التوجيه الرسولي ٢٠٠٦
العائلة
العائلة
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب باسكوال تشافيز نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
فالعائلة إذن المرتكَز الضروري لتوجيه العالم نحو الله ولإعادة الرجاء إليه
لمّا أبصراه دهِشا، فقالت له أمّه: “يا بُنيّ، لِما صنعت بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنك متلهِّفين”. فقال لهما: “ولِما بحثتما عنّي؟ ألم تعلما أنّه يجب عليَّ أن اكون عند أبي؟” فلم يفهما ما قال لهما. ثمّ نزل معهما، وعاد إلى الناصرة، وكان طائعا لهما، وكانت أمّه تحتفظ تلك الأمور كلّها في قلبها. وكان يسوع يتسامى في الحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس. (لوقا 2/48-52).
بمناسبة مرور 150 عاما على وفاة ماما مرغريتا، أمّ الأسرة التربوية التي أقامها دون بوسكو في فالدوكّو، فإننا نجدّد التزامنا بأن
نولي اهتماماً خاصّاً بالعائلة، إذ هي مهد الحياة والحب ومنبِت الأنسنة الأوّل
(الأب باسكوال تشافيز)
المقدّمة
لقد عوّدنا رئيسنا العام، دون تشافيز، على استخراج مضمون التوجيه الرسولي السنوي من مرجع لا بديل عنه في الحياة المسيحية، ألا وهو الكتاب المقدّس. وإن لم يكن ذلك نصّا، فيكون روحا، لأن الكتاب المقدّس مصدر الإيمان والممارسات المسيحية في كل زمان وكل مكان.
يُعيدنا الرئيس العام إلى نصّ الإنجيل الذي يُظهِر العائلة المقدّسة في ظرف صعب جدّا، حينما قام يسوع المراهق، على غرار سائر المراهقين، بمبادراته المستقلّة الأولى، زارعا القلق والاضطراب في قلب والِديه.
في الوقت عينه، يذكّرنا دون تشافيز بمرور 150 عاما على وفاة ماما مرغريتا، أم دون بوسكو، وبما لها من فضل كبير في تأسيس الأسرة التربوية في أوّل بيت أنشأه دون بوسكو لاستقبال الصبيان المشرّدين واليتامى، فضلا عن دورها المهمّ في رسم خطوط الأسلوب الوقائي الرئيسية وفي تطبيقه.
من هذا المنطلق، نحن مدعوّون إلى التأمُّل في دور العائلة اليوم، لأن الكنيسة والعالم على حدّ سواء يتساءلان حول التصميم الإلهي الخاصّ بها. فمن ناحية تبرُز بعض القِيَم الكبرى التي تكشف عن حضور الله، مثل نموّ الحرّية والمسؤولية في الإنجاب وفي تربية البنين، وتطلُّع المرأة العادل إلى مساواة الحقوق والواجبات مع الرجل، والانفتاح على الحوار مع الأسرة البشريّة الكبرى، واحترام العلاقات الشخصيّة الحقّة وتقديرها وغير ذلك…، ومن ناحية أخرى نلاحظ تنامي المصاعب كانحطاط الأخلاق في الأمور الجنسية، والنظرة المادّية والتلذُّذية للحياة، ومواقف الأهل المُسترخية، وتراخي العلاقات العائلية والتواصُل بين الأجيال…
من خلال عنوان التوجيه يشير الرئيس العام إلى سبب اهتمامنا بالعائلة وهو أنّها تحتضن الحياة والحبّ، أي العنصرين الأساسيّين ليكون الإنسان إنسانا. فللتوصّل إلى تحقيق هذه الصورة المثالية للعائلة سأركّز على النقاط الأربع التالية:
1- دور ماما مرغريتا في حياة دون بوسكو وفي فالدوكّو
