القسم
مواضيع في التعليم المسيحي
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب بسّام آشجي
للجميع
ترافق الصلاة كل تاريخ الخلاص كنداء متبادل بين الله والإنسان
مقدّمة
لقد عرف الإنسانُ الصلاةَ، منذ فجر الخليقة، “على صور وأشكال مختلفة”. ولقد تميّز بها، من جملة ما تميّز، عن باقي الكائنات. إنها فتح الآفاق للتواصل مع ما، أو مَنْ، يتجاوز الحدود الإنسانية. فالأديان، وهي ظاهرة إنسانية، عرفت بمعظمها الصلاة، وقد تميّزت هي الأخرى بعضها عن بعض، بطرق وأشكال صلواتها. واختلفت الصلوات من دين إلى آخر ليس بمحتواها وتوجهها وحسب، بل أيضاً في مكانتها وموقعها ومنهجيتها.
إن تلاميذ يسوع، وقد اعتادوا على صلوات معاصريهم آنذاك، شاهدوا في صلاة يسوع ما تميّز به، لذلك أرادوا بدورهم أن يختبروا هذه الفرادة فهتفوا إليه: “علمنا أن نصلي” (لو11/1). كأنهم بهذا السؤال يكتشفون المنطلق في اتبّاع يسوع، والتشبه به. وكأن صلاته هي مفتاح فهم شخصه. ألم يتميّز بالهتاف إلى الله بـ “أبّا” يا أبتِ!؟… فهل يمكننا، انطلاقاً مما سبق، دراسة ظاهرة “الصلاة” بحسب الإيمان المسيحي بوجه خاص؟ هل هناك صلاة مسيحية تختلف بمفهومها وممارستها بشكلٍ جذري عن باقي الصلوات في الأديان؟ هل الصلاة في المسيحية “ركن” من أركان الإيمان أم أنها مطلقة، أي لا يمكن للمسيحي أن يكون ملتزماً بإيمانه ما لم تكن الصلاة الأساس فيه؟ كيف يقال إن المسيحية هي دين معاملة؟ ما هي الصلاة في المسيحية؟ وما علاقتها بالحياة والأخلاق؟ سنحاول تلمس الإجابة على هذه التساؤلات في همسات الروح القدس من خلال هذا الحديث.
الصلاة في الكتاب المقدس:
الصلاة عند معاصري يسوع:
لقد كانت صلوات العهد القديم هي الصلاة المعاصرة ليسوع. وقد ترافقت غالباً مع أعمال طقسية كانت تقام في الهيكل أو المجامع أو البيوت، كالبركات والذبائح والمزامير. إن الميزة الأساسية لهذه الصلوات هي ارتباطها المباشر بتاريخ شعب العهد القديم، بالرغم من أنها كانت، في الكثير من الأحيان، تتأمل عمل الله في الكون. إن صلوات العهد القديم ترتبط بشكل مباشر بالأحداث: “تنبع انطلاقاً مما حدث، أو يحدث، أو لكي يحدث شيء ما، حتى يمنح الله خلاصه للأرض. فمضمون الصلاة يحدّد صلتها بالتاريخ. والتاريخ المقدس من جهته مطبوع على الصلاة: المدهش أننا نلاحظ كيف تبدو الفترات الحاسمة من هذا التاريخ مقرونة بصلاة الوسطاء أو الشعب بأسره، استناداً إلى معرفة قصد الله، طلباً لتدخله في اللحظة الراهنة”. فالصلاة عند معاصري يسوع هي محاولة لتأوين صلوات العهد القديم في اللحظة الحاضرة. أي يود المصلي، من خلال صلاته للكتاب المقدس، أن يشاهد عمل الله الآن، أو يقول له من خلال الصلاة أن يعمل الآن كما عمل في ذلك الزمان، ويرجوه أيضاً العمل في المستقبل. فيُعبر من خلالها عن تمجيده أو شكره أو طلبه أو استغاثته أو توبته. وبذلك “ترافق الصلاة كل تاريخ الخلاص كنداء متبادل بين الله والإنسان”.
