التوجيه الرسولي ١٩٩٤
بفرحكم والتزامكم بشّروا برجائكم واشهدوا لغنى المسيح غير المحدود
بفرحكم والتزامكم بشّروا برجائكم واشهدوا لغنى المسيح غير المحدود
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب ايجيديو فيغانو نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
“كونوا في الرجاء فرحين” (رو 12/12)
أيها القارئ…..
نشأ تقليد التوجيه الرسولي عند السالزيان مع دون بوسكو، لما كان يتبادل التهاني مع معاونيه والشباب بإعطائهم توجيهًا رسوليًّا يكون بمثابة شعار والتزام يعيشونه في العالم الجديد. منذ ذلك الوقت، في مطلع كل عام، يختار الرئيس العام للسالزيان، بصفته خليفة دون بوسكو، توجيهًا رسوليًّا ويوجّهه إلى جميع أعضاء العائلة السالزيانية وإلى الشباب الراغبين في أن يلتزموا رسوليًّا مستوحين روحانية دون بوسكو.
يلخص التوجيه آيتين من العهد الجديد:
مغزاه ما يلي:
الرجاء المسيحي ينبوع الفرح والالتزام.
الشهادة المسيحية الحقيقية تتأصّل في أن نعرف غنى المسيح معرفة اختبارية: “الحياة عندي هو المسيح” (فل 1/21) وأن نبشّر به بالقول وبالفعل. كتلاميذ دون بوسكو، نبشّر ونؤدّي الشهادة بفرح والتزام.
الفرح، في نظر دون بوسكو، طريق القداسة، كما برهن تلميذه القديس دومنيك سافيو الذي قال: “قداستنا قائمة على أن نكون فرحين”.
إذا اخترت دون بوسكو معلّمًا لك ومرشدًا، فلا توفر فرحك والتزامك: أنت سائر على درب القداسة حتمًا.
1- الرجاء المسيحي ينبوع الفرح والالتزام
القديس بطرس يتحدث في هذا المقطع عن واجبات المسيحيين في الاضطهاد ويبدأ بتوجيه الطوبى للذين يتألمون من أجل البرّ والخير الذي يقومون به. لا نعرف تمامًا وضع أولئك الذين تسلّموا هذه الرسالة، ولكن نعرف الوضع العام آنذاك، حيث كانت ممارسة الدين المسيحي تُعتَبر جريمة ضدّ أمن الدولة فكان يجب على المواطنين غير المسيحيين الوشاية بالمسيحيين إلى السلطات وتقديمهم إلى المحاكم.
أكيد أن من يدافع عن الحقً معرَّض للاضطهاد من أجل البرّ.
من ناحية أخرى لا يستطيع المسيحي أن يندمج في مجتمع إلى درجة ألا يكون حضوره ملحوظًا، لأن مثل هذا الموقف يناهض ويعارض مقتضيات الإيمان المسيحي. المطلوب من تلميذ يسوع أن يشهد لإيمانه من خلال مسلك معيّن. لا شكّ أن هذا المقتضى يجلب بعض المصاعب والمشاكل في حياة المسيحي. فما هو الموقف المطلوب في مثل هذه الظروف ولاسيما أثناء الاضطهادات الناجمة من ممارسة الإيمان؟ الجواب منوط بالقيمة التي نضيفها إلى شخص يسوع في حياتنا. هل يشغَل المرتبة الأولى والمركزية أم يكون مجرّد فكرة بين أفكار مختلفة أو همّ بين اهتمامات كثيرة؟
إذا كان يسوع سيّد قلب التلميذ حقًّا، لا بدّ أن يكون للتلميذ الشجاعة الضرورية لمواجهة مقاومة المعارضين له. لذلك لا يمكن للمسيحي تفادي أو تجاهل الأسئلة المطروحة عليه من قبل أعدائه أو غيره من الناس حول إيمانه. من كان مقتنعًا بشيء، يدافع عن قناعته، مهما كلّف الأمر.