لقد استهلّ الكاتب الدنماركي ج. يوركنسِن كتابه عن سيرة حياة دون بوسكو بهذه الكلمات: “في البدء كانت الأمّ”. وكأنّه يقول: لو لم تكن ماما مرغريتا، لما كان دون بوسكو. فبعد وفاة زوجها فرنسيس، لم تكن بالنسبة إلى ولدَيها الشقيقين يوحنا ويوسف، بل لأنطون أيضا، وهو ولد فرنسيس من زواج سابق، أمّا فقط، بل أبًا أيضا، فتولّت زمام الأمور في البيت بكل مسؤولية. تحمّلت مشقّات الحياة وعناء العمل في الحقل صيفا وشتاء كي لا يتحوّل الفقر إلى بؤس وفاقة. ومع أنها أُمّية، وشأنها شأن معظم نساء الأرياف في عصرها، إلاّ أنها كانت مليئة بالحكمة الإنسانية والإلهية فبرزت في تربية أولادها، متّخذة العِبَر من واقع الحياة. لا شكّ أن ابنها يوحنا تعلّم منها في الشأن التربوي أكثر مما تعلّمه لاحقا في الإكليريكية. ويشهد على ذلك الاحترام والتقدير اللذان أظهرهما لأمّه مدى الحياة. ففي ذكريات حياته كتب مطوّلا عن ممارسات أمّه معه ومع إخوته في طفولتهم. كان يستشهد مرارا بأقوالها الحكيمة. أكتفي، على سبيل المثال، بذكر ما كان يقوله مبتسما وبشيء من السخريّة عن الضمير، مستشهدا بفول أمّه: “الضمير مثل الدغدغة (الزكزكة): من يشعر به ومن لا يشعر”…
في الخريف من سنة 1846، استجابة لطلب دون بوسكو المُلحّ، غادرت ماما مرغريتا بيتها في القرية وانتقلت إلى المدينة، إلى تورينو حيث كانت مئات من الصبيان ينتظرونها. تأقلمت تدريجيّا مع الأجواء الجديدة، ولو كان ذلك صعبا عليها؛ تعوّدت على ضجّة الأولاد وصراخهم، وبخاصة على العمل المُضني الذي كان يفوق ما تتحمّله امرأة في عمرها: تستجيب لكل مطالب ابنها وتلبّي كل حاجات الأولاد ويتسابق كلاهما في خدمتهم. تسلّمت إدارة البيت، فكانت – على حدّ قول كاتب سيرة حياتها، الأب لومون (Lemoyne) – تواجه كل الصعوبات وتحلّ كل المشاكل، وتحافظ على النظام. ما من شيء يُحرِجها أبدا. تستقبل الزوّار، تتعاطى أحيانا مع السلطات، مهما كان مقامها، تدير كل الأمور، تشتري وتبيع. يهون عليها كل شيء فلا تقلَق أيدا، ترى كل شيء وتسهر على كل شيء” (مشاهد من حياة ماما مرغريتا، تورينو 1886، الفصل 28). فبفضل حضورها واهتمامها الساهر على كل ما يجري في البيت، تحوّل فالدوكّو إلى عائلة حقيقية يجد فيها الصبيان المشرّدون واليتامى ما لم يعرفوه سابقا من دِفء حبّ الأمّ وعطفها ومن أُلفة تجمع القلوب وتزرع فيها الفرح والطمأنينة. لذلك كانت ماما مرغريتا محبوبة وظهر ذلك بكل وضوح عندما أُصيبت بالمرض وأشرفت على الموت، فارتفعت صلوات الصبيان إلى السماء طالبة شفاءها، بل أعجوبة. وبعد وفاتها في 25/11/1856 أصبحت بالنسبة إلى أبناء دون بوسكو المنتشرين في جميع أنحاء العالم أمّا مثالية، بل قديسة. فكلّنا في انتظار أن تطوّبها الكنيسة قريبا.
من تأثيرها على خلق مناخ العائلة نشأ جوهر أسلوب دون بوسكو التربوي، الأسلوب الوقائي وممارسات تربوية أخرى لا تزال قائمة في التقليد السالزياني، مثل كلمة المساء ((buonanotte، وذلك لأن دون بوسكو كان قد اختبر أنّ تكوين شخصيّته ترسّخ في جوّ العطاء وبذل الذات السائد في بيته وهو صغير، وبالتالي أراد إحياء أبرز تلك الصفات فيما بين أولاده المشرّدين في فالدوكّو.
هنالك اتّصال مباشر بين اختبار دون بوسكو الشخصي وممارسات العائلة السالسية اليوم لأنّها امتداد دون بوسكو. كم من السالزيان والراهبات بنوع خاص يستطيعون أن يشهدوا على أنّهم قد اكتشفوا واختبروا أن انتقالهم من البيت الوالدي إلى بيت دون بوسكو لم يكن فاصلا بين مرحلتين من حياتهم، بل امتدادا لجوّ العفويّة والحنان والارتياح الذي تعوّدوا عليه مع أهلهم.
