. مع مطلع السنة الجديدة أوجه أمنية سلام إلى الحكام والمسؤولين عن الأمم وكذلك أيضا إلى جميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة وبشكل خاص إلى المتألمين والقابعين تحت تهديد العنف وقوة الأسلحة أو المداسة حقوقهم والساعين إلى استعادة مكانتهم البشرية والاجتماعية. أوجه هذه الأمنية إلى الأطفال الذين ببراءتهم يغنون الإنسانية بالطيبة والرجاء، ويدفعون بنا بألمهم كي نكون جميعا فعلة عدل وسلام. إني إذ أفكر بالأطفال، وخصوصا منهم أولئك المعرضين لخطر الاستغلال ولشر كبار يفتقرون إلى الإحساس بالواجب، شئت لمناسبة يوم السلام العالمي أن ينصب الاهتمام المشترك على موضوع: الشخص البشري، قلب السلام. في الواقع، إني على اقتناع بأن احترام الشخص يعني إنماء السلام، وبأن بناء السلام يرسي قواعد أنسنة كاملة وأصيلة. وعلى هذا النحو نهيئ مستقبلا هنيئا للأجيال الجديدة.
الشخص البشري والسلام: عطية وواجب
- يقول الكتاب المقدس: “خلق الله الإنسان على صورته؛ على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم” (التكوين 1،27). وبما أن الإنسان مخلوق على صورة الله فإن للفرد البشري كرامة الشخص فهو ليس فقط شيئا ما إنما شخصا قادرا على التعرف على ذاته وعلى امتلاكها وكذلك أيضا على تكريسها بحرية والترابط مع الآخرين. وفي الوقت عينه إنه مدعو، بفعل النعمة، إلى تحالف مع خالقه ليقدم له، هو ولا غيره، برهان إيمان ومحبة1. وفي إطار هذا التطلع العجيب يمكن فهم المهمة الموكلة للكائن البشري في تحقيق نضوجه الذاتي ضمن القدرة على المحبة والرقي بالعالم من خلال تجديده في العدل والسلام. يعلما القديس أوغسطينوس أن “الله الذي خلقنا بدوننا، لم يشأ خلاصنا بدوننا”2. وبالتالي من واجب جميع الكائنات البشرية زرع الوعي بالوجه المزدوج للعطية والواجب.
- السلام أيضا هو عطية وواجب. فإذا كان من الصحيح أن للسلام بين الأفراد والشعوب ـ القدرة على العيش الواحد جنب الآخر ونسج علاقات عدل وتضامن ـ يشكل التزاما لا يعرف وقفة، فصحيح أيضا، وربما أكثر بكثير، أن السلام عطية من عند الله. السلام، في الواقع، ميزة للعمل الإلهي الذي يظهر سواء في خلق كون منتظم ومتناغم أم في فداء الإنسانية المحتاجة للتخلص من فوضى الخطيئة. الخلق والفداء يوفران المدخل لفهم معنى وجودنا على الأرض. في خطابه أمام الجمعية العامة الخمسين للأمم المتحدة في 5 أكتوبر 1995، قال سلفي البابا يوحنا بولس الثاني “إننا لا نعيش في عالم غير عقلاني أو خال من المعاني […] فهناك منطق أدبي ينير الوجود البشري ويسهل الحوار بين البشر والشعوب”3. إن “القاموس” المتسامي، أي مجموعة قواعد تصرف الفرد والعلاقة المتبادلة بين الأشخاص وفقا للعدل والتضامن، مكتوب في الضمائر حيث ينعكس تدبير الله الحكيم. وكما شئت التأكيد مؤخرا على “أننا نؤمن بأنه في البدء كان الكلمة الأبدي والعقل ولا اللاعقلانية”4. السلام إذا واجب يلزم كل فرد بإعطاء جواب شخصي يتطابق مع التدبير الإلهي. أما المعيار الذي يستند إليه هذا الجواب فهو احترام “القاموس” الذي كتبه في قلب الإنسان خالقه الإلهي. وفي هذا التطلع لا يمكن اعتبار مبادئ القانون الطبيعي توجيهات مفروضة من الخارج تحد من حرية الإنسان. بل بالعكس يجب القبول بها كدعوة لتحقيق التصميم الإلهي الشامل المكتوب في طبيعة الكائن البشري. وبهدى هذه المبادئ بإمكان الشعوب ـ في إطار ثقافاتها ـ التقرب من السر العظيم أي سر الله. إن الإقرار بالقانون الطبيعي واحترامه يشكلان اليوم أيضا القاعدة الكبرى للحوار بين مؤمني مختلف الديانات وبين المؤمنين وغير المؤمنين. وهي نقطة التقاء رئيسة وبالتالي شرط أساسي لسلام أصيل.
تابع القراءة بتحميل الملف