الصلاة في حياة يسوع:
إن للصلاة مكانة مهمة وأساسية في حياة يسوع. لقد صلّى يسوع كثيراً (مت14/23). وتنوّعت صلواته. فمنها ما كان بمشاركة أهل زمانه، كالمزامير (مت22/44، مز110/1)، وبركات وطقوس الهيكل (يو11/56)، والاحتفال بالأعياد (يو7/14). ومنها، وهي الأكثر، ما كانت خاصة به (لو6/12، مر1/35). لقد كان يصلي في الإصغاء والعزلة (لو9/18)، وغالباً ما يحي الليل كله في الصلاة (لو6/12). واتسمت صلاته بطابع الحمد والشكر (مت11/25)، والثقة (يو11/42)، وتسليم الذات (لو23/46). وكان يتوجه إلى الله بصلاة شخصية عميقة قبل أي عمل يقوم به. فصلّى قبل اعتماده وانطلاقه الرسولي (لو3/21)، وقبل اخياره لتلاميذه (لو6/12)، وعند التجلي (لو9/29)، وقبل صنعه المعجزات وبعدها (يو6/00) وكأن بتمرّسه على الصلاة المستمرّة يود أن يقول: “إنني أعمل أعمال من أرسلني” (يو9/4) لذلك عليَّ اللقاء به بشكلٍ مستمر، فمنه وحده أتلقى المجد، وبه وحده أستطيع كل شيء.
لا نستطيع فهم تجاوز يسوع محنة الألم والموت (إقرأ بعمق: يو17/1-27) وبالتالي غفرانه يسوع لصالبيه (لو23/34) إلا على ضوء فهمنا لمكانة الصلاة عنده. إن الرسالة إلى العبرانيين تشاهد يسوع في حركة مستمرة من الصلاة والتضرع والشفاعة وتربط بين صلاته ورسالته الفصحيّة التي حققها بالموت والقيامة، “فهو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصراخٍ شديد ودموع ذوارف إلى الذي بوسعه أن يخلّصه من الموت، فاستجيب لتقواه” (عب5/7).
“ستبقى صلاة يسوع بالنسبة لنا سراً، بمقدار سر تجسد ابن الله المتأنس. صلاة يسوع كانت مشاهدة للآب وجهاً لوجه لا يشوبها وهن، ولا موضع للحديث عن صعوبات في صلاة يسوع أو عن طريقته في الصلاة. ومع هذا فإنه كان يصلي بصفته إنساناً وإنساناً كاملاً، وصلاته في الجتسمانية هي أبلغ شهادة على ذلك”.
إن يسوع الذي كانت الصلاة محور حياته ومنطلقها دعا إلى ضرورة ممارستها (مت7/7-19، لو21/36) وشدّد على أنه يجب أن تكون نقية ومجانية (مت5/23-24) ومرتبطة بالعمل (مت7/21)، ومملوءة بالإيمان (مر11/24)، ومقترنة بالتواضع (لو18/9-14) والبساطة (مت6/7-8). وأكد على أهمية الصلاة المشتركة وعمق فعاليتها (مت18/19-20، يو14/13، 16/23-24). وأنها مع الصوم سلاح فعّال أمام تجارب الشر (مر9/29، لو22/40).
صلاة الـ “أبانا” نموذج يسوع للصلاة:
“يا رب علمنا أن نصلي”.. يهتف التلاميذ نحو يسوع، وهو بدوره، بعد أن يشدّد على عدم التشبّه بصلاة المرائين والوثنيين (مت6/5-8)، أي بعد أن يظهر وجه الصلاة المزيفة والخاطئة، يقول: ” وأما أنتم فصلّوا هكذا: أبانا الذي في السماوات..” (مت6/9-00). إنه يعلّم تلاميذه الوجه الحقيقي والصحيح للصلاة.