لدى دون بوسكو قناعة وهي أنّ رسالته يجب أن تمثل رسالة أفضل الأهل، تحت شعار ملموس، وهو الحبّ الحقيقي. ففي رسالة وجّهها إلى السالزيان عام 1883 في فوائد الأسلوب الوقائي كتب: “لا تنسَوا أنّكم تمثّلون أهل هؤلاء الصبيان (…). فإذا كنتم آباء حقيقيّين لتلاميذكم، يجب أن يكون لكم قلب الأب أيضا، فالقلب الوالدي يرفض مثل هذه الممارسات (الانفعالية والتعسُّفية) (…). لننظر إلى الذين اؤتُمِنّا عليهم وكأنّهم أولادنا، فلنقُم بخدمتهم على مثال يسوع وقد جاء ليُطيع وليس ليأمر (…). وبما انّهم أولادنا فلنٌبعِد عنّا السُّخط عندما يجب أن نقوم بكبح جماحهم، أو على الأقلّ فلنخفِّف من حِدّته كي لا يظهَر. لا مجال للاضطراب في القلب ولا للاحتقار في النظَر ولا للشتم على اللسان، بل بالعكس يجب أن تشعروا بالحنان أثناء العِقاب وبالأمل بالنسبة إلى المستقبل، فعندها تكونون حقّا آباءهم(…). تذكّروا أن التربية أمر يخصّ القلب… فلنسعَ لأن نكون محبوبين…” ((Epistolario di San Giovanni Bosco, SEI Torino 1959, vol. 4, p.201-209.
كم تأسّفت، كسالزياني، عندما قرأت في رواية لإحدى الكاتبات الشهيرات في إيطاليا أن بعض الكهنة الأساتذة من السالزيان كانوا يعلّقون على تلميذ لم بتمكّن من الانسجام مع رفاقه في المدرسة، قائلين، وهم يهزّون رأسهم: “مسكين!”، وكأنّ لا رحمة في كلامهم، على ما يبدو… وكأنّه ملعون (Lalla Romano, Le parole tra noi leggère, Einaudi, 1969; ediz. La Stampa, 2005, p. 68).
بينما يعلّمنا دون بوسكو أن “في كل شابّ، مهما لفّه الشقاء، وتر يرنّ للخير، فأولى واجبات المربّي أن يكتشف هذا الوتَر الحسّاس ويعزف عليه”(دون بوسكو، أقوال وحِكَم، ص 23)، تماما كما يفعل الأهل المسؤولون الذين لا يفقدون الثقة بأولادهم، بل يتحمّلون، ويبكون أحيانا، ولا يستسلمون للواقع مهما كان صعبا ومرّا.
بعد هذه الأفكار الوجيزة حول “المودّة” السالزيانية التي أرادها دون بوسكو أساسا لتربيته في أجواء عائلة يوحّدها الاحترام والحب المتبادل، ننتقل الآن إلى رؤية الكنيسة للعائلة، ثمّ إلى ما تقوم به أو يجب أن تقوم به العائلة السالسية، لكونها منظّمة كنسيّة، في هذا المجال.
بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، ضاعفت الكنيسة جهودها ورفعت صوتها للدفاع عن الزواج والعائلة، ووضعت ذاتها في خدمتهما لأنّها تُدرك أنّهما يشكّلان إحدى أغلى القيم الإنسانية. أصدرت عدّة وثائق في هذا الموضوع، مشدّدة على ضرورة تسليط نور الإنجيل على ثقافة اليوم التي تميل إلى سحب كل ما يتعلّق بالزواج والعائلة، مثل الجنس والحياة العاطفية للأفراد، من نطاق الإيمان والدين، بل من إطار أخلاقي واضح.
