم يعرف خطيئة، خطيئة لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21).
المشهد الثالث:
في سفر الأعمال عندما يتكلَّم عن حلول الروح القدس في يوم الخمسين يقول على فم يوئيل النبي: “أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى. وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام. وأُعطى عجائب في السماء والأرض دماً وناراً وأعمدة دُخان. تتحوَّل الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجئ يوم الرب العظيم المخوف” (يؤ2: 28-31). وهنا يربط بين أحداث يوم الخمسين وأحداث نهاية العالم. فتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم والشهير، المقصود بها هنا هو المجيء الثاني. لكن على الصليب أظلمّت الشمس أيضاً… إذن ارتبط مشهد الجلجلة بمشهد نهاية العالم. فلولا مراحم الله لانتهى العالم يوم صلب المسيح لأنه كيف تتجاسر البشرية بأن تصلب ابن الله الوحيد. لكننا نقول في المزمور “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنبتهج ونفرح فيه” (مز118: 24) وهو يوم الرب العظيم المخوف.
عندما تكلَّم السيد المسيح عن نهاية العالم قال “تظلم الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء” (مت24: 29) فموضوع “تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم المخوف ويكون كل من يدعو باسم الرب ينجو” (يؤ2 :31-32) إشارة إلى المجيء الثاني أيضاً.
كل هذا الربط بين الأحداث والنبوات لا يمكن حدوثه إلا بصلب السيد المسيح ثلاث ساعات، لكي تتم كل هذه الأحداث وهو مُعلَّق على الصليب.
8- الصليب شجرة الحياة:
يقول القديس مار إفرام السرياني:” مبارك هو ذلك النجار الذي صنع بصليبه قنطرة لعبور المفديين”. السيد المسيح اختار عدداً كبيراً من تلاميذه من الصيادين، لكن مهنته هو لم تكن صيد السمك، بل كانت له وظيفتان (وهذا تعبير مجازى): وظيفة مارسها قبل الفداء (نجار)، والثانية ظهر بهيئته فيها وكأنه هو العامل في هذا المجال بعد القيامة (بستاني).
الوظيفة الأولى التي مارسها هي وظيفته كنجار. فهو النجار الذي عمل من الشجرة صليباً لكي يفدي بها البشرية. كانت الشجرة هي سبب سقوط البشرية فكان لابد أن يستخدم نفس الأداة التي سقطت بها البشرية ليُتمم بها الفداء فيكون الصليب هو شجرة الحياة التي لا يموت الآكلين منها من المؤمنين. وكأنه لا يوجد شيء في الطبيعة يستطيع أن يقف أمام حكمة الله وتدبيره؛ فالحية أيضاً التي كانت السبب في سقوط البشرية علّقها موسى في البرية لتكون وسيلة لبعد الناس عن الشر والتخلّص من الخطيئة.
ويقول القديس مار إفرام السرياني: “كما أخفى الشيطان نفسه داخل الحية لكي يُسقط الإنسان هكذا أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان بالناسوت” لأنه حجب مجده بالناسوتية “ركب على كاروب وطار… وجعل الظلمة له حجاباً” (مز18: 10).
عندما عُلِّق السيد المسيح على الصليب كان مثل الشجرة والثمرة معلقة فيها. فإذا نظر إبليس إلى الشجرة ووجد أن الثمرة شهية للأكل وجيدة للنظر، التهم تلك الثمرة وإذا ابتلع الموت ما هو ضده ابتُلِعَ الموت من الحياة كما كتب بولس الرسول “لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس” (عب2 :14). أراد الرب يسوع أن يذكّر إبليس بما فعله في الإنسان وأراد أن يسقيه من نفس الكأس الذي ملأه وجرعه لغيره. لذلك يقول بولس الرسول عن نعمة الخلاص “التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة” (أف1: 8). لم يؤذ أحداً إنما كان يأتي عليه كل الأذى، وهو يحرر البشر من سلطان الموت والخطية. وهذه هي حكمة الله العجيبة، فالشيطان ليست له حجة لأنه هو المعتدِي فعندما قُبض عليه متلبساً بجريمته كان لابد أن يُدان. لذلك كان موت السيد المسيح على الصليب هو أحد مراحل دينونة الشر والخطية. “لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه فيما كان ضعيفاً بالجسد فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيئة ولأجل الخطيئة دان الخطيئة في الجسد” (رو 8: 3). فأدين الشيطان على الصليب.