لم يعد الله، في هذه الصلاة، أباً ليسوع فقط بل هو أبٌ للجميع، وبالتالي فصلاة يسوع تتجه إلى الله باسم البشر كافةً. أن لصلاة يسوع دائماً الطابع الشمولي، فهو نداء البشرية المصالَحة مع الآب. وهذا التوجه هو في البداية من أجل تقديس اسم الله. يقول القديس أثناسيوس: “الإنسان كائن تمجيدي”، ويسوع في صلاة الـ “أبانا” يمثل كل البشر في تمجيد الله الأب. ويعبر عن مجانية العلاقة معه: “ليأتِ ملكوتك”، وعن رغبة الإنسان في العيش انطلاقاً من هذه العلاقة: “لتكن مشيئتك”. يحقق يسوع في هذه الصلاة ما لم يرد أدم تحقيقه وهو الارتباط الحر بالله. فآدم فصل ذاته عن الله، وبالتالي عن الآخر (تك3/12)، أما يسوع فهو في عمق كيانه مرتبط بالله ومتضامن مع البشر كافة.
لم يشأ يسوع أن يفصل صلاته عن الواقع اليومي للحياة فيطلب لنا الخبز مع كل ما نحتاجه للحياة. ويطلب لنا المغفرة لنقوم بدورنا بها تجاه المسيئين إلينا، لكيلا نرتهن للخطيئة، لا لتلك التي تصدر عنا أو التي تصدر عن الآخرين.
إن يسوع الذي اختبر التجربة بعمق، وقهر الشرير ببسالة (لو4/1-00)، يطلب لنا أن نحتمي بالله في التجربة، لكيلا تقوى علينا، فالله أقوى من الشرير، له الملك والعزة
الصلاة في حياة الكنيسة الأولى:
يخبرنا كتاب أعمال الرسل عن حياة الكنيسة الأولى. ونستنتج من ذلك خصائص الجماعة المسيحية في بدء انطلاقتها: المواظبة على التعليم، المشاركة، كسر الخبز، والصلاة. لقد تابع الرسل صلواتهم في الهيكل (لو24/53، رسل3/1، 5/12، 10/9) وأقاموا الصلاة فيما بينهم ومع من تبعهم خصوصاً صلاة الإفخارستيا. وكيسوع كانوا يصلون قبل البدء بأي عمل، كاختيار البديل ليهوذا (1/24-26)، واختيار الشمامسة السبعة (6/6). وصلّوا أيضاً من أجل إطلاق سراح بطرس (4/24-30)، ومن أجل المعمدين على يد فيلبس في السامرة (8/15). وتدلُنا الدراسات اللاهوتية أن الكنيسة الرسولية الأولى، قبل أن تدوّن ما آمنت به في كتب العهد الجديد، صلّت، واختبرت لقاء الله بالمسيح يسوع، ولقد حفظت لنا بعض نصوص العهد الجديد هذه الصلوات (اقرأ: يو1/1-18، فيل2/6-11،). ومنذ البداية توجّه المسيحيون للصلاة “إلى الآب وإلى يسوع نفسه”. ونلاحظ أيضاً في كتاب أعمال الرسل مكانة الصلاة الفردية فنرى كلا من بطرس وبولس يصليان (9/40، 10/9، 9/11،13/3، 14/23، 20/36، 21/5،). ولو درسنا مفهوم الصلاة في فكر القديس بولس لرأينا أنه “يقرن الألفاظ الدالة على الصلاة بعبارة “دون انقطاع” أو “في كل حين” (رو1/10، أف6/18، 2تسا1/13و11، 2/13، فيلم4، كول1/9)، أو “ليل نهار” (1تسا3/10، 1تيمو5/5)”، وذلك للتأكيد ليس فقط على أهميتها بل على التمرس الدؤوب عليها. فهو يتصوّر الصلاة على أنها فعل جهاد ومواظبة، عليه اختياره في كل مراحل حياته. وهكذا نشأ حوار عميق بين بولس والرب. ويركز بولس أيضاً على صلاة الشفاعة من أجل الآخرين (2كور13/9، 2تسا1/11). وهو بدوره يطلب الصلاة من أجله (فيل1/19، 1تسا5/5). وتتصدر صلوات “الشكر” و”الحمد” في معظم رسائله. ويعترف بتواضع عميق بالحاجة إلى الروح القدس ليعضد ضعفنا ويشفع فينا بأنّات لا توصف، لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب (رو8/26).