للعمل في سبيل الزواج والعائلة بمبادرات شجاعة ومفيدة، لا بدّ لنا، قبل كل شيء، من قراءة الوضع وتفهّمه كما تقرأه وتتفهّمه الكنيسة. ترى الكنيسة أنّ عالم اليوم يتّجه نحو خصخصة الزواج والعائلة، وكأن المجتمع الحديث غير معني بثبات ومتانة القيم الزوجية والعائلية. وهذا ما جعل العائلة غير ثابتة ومستقرّة، بل في غاية الهشاشة. أمّا الكنيسة فهمّها الأوّل إدراج العائلة في نظرة إيمانية تعيدنا إلى العائلة الإلهية الثالوثية، ينبوع كل شيء. فالله خلقنا على صورته ومثاله وأرسل ابنه الوحيد ليجعل منا، بثمَن دمه الكريم، أسرته التي تجمعنا كلّنا كأبناء وإخوة. فالعائلة إذن المرتكَز الضروري لتوجيه العالم نحو الله ولإعادة الرجاء إليه.
لقد قيل: “إن العائلة صغيرة، غير أنّها تحتوي على طاقة تفوق الطاقة النوَويّة…”. فمن ملايين البيوت المتواضعة حيث يسود الحبّ والوحدة والألفة، تستطيع الكنيسة أن تستمدّ قوّة لتوحيد الجنس البشري. لذلك، تمشّيا مع خُطّة الله وتدبيره، أصبحت العائلة بمثابة المنظار الذي تنظر منه الكنيسة لوضع برامجها الراعويّة. فالبابا الراحل، يوحنّا بولس الثاني، في الرسالة التي حدّد فيها التوجّهات الرئيسية للكنيسة في مطلع الألفيّة الجديدة، كتب: “يجب أن نُعير رعويّة العائلة نظرة خاصّة، تزداد ضرورتها في وقت تاريخي كوقتنا حيث نسجّل أزمة متفشّية وجذرية داخل هذه المؤسّسة الحياتية. ففي المنظور المسيحي، إنّ العلاقة بين الرجل والمرأة – علاقة متبادلة وتامّة وحيدة وغير قابلة للانفصام – تتجاوب وقصد الله الأساسي الذي غشيَه الظلام في التاريخ بسبب “قساوة قلوب” البشر” (نحو ألفيّة جديدة، 47 (2001)
بالطبع، ليست العائلة بحدّ ذاتها، شيئا مُطلَقا، بل أوجدها الخالق في خدمة الإنسان ليتنامى ويتكاثر عبر التاريخ إلى أن يبلغ السعادة الأبدية في ملكوت الله. وهذا ما يبرّر قول الإنجيل بأن الإنسان يجب أن يكون مستعدّا لأن يترك كلّ شيء، حتّى عائلته، في سبيل الملكوت. فالحبّ الزوجي والحب المتبادل في العائلة يُعتبَران قيَما بقدر ما يتخطّان حدود الزوجَين والبيت لينفتحا على قيَم أخرى، مثل البَتوليّة مثلا واتّباع المسيح عن كثَب. فالعائلة إذن في خدمة نموّ أفرادها وليس لعرقلة أهدافهم السامية. لا شكّ، من هذه الناحية، أن عائلاتنا المسيحية مُصابة أحيانا بمرَض فهي بحاجة إلى علاج مُنعِش لتتحرّر من قيود لا علاقة لها بالإنجيل ولتصبح خميرة الكنيسة والمجتمع بالمفهوم الإنجيلي الحق.
فيما يخصّ وضع العائلة المسيحية في بلدان الشرق الأوسط، لقد كرّس له مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك رسالته الراعويّة الأخيرة، تحت عنوان: “العائلة مسؤولية الكنيسة والدولة”، المنتشرة منذ عيد سيّدة الانتقال الماضي. فبعد الحديث عن هويّة العائلة المسيحية وقُدسيّتها، تتطرّق الرسالة إلى مصاعبها المختلفة، كما وتقدّم توجيهات وحلولا. على أمل أن تكون هذه الرسالة موضوع درس وتعمُّق في كلّ مجموعات العائلة السالسية، وبخاصّة في جمعيّة المعاونين خلال هذه السنة، أكتفي بذكر بعض النقاط المُهمّة:
الكنيسة، من خلال اهتمامها بالعائلة، تشدّد دائما على نقطتين: على سُلالة الشخص وعلى الحب والحياة كقيَم أساسية.