والخلاصة أنه كان لابد للسيد المسيح أن يعمل نجاراً لكي نعرف أنه صانع الفداء على الصليب ولهذا كان لابد أن يموت على خشبة.
الصليب فتح باب الفردوس:
اختار السيد المسيح أن يكون قبره في بستان، واختار أن يظهر لمريم المجدلية في البستان. وحينما رأته مريم المجدلية التي تمثّل البشرية “ظنت تلك أنه البستاني” (يو20: 15). وإذ ظهر لها في هذه الهيئة أراد بذلك أن يذكّرها بالجنة وحادثة سقوط البشرية ليفهمها أن الصليب فتح الفردوس، لذلك قصد أن يكون لقاؤه معها في بستان. في البستان الأول ظهر إبليس لحواء في صورة الحية ولكن الذي قابل المجدلية هو السيد المسيح المخلِّص آدم الجديد لكي يقول لها “إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو20: 17) وليبشرها أنه كما أن الله هو أباه بالطبيعة فسوف يصير لنا أباً بالتبني. فالذي يكلِّمها ليس هو إبليس الذي كلّم حواء في الجنة لكنه كلمة الله الآب الذي يبشرها بالحياة الجديدة التي “كانت عند الآب وأظهرت لنا” (1يو1: 2).
9 – الصليب محى اللعنة:
ورد في سفر التثنية ” المعلّق ملعون من الله” (تث21: 23) لذلك أصّر اليهود على أن يموت السيد المسيح صلباً، لكي يثبتوا عليه اللعنة بحسب الناموس ولا يجرؤ أحد أن يقول إنه بار أو قديس لأن الناموس يقول “إن المعلّق ملعون من الله”. مع أن الله وضع هذه الآية في الناموس لكي يُعلّق الله الكلمة على الصليب ويرفع لعنة الخطية، لذلك أكمل أشعيا النبي المعنى قائلاً “لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شُفينا” (أش53: 4-5). قد يعتقدون أنه ملعون لكنه حمل لعنة خطايا آخرين وحمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين حاملاً آثامهم. لذلك لا ينبغي أن تؤخذ آية واحدة بدون النظر إلى ما يُكمل المعنى من آيات أخرى في الكتاب.
محى السيد المسيح لعنة الخطيئة بقيامته من بين الأموات كما قال القديس بولس الرسول “وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات” (رو1: 4). لذلك يقول أيضاً “الذي أسلِمَ من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا” (رو4: 25). وأكد أهمية الصليب كوسيلة لرفع اللعنة عن المفديين فقال إن “المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا. لأنه مكتوب: “ملعون كل من علّق على خشبة”. لتصير بركة إبراهيم للأمم في المسيح يسوع، لننال بالإيمان موعد الروح” (غل3: 13، 14).
10- الصليب والعرش الإلهي:
الصليب كعلامة له أربعة أفرع أو أجنحة ويرمز للعرش الإلهي الذي حوله الأربعة الأحياء غير المتجسدين. والعرش السماوي ليس عرشاً مادياً لكنه عرش روحي وهو يتصل بالصليب بالرقم أربعة. فالرقم أربعة واضح في العرش السماوي وفى الصليب جداً. الصليب يرمز إلى انتشار الخلاص في العالم كله. لأن به كان الخلاص من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب. كما أن الأربعة الأحياء التي حول العرش ترمز للخلاص. فصورة الإنسان ترمز للتجسد وصورة العجل ترمز للذبيحة أو الصلب وصورة الأسد ترمز للقيامة والقوة لأن المسيح بقيامته من بين الأموات أعلن سلطانه الإلهي على الموت. لأنه هو ملك الملوك ورب الأرباب. وصورة النسر ترمز للصعود لأن النسر يحلِّق في السماء. فالأحياء الأربعة ترمز لتجسد الكلمة وصلبه وقيامته وصعوده.