وتتصف أيضاً صلاة الكنيسة الرسولية الأولى بانتظار ملء الأزمنة والمجيء الثاني للمسيح. وكأن الصلاة هي استباق لهذا المجيء: “ماران أتا.. تعال أيها الرب” (1كور16/22، رؤ22/20).
الصلاة في حياتنا:
الصلاة.. ما هي؟ كيف تكون؟
نصلي بمفردنا. نصلي مع جماعة صغير. نصلي مع جماعة الكنيسة. نمجّد، نتضرّع، نشكر، نطلب، ونتوب. لدينا صلوات نقرؤها وأخرى نسمعها، فتبعث فينا تأملاً، قد ننسى معه كثافة الزمن وحدود الطبيعة. هناك ما نرتله فنصليه مضاعفاً، نسجد، نرسم إشارات ونضع ورود ونحرق بخور ونضيء شموع ونقيم طقوس. ونؤلّف في بعض الأحيان صلواتنا كما ألّف غيرنا ما نقرأه ونصغي إليه، ونتذوق اللقاء إلى الله من خلاله.
هناك إذاً صيغ عديدة للصلاة، لعل أهمها، و”قبل كل شيء، الإفخارستيا وهي الصلاة التامة، الصلاة الكاملة، إذ أنها امتداد لصلاة المسيح نفسها، وحول الإفخارستيا صلاة الفرض الإلهي كإكليل لآلئ تحيط بألماس”، حيث أن الإفخارستيا هي النموذج والمحور لكل حركة صلاة نختبرها.
إن “التأمل” هو شكل من الأشكال الهامة للصلاة. قد يدعونا مشهداً من الطبيعة للصلاة، أو حدثاً من أحداث الحياة.
أن نشاهد أنفسنا في “تأوين” نصٍ من نصوص الكتاب المقدس هو صلاة، خصوصاً حين ينتزع منّا موقفا نحياه ونجعل الرب مصدراً لعيشه، فيصبح الإنجيل صلاتنا.
ولكن في النهاية، ما هو المعنى لكل ذلك.. ما هي الصلاة؟ هل يمكن أن نجد تعريفاً نهائياً لها؟ … نستعرض بعض الأقوال في الصلاة دون أن ننتهي من البحث عن ماهية الصلاة:
“الصلاة هي رفع العقل إلى الله” (القديس يوحنا الدمشقي). الصلاة التصاق بالله في جميع لحظات الحياة ومواقفها فتصبح الحياة صلاة واحدة بلا انقطاع ولا اضطراب” (القديس باسيليوس الكبير). الصلاة هي ترداد الأقوال المقدسة بشكل أن تصدر من القلب.. هي سجود أمام الله.. هي مزامير تهليل وتمجيد.. هي الإرادة في الحياة مع الله.. (مار اسحق السرياني).
“يقول القديس يوحنا السلمي، وهو كاتب لاهوتي من القرن السابع، إن الصلاة والكلمات الخاصة بالصلاة هي أشبه بالسهم. ولكن لا يكفي أن يكون لدينا سهم. فإذا شئنا أن نصيب المرمى، ينبغي أن يكون في حوزتنا قوس له حبل من نوع جيد وذراع متين لوتره. فلو كنا نملك القوس الجيد بدون القوة التي تسمح بإطلاقه، فسرعان ما يسقط السهم على بعد أمتار. وإذا لم نرمِ بما يكفي من جهد فسوف لن يبلغ السهم المرمى، ينبغي إذاً أن يكون لنا قوس وسهم وذراع وقوة. وبما أن الصلاة هي سهمنا فعلينا أن نصوب في داخلنا إلى أعمق نقطة حيث يوجد الله”.