إن عيش الزواج بطريقة كاملة وبحسب قصد الله وبحسب متطلّبات الشخص البشري الحقيقية يرتكز على متطلّبات الزوجين والأطفال على حد سواء، لأنّ بالعائلة ترتبط سلالة كل إنسان: سلالة الشخص. فالشخص يتكوّن من كل ما هو إنساني، بما فيه الجنس (الشخص الذكَر والشخص الأُنثى)، غير أنّه يتمتّع ببُعد متسامٍ بارتباطه المباشر بالله الذي خلقه “على صورته ومثاله”. لذلك الأبوّة والأمومة، مع أنّهما تندرجان من خلال شركة الرجل والمرأة في الزواج في إطار نُظُم علم الحياة على مثال الكائنات الحيّة الأخرى، إلاّ أنّهما تتجاوزان المادّة لِما في الإنسان من روح تجعله يشارك الله الخالق في الخلق. فكل كائن بشري جديد، “على غرار والديه، مدعوّ هو أيضا إلى الوجود على أنّه شخص؛ إنّه مدعوّ إلى الحياة “في الحقيقة وفي المحبّة”. ليست هذه الدعوة لِما هو في الزمن فحسب، ولكنّه، في الله، دعوة أيضا من شأنها الإطلالة على الخلود. ذلك هو بُعد سُلالة الشخص الذي كشَفه المسيح نهائيا، بإلقاء ضوء إنجيله على الحياة وعلى الموت البشَريَّين، ومن ثَمَّ على مفهوم الأسرة البشريّة” (يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الأُسَر، 9 (1994).
لقد أثبت المجمع أن الإنسان هو “الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها على الأرض” (ألمجمع الفاتيكاني القاني، الكنيسة في عالم اليوم، 24)، فأن يكون إنسانا، رجلا أو امرأة، هو الدعوة الأساسية لكل شخص، فهو موجود لذاته ولو تواجد في الوقت نفسه ضمن عائلة وضمن المجتمع. يتوّج كل ولد الحب الزوجي فهو كنز ثمين للعائلة، على أن يريده الوالدان كما يريده الله، أي “لذاته”. فعلى هذه النظرة المسيحية للعائلة تترتّب عدّة عواقب تخصّ كل واحد من أعضاء العائلة، والعائلة ذاتها والمجتمع والكنيسة.
يتحقّق قصد الله من العائلة عندما يتّحد الرجل والمرأة اتّحادا حميما في الحب لخدمة الحياة. فالزواج عهد حبّ وحياة. فدور العائلة الأساسي صيانة الحب وتنميته، بحيث يكون الحب أساس العلاقات بين البشر، وينفتح على الأسرة البشريّة الجامعة باحترام ومسؤولية وعدالة.
وفضلا عن ذلك، لا ينفصل الحب عن الحياة، بل يتوجّه إليها ليوجِدها وينمّيها ويدافع عتها ويعطيها معنى وكمالا.
أمانةَ لهذا المعنى العميق للحب والحياة، فقد تُضطَرّ العائلة أحيانا أن تختار لنفسها نمط حياة يتعارض والثقافة السائدة والذهنيّة الرائجة والمواقف والتصرُّفات المنتشرة من الجنس والحرّية الذاتية والخيور المادّية. ففي نقل الحياة من خلال الحب يُدرك الإنسان، وبخاصّة إذا كان مؤمنا، سرّ الكائن البشري وكرامته، جمال الأبوّة والأمومة ومسؤوليّتهما وعظَمتهما. على أن يكون الحب ضمن الاتحاد الزوجي، أصيلا، شاملا، حصريّا ومنفتحا على الحياة.