ولكي ينتشر الإنجيل في العالم كله انتشر من خلال أربع بشاير: متى ولوقا ومرقس ويوحنا. وهذا الترتيب هو ترتيب الأربعة الأحياء الحاملين للعرش الإلهي. فهذا هو الترتيب اللاهوتي للبشاير الأربعة. لم يكن عدد الأناجيل ثلاثة أو خمسة ولكنها كانت أربعة ولم يكن هذا بمحض الصدفة إنما كان نتيجة لارتباط الأناجيل بفكرة الصليب وبفكرة العرش أيضاً الذي حوله الأحياء الأربعة.
يتكلم إنجيل متى عن السيد المسيح ابن داود أو ابن الإنسان وذُكِرَ لقب ابن الإنسان 33 مرة في إنجيل متى، لذلك يرمز إليه بالإنسان. أما إنجيل لوقا فيتكلم عن السيد المسيح الخادم وعن عمله في تقديم نفسه كذبيحة لذلك اهتم جداً بأحداث الختان في اليوم الثامن والذهاب للهيكل لتقديم الذبيحة (فرخي الحمام) وذهابهم للهيكل أيضاً في اليوم الأربعين. ففي إنجيل لوقا نجد معاني كثيرة تشير إلى الذبيحة لذلك يرمز إليه بالعجل. وإنجيل مرقس من بدايته يتكلم عن الصوت الصارخ في البرية ثم عن معجزاته وقوته لذلك يرمز إليه بالأسد. أما إنجيل يوحنا فيتكلم عن لاهوت السيد المسيح والإلهيات لذلك يرمز إليه بالنسر المحلق في السماويات. لذلك فإن الأربع بشاير تشير إلى عمل الله في خلاص البشرية وخبر انتشاره في العالم كله.
فلكي تتحقق كل الرموز الخاصة بالفداء وكل المعاني الروحية؛ كان لابد للسيد المسيح أن يموت مصلوباً وليس بأي ميتة. حتى أن السيد المسيح تكفّن بالطيب قبل موته لكي يكون ميتاً وهو حي، وحياً وهو ميت. وهكذا مات قائماً لكي نرى القيامة في الصليب ونرى الصليب في القيامة.
الأحياء الأربعة ومراحل الفداء:
رأى حزقيال النبي مركبة الشاروبيم ورأى كل من الأحياء الأربعة له أربع وجوه. ونحن أيضاً ينبغي أن نرى في كل حدث من أحداث الخلاص باقي الأحداث. فعندما ننظر للتجسد نرى فيه الفداء: فقد ولد السيد المسيح في مزود في وسط الغنم والبقر والعجول لكي نعرف أنه منذ ميلاده هو ذبيحة وقد جاء ليذبح. كما لا يمكن فصل التجسد عن الصليب أو القيامة. التركيز على الصليب وحده ربما يقود إلى الشك لذلك قال السيد المسيح لتلاميذه “كلكم تشكُّون فيّ في هذه الليلة” (مر14: 27). فالذي ينظر إلى الصليب بدون القيامة يتشكك. لذلك قال لهم إن ابن الإنسان “يُسلّم إلى الأمم… يجلدونه ويقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم” (لو33:18). كان لابد أن يؤكد لهم القيامة لكي كما قال لبطرس “طلبت من أجلك لكيلا يفنى إيمانك” (لو22: 32). لذلك كل واحد من الأحياء الأربعة له أربع وجوه فعندما ننظر بروح الرؤيا النبوية نرى مع حزقيال الثلاثة وجوه الأخرى (الأسد والعجل والنسر) أي أننا عندما نتأمل في ميلاده نتأمل ضمناً في صلبه وقيامته وصعوده للسماء.