علينا في الصلاة “أن نتعرّف أولاً على من نتحدث”. وفي ذلك “لا ينبغي الاعتماد على كثرة التفكير بل على وفرة الحب”. حيث أن الصلاة “هي التعاطي مع الرب تعاطينا مع أبٍ أو أخٍ أو عروس” (القديسة تيريزيا الأفيلية). الصلاة هي “أعظم نوع من الطاقة يمكننا استعماله”.. الصلاة “تجعلنا نؤلف نغماتنا على موجات الله، ونتلقى ما يرسله إلينا” (الأب جيوفاني مارتنتي). “هناك حوار مع أنفسنا نسميه الفكر، وهناك حوار مع الأشياء أو مع الأحداث نسميه العمل، وهناك حوار مع الآخرين ونسميه الرفقة أو الصداقة أو الحب، وهناك حوار مع الله ونسميه الصلاة”.. “ليست الصلاة مجرد تلاوة عبارات، بل هي بالأحرى حديث خاص مع الله. فنعبر عما هي حياتنا برغباتها ومصاعبها وشدائدها وأفراحها”.. وهي أن نسمح بفرح أن يعبر الله لنا عن نفسه.. الصلاة هي التعبير عن المحبة.. الصلاة هي التعبير عن الإيمان.. الصلاة إسرارٌ متبادل بين الله والإنسان.. الصلاة هي تقبل عطية الله.. الصلاة هي تزامن الوعي لما هو الله ولما يعمل في حياتنا.. (الأب فرنسوا فاريون).
لا شكّ أنه توجد تعاريف كثيرة عن الصلاة غير التي ذكرت، ولكن في نهاية الأمر الصلاة هي خبرة لا تُعرف إلا بالتذوق: صلِّ.. فالصلاة تعلّمك كيف تصلي، وما هي الصلاة.. تقول القديسة تيريز: نتكلم كثيراً عن الله، ولكننا بحاجة أن نتكلّم مع الله.
ولكن، هناك صعوبات! ما هي؟
إن الصور الخاطئة عن الله تنشئ صلاة خاطئة وسرعان ما تظهر الصعوبات. عندما نظن أن الله هو مجرّد “ملبي طلبات”، نأتي إليه فقط في حاجاتنا، سنصدم حتماً حين لا يلبي ما نطلب. وعندما نظنه مراقباً لتصرفاتنا تتصف صلاتنا بالخوف. علينا أن ننقّي فينا صورة الله. فيسوع الذي قال: “اطلبوا تجدوا..” قال أيضاً: “اطلبوا ملكوت الله وبره” (مت6/33). لا شكّ أن صلاة الطلب صلاة، ولكنها ليست هي فقط الصلاة. والطلب إلى الرب هو طلب الدالة البنوية لا الحاجة الاستهلاكية. وما لا شكّ فيه أيضاً، أن الله يهتم لتصرفاتنا، ولكنه لا يراقبنا كأنه شرطي أو قاضي. إن عدالته لا تحجب محبته. هذا لا يعني أن الله، إذا كان كيان محبة، لا يعنيه ما يصدر منا من شر، بل إنه معنا في حمل ما يتسبب الشر فينا من أزمات. يصلي القديس أوغسطينوس لله: “لا تحجبك عني ظلمة خواطري القلقة”. فلا نصلي لأنه يراقب ويعاقب بل لأننا نتوب ونتنعم بالغفران.