كمسيحيين ملتزمين ندرك أنّ مثل هذه الرسالة السامية، الهادفة إلى الدفاع عن الحب والحياة تحتاج إلى نعمة الله وخدمة الكنيسة لتكريس الحب بين الزوجَين. فحضور روح الربّ في قلوب المؤمنين هو الذي يمكّنهم من تحقيق قصد الله الأصلي من خلال تجديد مستمرّ وصعب لقلوبهم، بحيث يخلَعون الإنسان القديم مع شهواتهم الخادعة ويلبسون الإنسان الجديد الذي يعيش في البِرّ وقداسة الحياة (راجع أفسس، 4/22)،
إذا ألقينا نظرة إلى الواقع المعاصر، لَرأينا الوجوه المتعدّدة للحب المُزيَّف والوسائل الخبيثة التي تُستعمَل لمنع الحياة أو لقَتلها، شرعيّة كانت أم غير شرعيّة. فسيطرة المادّية في بعض المجتمعات حوّلت الحب والحياة إلى مجرّد ظاهرة بيولوجيّة أو كميائيّة، وحيث يسود الكلام عن الرجولة والأنوثة، يخاف الرجال أحيانا من الأبوّة والنساء من الأمومة، وهذه المفارقة ناجمة من فقدان أو إضعاف الإيمان بالله والرجاء، وإسكات الضمير، والخوف من التضحية ومن المجهول. كمسيحيين ينبغي لنا ألاّ نكتفي بحفظ الوصايا أو بمواجهة المسائل الأخلاقية، ولكن أن ننفتح على إلهامات الروح القدس، المُحيي والمُعزّي، الذي يُغذّينا بالروحانية ويُنجّينا من القنوط واليأس. فدورنا كأعضاء العائلة السالسيّة أن نكون فريقا فاعلا ضمن الكنيسة ومع الكنيسة لإعادة إحياء قيمتَي الحب والحياة في عالم اليوم. فما نقوم به لأجل العائلة، نقوم به مع العائلة ومن خلال العائلة، مع العلم أنّ غياب العائلة يضطرّنا أحيانا إلى أن نقوم مقامها.
والآن، في الجزء الأخير، أشير إلى بعض المواقف وأوجّه إلى بعض المبادرات لتطبيق ما استمعنا إليه ولتفعيل الرسالة السالسية تجاه العائلة.
أ) توجيه الرسالة نحو العائلة ككلّ وكأفراد: الأزواج كأزواج وكوالدين والأولاد كأشخاص وكأبناء، يفرض علينا، كأعضاء العائلة السالسية، أن نحمل معنا، قبل كل شيء، رسالة رجاء أساسها المتين تدبير الله ومشيئته من هويّة العائلة. فمعرفة ما أراده الله هي نقطة الانطلاق لكلّ عمل نهدف إلى تحقيقه. العائلة جماعة حياة وحبّ زوجي؛ الزواج عهد وعقد، سرّ ونعمة؛ الأولاد فرح ومسؤوليّة. ما هو موقفنا الشخصي من هذا الواقع على الصعيد العقائدي والعملي؟ ما دور تعليم الكنيسة الأخلاقي والاجتماعي في تنشئتنا الذاتيّة والجماعيّة (كمعاونين مثلا)؟ كيف يمكن أن نكون رُسُل رجاء، بالرغم من الصعوبات التي نعيشها أحيانا في عائلاتنا، في تدبير البيت وفي معاملة الأولاد؟
لدى قراءتي رسالة البطاركة الكاثوليك الأخيرة، سُرِرت كثيرا كسالزياني بأنّهم ذكروا بين أبناء وبنات العائلات المسيحية الذين تقدّسوا في عائلاتهم بفضل تربيتهم المسيحية الرفيعة وماتوا بالقداسة الطوباوي ألبيرتو مارفيلّي، خرّيج ومنشّط في أوراتوريو ريمِني (Rimini) والقديس دومنيك سافيو. (الملحق 1) ولكن، في الوقت نفسه، تأسّفت كثيرا لغياب ذكر العائلة السالسية، وجمعيّة المعاونين تحديدا، بين الحركات الرسولية المهتمّة برعاية العائلة (الملحق 2)، مع أنّ نظام الحياة الرسولية يجعل الالتزام الرسولي في العائلة وفي الزواج بين أولويّات رسالة المعاون والجمعية (المادة 8-9). أعتقد أن سبب هذا الغياب واضح: ليس للجمعية في بلاد الشرق الأوسط حضور كنسي لافت ولا يكفي القيام ببعض النشاطات للحصول على اعتراف وتقدير. هنالك حاجة إلى روحانية عميقة تساند برمجة رسالة واضحة، تحدّد ظروف القيام بها والوسائل وتحرّك الأشخاص. فبقدر ما تكون