كانت مريم المجدلية تريد القيامة بدون الصعود فرفض السيد المسيح هذه الرغبة لتتذكر قوله للتلاميذ “خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” (يو16: 7).. وكأنه يقول كيف تولدوا ولادة جديدة وتصيروا أولاداً لله وتغتسلوا من خطاياكم؟ كيف تصيروا أعضاءً في جسدي وتتناولون من جسدي ودمي؟ وكيف تكونوا هياكل لله؟
هذا عمل الروح القدس في الكنيسة، والروح القدس لن يأت إلا بعد الصعود. كان لابد أن يصعد السيد المسيح إلى السماء بعد أن تمم الفداء لأن بركات الفداء لن تصل إليهم إلا بالصعود للسماء. كان لابد أن يذهب إلى المقادس العلوية لكي يخدم كرئيس كهنة، وهناك أمام الله الآب يشفع فينا من أجل غفران خطايانا. ومنذ القديم كان صعود الذبيحة يعني أنها قُبلت، لذلك كان ينبغي للصعيدة أن تصعد. إذا رفضنا صعوده نكون مثل من يقدّم الصعيدة للآب السماوي وعندما يمد الآب يده ليقبلها يريد أن يستردها ثانية..!!
مريم المجدلية كانت تفكر بهذه الطريقة: فرحتها بالقيامة جعلتها تريد أن تمسك بالسيد المسيح. فقال لها “لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن إذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو20 :17) وهذا شرط استمرار العلاقات بيننا. بالطبع كان قوله لها “لا تلمسيني” بمثابة صفعة على وجهها. ففي أول لقاء عندما ظهر لها في البستان بعد قيامته من بين الأموات مسكت قدميه وسجدت له لكن قوله لها “لا تلمسيني” هنا معناه أنه لا يريدها أن تمسك به. وعند الرجوع إلى المعنى اليوناني للفظة “لا تلمسيني” نجد أنها تعنى بداية اللمس للإمساك بالشيء وليس مجرد اللمس فقط.
رؤيا حزقيال ورؤيا يوحنا:
رأى حزقيال النبي الأحياء الأربعة بأربعة وجوه وأما يوحنا فقد رآها بوجه واحد. وليس معنى هذا أن رؤيا حزقيال النبي كانت أوضح من رؤيا يوحنا لأن يوحنا رأى أكثر مما رآه حزقيال مع أن المنظر الذي رآه حزقيال كان منظراً رهيباً جداً: البكرات والنار والمركبة النارية الشاروبيمية. لكن عندما رأى يوحنا الرؤيا كان قد تم التجسد والصلب والقيامة والصعود فدخلت هذه الأمور في مجال الزمن وأصبح التجسد في وقت والصلب في وقت ثانٍ والقيامة في وقت ثالث والصعود في وقت رابع وأصبحت أحداثاً متتالية كل حدث منها له معالمه البارزة التي تحدده. فلم تحدث القيامة في يوم الصلب ولم يحدث الصلب في يوم الميلاد ولم يحدث الصعود في يوم القيامة. لذلك كان لابد أن يكون بين الصعود والقيامة أربعين يوماً لأنه إذا حدث الصعود في يوم القيامة لن نفهم ما معنى القيامة ومعنى الصعود. وكان يمكن أن يحدث مزج بين المعنيين. القيامة حدث مستقل بذاته دون أن ينفصل عن الصعود والصلب والميلاد، أي أنه لم يمتزج ويذوب في أحداث أخرى، لكن بدون انفصال، أي أن له ملامحه المحددة القائمة بذاتها. ولهذا رأى يوحنا وجه واحد لكل من الأحياء الأربعة. أما حزقيال النبي فقد رأى أربعة وجوه للواحد منهم: لأن الأحداث لم تكن قد تمت بعد فيراها حزقيال بروح النبوة كأحداث متلازمة يُكمل بها الأربعة معاً عملية الفداء.
رأى حزقيال النبي الأحياء الأربعة من بعيد، لذلك رأى أربعة وجوه، لكل منها، لكن يوحنا عندما نظر عن قرب، رأى وجهاً واحداً فقط. فعندما وصف يوحنا العرش الإلهي أبرز تمايز أحداث التجسد والصلب والقيامة والصعود وهي أحداث عايشها يوحنا الإنجيلي في مراحلها المتمايزة، لكن حزقيال الذي رأى من بعيد كانت الأحداث تتراكم مع بعضها في نظره وتلاشت الفوارق الزمنية بينها لأنه يراها بروح النبوءة وليس كأحداث حدثت فعلاً. ولتقريب المعنى نورد المثال التالي: إذا نظرنا إلى أي شيء من بعيد نرى له وجوهاً كثيرة، لكن إذا وضعناه أمام أعيننا لن نرى سوى الوجه المقابل لنا فقط.