من صعوبات الصلاة أيضاً: كثرة مشاغل الحياة وهمومها واهتماماتها وضيق الوقت، وبالمقابل حين نصلي نشعر بالملل والروتين والتكرار. أو الشعور أننا نخاطب أنفسنا حين نخاطب الله، خصوصاً إن كنا لا نعرف كيف نصمت لكي يتكلّم الله. هناك فخ حقيقي في أن تتحول الصلاة إلى تأمل نرجسي، فيظن المصلي أنه أمام الله، “لكنه في الحقيقة أمام نفسه، ويصبح طرح الأسئلة وإعطاء الأجوبة أمراً سهلاً. ويسمى مشيئة الله ما ليس سوى إرادة النفس، أو، ينصرف الإنسان إلى ثرثرة حميمة مع نفسه”.
قد لا نشعر أحياناً بحضور الله في صلاتنا، وقد تكون صلاتنا حقيقة وصحيحة. وهذه خبرة عاشها كبار القديسين كيوحنا الصليب الذي يتكلم بعمق عن “ليل الإيمان”. وقد لا نجد هذا “الليل” و”غياب الله” في المنشورات القديمة لمؤلفات القديسة تيريز خوفاً من تشكيك القراء. ينصح الآباء عادة في هذا الشعور بالصبر ومتابعة الصلاة وكافة الأفعال الروحية ولو كان صاحبها لا يجد لها معنى، يقول أحدهم: “لو كنت تصلي وقت تحب أن تصلي، يأتي يوم لا تصلي أبداً”. قد يسمح الرب لنا بأن نشعر بغيابه، ربما لأننا لا نتوجه إليه بشكل صحيح، أو لكي يقول لنا ما تطلبونه هو إنما من اختصاصكم، أو لكي يساعدنا أن ننمو ونتكل على ذواتنا. وهنا يوجد فخٌ آخر في مسألة تتميم مشيئة الله: “نعلم عن خبرة إلى أي حد يصعب علينا أن نقول حقاً: ليأتِ ملكوتك. فحتى في نشاطاتنا السخية والرسولية، حين نقول بالفم (نصلي): ليأت ملكوتك، نفكر في قلوبنا: لأعمل على مجيء ملكوتك، هذا القول قريب من: ليأتِ ملكوتي! ولو أردنا أن نكون قساة القلب إلى أقصى أحد، لأضفنا أننا نقول لله في صميم قلوبنا، من دون أن نشعر: ليأتِ ملكوتي عن طريق ملكوتك!”. أظن أن هذه الصعوبة في الصلاة هي على الله وليست علينا!
الصعوبة الكبرى، فيما أظن، هي عدم الانسجام بين صلواتنا وحياتنا. هناك ازدواجية بين ما نصلي وما نعيش. هل هذه الازدواجية متأتية بسبب واقع ضعفنا؟ أم هناك مشكلة في القناعة وقلة الإيمان. لقد انتقد يسوع هذا المظهر من الحياة الفريسية (لو18/9-14)، ولعله ألمح طريقاً لتجاوز هذه الصعوبة هو الاتضاع وطلب الرحمة. هناك صلاة عُرفت في التقليد الشرقي باسم “صلاة يسوع” تعبر عن الاتضاع وطلب الرحمة الآنفي الذكر. يصليها المؤمن مع حركة التنفس مرات عديدة حتى تتواصل في حياته كتواصل التنفس: “أيها الرب يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ”، فتصبح حياته صلاة وصلاته حياة
خاتمة:
إن الصلاة هي منطلق الحياة الروحية في المسيحية، فبها نلتقي الله حيث يتحقق الهدف من التزامنا بالمسيح. فنحن على غرار يسوع، نصبح بالروح القدس، في الصلاة كما في شهادة الحياة، أبناء أحباء لله بالتبني فننادي الله: أبّا يا أبتِ (اقرأ أخيراً: غلا4/4-6). الصلاة هي المنطلق لأنها توصلنا إلى الهدف، صدق إفاغريوس البنطي (القرن الرابع) حين قال: “أنت تصلي، فأنت لاهوتي”. اللاهوتي هو من يدخل مسيرة الفهم الثلاثي الأبعاد: الله، الذات، الآخر. الصلاة ببساطتها تدخلنا في مسيرة الفهم هذه.