والدفاع عن الإيمان لا يعني الدخول في جدال دفاعي أو تبريري، ولكن يعن ممارسة رسالة يقتضيها الوجود المسيحي بالذات وهذا ما نسمّيه شهادة الحياة وشهادة الأعمال. يقول يعقوب في رسالته: “رُبّ قائل يقول: أنت لك الإيمان وأنا لي الأعمال. فأَرِني إيمانك من غير الأعمال، أُرِكَ أنا إيماني بأعمالي” (يع 2/18). هذه كانت شهادة بولس الرسول وهو سجين، لمّا يقول أن قيوده كانت “في سبيل المسيح” كان ذلك واضحًا لمضطهديه وللإخوة على حدّ سواء، فالأخوة (أي تلاميذه) تشجّعوا “فازدادوا جُرأة على إعلان الكلمة غير خائفين” (فل /13-14). ومن المهمّ أن تَخُصّ الأسئلة المطروحة على المسيحيين الرجاء، لأن الرجاء المسيحي، النابع من إيمان راسخ، هو أقوى محرّك وأبلغ مبرّر لمسلكهم ومواقفهم. كان الوثنيون يتعجّبون من الفرح الموجود في المسيحيين ورجاؤهم الوطيد كان ينبوع فرحهم كما يشهد بولس الرسول لما يكتب إلى أهل رومة: “كونوا في الرجاء فرحين” (رو 12/12).
نتساءل الآن عن موضوع رجائنا. رجاء مَن أو رجاء ماذا؟ رجاء المسيح وعودته، رجاء القيامة والحياة الأبدية والمجد المنتظر وهذا كلّه يرتكز على إتمام الوعود في يسوع المسيح، ولكن، في الوقت نفسه، رجاء انتشار ملكوت الله وامتداد سيادة المسيح ومحبّته إلى أقاصي الأرض لتشمل جميع الشعوب والأمم.
المسيحي يعلم أن ذلك حقيقة واقعة، وإن كانت غير منظورة بعدُ في جميع أبعادها ومظاهرها. لذلك، بهَدي الروح القدس ونعمة الله، يسعى ويجاهد (هذا هو الالتزام)، ويسانده في هذا الموقف الرجاء الذي هو المحرّك الحقيقي لحياته. الرجاء إذًا هو محرّك كل التزام ولا بدّ من أن يكون الالتزام مُفعَم بالفرح، لأن، كما سيق وقلت، الرجاء ينبوع الفرح. أمّا الحزن فهو ثمرة الذين لا رجاء لهم (1 تس 4/13). مسيحيًا، لا يمكننا فصل هذه العناصر الثلاثة عن بعض: الرجاء والفرح والالتزام. إمّا أن تتواجد معًا وإمّا ألا تكون.
2- الشهادة لغنى المسيح غير المحدود
بولس، رسول الأمم، لما يقول لأهل أفسس: “أنا أصغر صغار القديسين جميعًا أُعطيتُ هذه النعمة وهي أن أبشّر الوثنيين بما في المسيح من غنى لا يُسبَر غورُه” (اف 3/8)، يشدّد من ناحية على ضعفه وحقارته، ومن ناحية أخرى يشدّد على عظمة الدعوة والرسالة اللتين تلقّاهما من الله وهي أن يبشّر الوثنيين بسرّ المسيح. هذا السرّ عميق جدًا، لا يستطيع أي إنسان أن يعرف عمقه، إلا إذا كان “إنسانًا باطنًا”، أي أن يدرك “العرض والطول والعلو والعمق” لهذا السرّ (اف 3/17-18).
بذكر هذه الأبعاد الأربعة يشير القديس بولس إلى أن تدبير الله الذي تجلّى في يسوع المسيح، ابنه المتجسّد، يفوق كل وصف وكذلك الخلاص وسرّ محبة المسيح التي هي ينبوع الخلاص، ينبوع نرتوي منه باستمرار.
نحن المسيحيين، بقوة المعمودية، صرنا شهودًا لهذا السرّ، نعيش من غناه ونحمله إلى الآخرين. هذه هي الشهادة الفاعلة. فهل نعي عظمة الرسالة المُوكلة إلينا؟ ليس ضروريًّا أن نكون كهنة أو رهبانًا أو راهبات أو معاونين لنطبّق توجيه الرئيس العام… لا يُطلُب منا شيئًا جديدًا، وإنما يُذكّرنا بالتزامات المعمودية والتثبيت التي هي عامة، تشمل جميع المعمَّدين.
الجديد والمميز لنا، أعضاء العائلة السالسية، هو الطريقة التي بها نعيش ونطبّق هذا التوجيه، أي القراءة السالزيانية لا أقوال بطرس وبولس. هذه القراءة نستخلصها أصلاً من روحانية القديس فرنسيس السالسي الذي قيل عنه أنّه صورة حيّة لمحبة يسوع، ونستخلصها تطبيقًا وعملاً من ممارسات دون بوسكو.