جمعية حيّة ونشيطة بأعضائها، تستحقّ أن تنتبه لها الكنيسة وتستعين بخدماتها وتُشيد بها. وهذه هي الحال في بعض البلدان، خارج الشرق الأوسط، حيث تميّزت جمعية المعاونين برعاية العائلة وكانت في الطليعة في اتّخاذ مبادرات في هذا المجال بإنشاء مجموعة “عائلات دون بوسكو” و “Hogares Don Bosco” (أي “بيوت دون بوسكو)، كما نشأت ضمن العائلة السالسية جمعيّات مختلفة مثل “الحركة العائلية المسيحية” و”اللقاءات الزوجية” وغيرهما. فكلّ هذه المبادرات لم تَرَ النور بإرادة الرهبان أو الراهبات، ولكن بإرادة علمانيين ملتزمين وواعين لحاجاتهم الذاتية وحاجات البيئة الكنسية والاجتماعية التي ينتمون إليها. فيا ليت توجيه هذه السنة يعطي المعاونين وجمعيّتهم زخما جديدا…
ب) بما أن الارتجال غير مقبول في العمل الرعوي، فالأفضل أن يتأهّل المعاونون بمراجعة أحدث الوثائق الكنسية في هذا المضمار، وبخاصة بتطبيق ما يطلبه رعاتنا في الظروف الراهنة (أنظر المراجع)، على ضوء نصّ نظام الحياة الرسولية (8-9)، مع العلم أن جمعية المعاونين في إقليم إيطاليا-مالطة- الشرق الأوسط قد اختارت موضوع التوجيه الرسولي موضوعا لبرنامج التنشئة لهذا العام وكذلك فعل السالزيان في الشرق الأوسط في جميع مراكزهم. فالتركيز المشترك على هذا الموضوع من شأنه أن يسهّل التوصُّل إلى بعض النتائج الملموسة.
ج) إلى ذلك، تجدُر الإشارة إلى نصّ مشترك لجميع فروع العائلة السالسية، وقد وافقت عليه بالإجماع سنة 2000، أعني” شُرعة الرسالة لدى العائلة السالسية”. أقدّم لكم ترجمة كاملة للمادّة 17 وعنوانها: “الضعف الاجتماعي للعائلة كمؤسّسة”
إن البيئة الاجتماعية والثقافية المعاصرة: لا تسهّل نموّ العائلة الطبيعية.
فالكنيسة تذكّر المؤمنين ببعض القناعات الأساسية، هي:
إن جميع الذين ينتسبون إلى دون بوسكو لَمدعوّون في الظروف الراهنة للاعتراف بأن للعائلة دورا تربويّا، بأنّها البيئة المناسبة لإعداد الشبيبة للحبّ ولاستقبال الحياة، وبأنّها مدرسة التضامُن الأولى بين الأشخاص والشعوب.
فبالتالي يلتزم جميع أعضاء العائلة السالسية، من علمانيين ومكرَّسين، التزاما خاصّا بتعزيز كرامة العائلة ومتانتها، لتتحوّل إلى “كنيسة مصغّرة وكنيسة منزليّة”.
وهنا تبرُز المسائل الجديدة المتعلّقة بالديناميّات التي تُشرِف على الإنجاب ونموّ الحياة البشرية وكذلك على ممارسات قد تنتهك حُرمة الإنسان.
“فعلى هوامش الحياة البشريّة، برزت بوضوح إمكانات ومسؤوليّات جديدة، بفضل الازدهار الرائع الذي حقّقته العلوم البيولوجيّة والطبيّة، والذي تزامن مع تقدُُّم التكنولوجيا المُذهل”. (العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 38). إلى هنا النصّ المذكور.
الخاتمة
لا أحد يستطيع أن يقول إنّ موضوع التوجيه الرسولي لهذا العام بعيد عن الواقع: العائلة تستقطب اهتمامنا في كثير من الأمور، ولا سيّما المادّية، ليل نهار، ولربّما ننسى ما هو أهمّ، أي مقوّمات العائلة. لنكرّس مزيدا من الوقت للصلاة من أجل عائلاتنا ولمراجعة الأسُس التي نريد أن تقوم عليها، وللتفكير في بعض السُبُل العملية المؤدّية إلى مزيد من التضامُن والتعاون فيما بين عائلاتنا… فكل ذلك لا يحتاج إلى وقت كثير، إنّما إلى قرار شخصي بالالتزام الذي هو، في أغلب الأحيان، سرّ النجاح أو الفشَل في كل المبادرات.
وأخيرا وليس آخِرا، فلنجعل عائلة الناصرة قدوة لعائلاتنا ولنطلب شفاعتها في كل حين.