3- القراءة السالسية
المادة 27 من قانون المعاونين الذي عنوانه: “اختبار إيمان فاعل”، يقول: “المعاون يشارك دون بوسكو في اختباره الروحي “ويتلخّص هذا الاختبار في الطريقة التي بها تحسّس دون بوسكو لحضور ودور الله الثالوث في حياته، وكذلك حضور ودور العذراء، بالإضافة إلى موقفه من الكنيسة. كل هذه المشاعر والمواقف نقلها إلينا لكي نعيش منها ونختبرها نحن بدورنا، كل واحد منا بحسب مكانه في العائلة السالسية وبمقدار تجاوبه مع النعمة وبالتالي نكتشف دعوتنا في الصميم. دعوة المعاون الخاصة هي أن يكون “معاون الله” في تحقيق تدبيره الخلاصي، لأنه، كما يذكّرنا دون بوسكو: “أقدس المقدسات التعاون مع الله لأجل خلاص النفوس”.
من هنا نرى أنه لا يمكننا أن نبشّر برجائنا بفرح والتزام ولا أن نشهد لغنى المسيح غير المحدود إذا لا نشارك يسوع قبل كل شيء في عمل الخلاص. نحن السالزيان مدعوون إلى مشاركة مميّزة من خلال عيش “المحبة الراعوية” التي هي محور وخلاص الروح السالزيانية. هذه المحبة هي المحرّك والحافز الباطني لحياتنا ونشاطاتنا الرسولية. هي، قبل كل شيء، هبة إلهية، ولكن، في الوقت نفسه، التزام، أي جواب حرّ ومسؤول. إذا أضرمت هذه المحبة قلوبنا وملأت حياتنا، عشنا دعوتنا بكاملها. هذا ما فعله دون بوسكو، كما تقول المادة 28 من قانون المعاونين، هو الذي “جسّد بين الشباب عطف الله الآب الرحوم، محبة المسيح الراعي والمخلّص، نار الروح الذي يجدّد وجه الأرض وعناية مريم الوالدية”. وقد عبّر عن هذه المحبة بالشعار: “أعطني النفوس وخذ الباقي”. ولا ننسَ أنه اختار شفيعًا لمؤسّساته وللعائلة السالسية ككل القديس فرنسيس السالسي، وهو قديس تميّز بالحنان والوداعة وحفاوة العلاقات والغيرة الرسولية…. هذا هو الإطار السالزياني، وهو يُلزمنا بقدر ما نحن نشعر أن نذورنا (كرهبان وراهبات) أو وعدنا (كمعاونين) مُلزمة.
إذن، فالاتحاد بيسوع والاقتداء به من منطق الروحانية السالسية هما الأساس كي نستطيع أن نبشّر برجائنا ونشهد لغنى المسيح كسالزيان ويعني ذلك أن حياة روحية عميقة وحدها تمكّننا من ممارسة الرسالة وأداء الشهادة المطلوبة منا. “من ثبت فيّ وثبتُّ فيه فذلك الذي يثمر ثمرًا كثيرًا ” (يو 15/5). الخِصب الرسولي مرتبط بعمق اتّحادنا بالمسيح واستعدادنا لبذل الذات كما فعل هو. “بمعزل عنّي لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا” (يو 15/5) …. وإلا أصبحنا نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ (1 قو 13/1) وهذا بعيد كل البعد عن التبشير بالرجاء المسيحي والشهادة لغنى المسيح. بتعبير آخر يمكننا القول أن شهادتنا تكون فعّالة بمقدار استيعابنا لهذا الغنى. ولا يكون هذا إلا تطبيق للمبدأ أن أحدًا لا يستطيع أن يعطي ما لا يملك. لما نستطيع أن نقول بكل تواضع مثل بولس الرسول: “الحياة عندي هو المسيح” (فل 1/21)، حينئذ نبشّر ونشهد كما يجب. وإذا ما كان الواقع هكذا، فلنسعَ لبلوغ هذه الغاية التي وحدها تحقّق طموحاتنا المسيحية والرسولية.
4- التبشير والشهادة بفرح والتزام
من مقوِّمات الروحانية السالسية الفرح والتفاؤل والخدمة المسؤولة. لذلك نبدأ الآن بالتعمّق في هاتين النقطتين.
الرئيس العام جمع بين الفرح والالتزام للدلالة على أنهما لا ينفصلان، على الأقلّ في الروحانية السالسية، بل يتكاملان. نتكلّم عن “فرح الالتزام”، أي أن الالتزام ينبوع فرح: “السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ” (رسل 20/35)، كما قال يسوع، كما نتكلّم أيضًا عن “التزام مُفعَم بالفرح”، لأن الفرح يلازم دائمًا الالتزام السخي. بالنهاية القلب الفرح يعطي دائمًا بسخاء….
نحاول الآن أن نتفهّم نوع العلاقة القائمة بين المفهوم والمضمون السالزياني للفرح والمفهوم والمضمون السالزياني للالتزام. بالطبع، مرجعنا هو دون بوسكو.
دون بوسكو هو قديس الفرح. عاشه وعلّمه ونفحه في الذين حوله وفي تلاميذه. يقول الأب فيغانو: “ما يُدهشنا في قداسة دون بوسكو، وذلك يكاد يستُر فيض الروح القداسة فيه، البساطة في التصرّف والفرح اللذين يُضفيان طابعًا سهلاً وطبيعيًّا على ما هو خارق الطبيعة وصعب المنال”. الفرح في دون بوسكو لا ينفصل عن قداسته بل جزء منه، ونفسّره بما يقوله البابا بولس السادس في إرشاده الرسولي “افرحوا في الرب”: هو “هو مشاركة روحية في الفرح الإلهي والإنساني المستقرّ في قلب يسوع الممجَّد… والنابع هنا على الأرض ممن المشاركة في موت وقيامة الرب معًا”. هذا الفرح هو من ثمار الروح، فاض من مريم، في اليصابات، في سمعان الشيخ، في يسوع، في القدّيسين، مع أنّه لم يُعبّر جميع القديسين عن فرحهم بوجه واحد.
دون بوسكو يبدأ ويقول لنا: “أن الشيطان يخاف من الناس الفرحين”، ثم يطبّق هذه النصيحة على ذاته. لما يمزح أو يتكلّم عن أمور جدّية أو يصلّي، ينشر الفرح، كما ينشره بوجه المبتسم الصافي. بعد إحدى المحاولات لاغتياله، لما رأى أ، الرصاصة ثقبت ثوبه، قال مخاطبًا الثوب: “مسكين يا ثوبي! أنت دفعت الثمن… وليس لي سواك… “. مثل هذه الكلمات أو الأحداث المضحكة تُعَدّ بالمئات في حياته فأصبحت ميزة له ولقداسته.
ما هو فرح دون بوسكو؟ نستعين مرة أخرى بتحليل الأب فيغانو، إذ يقول: “هو فرح الحياة الذي يتجلّى عبر الأشغال اليومية؛ هو تقبُّل الأحداث كطريق عادي وشجاع لتنمية الرجاء؛ هو تقدير وتقويم الأشخاص بمواهبهم وحدودهم ليجعل منهم عائلة واحدة؛ هو الانتباه إلى كل ذرة خير مع قناعته الراسخة أن الخير فينا وفي التاريخ أقوى من البشر؛ هو تفضيله للشبيبة (جيل الغد) الذي يُشرِّع قلب وخيال الإنسان أمام المستقبل ويطلب منه أن يتمسّك بالإبداع والمرونة والتوازن لقبول القيم الجديدة في الأزمنة الجديدة؛ هو عطف الصديق الساعي إلى أن يكون محبوبًا ليخلق جوًّا تربويًّا يسود فيه الثقة والحوار للوصول إلى يسوع. فبالنهاية فرح دون بوسكو هو بمثابة بساط من الورد نتمشّى عليه مغنّين ومبتسمين بعد أن لبسنا أحذية متينة للوقاية من الشوك”.
التوق إلى الفرح والتعبير عنه رافقا دون بوسكو طيلة حياته، منذ أيام الطفولة لما كان يسلّي الصغار والكبار بألعابه البهلوانية، لمّا أسّس جمعية الفرح، لما كان يودّع أصدقائه قائلاً لهم: “كونوا مسرورين”. أو لمّا كان يُضحك الحاضرين بنكتة أو بمزاح غير متوقّع. بالحقيقة دون بوسكو رسول الفرح، به يربّي وبه يبشّر.
قيل إن الفرح هو “الوصية الحادية العشر للبيوت السالسية” (الأب كافيليا)، وهذا سرّ من أسرار نجاح الأسلوب الوقائي. يردّد دون بوسكو باستمرار لتلاميذه: “كونوا دائمًا فرحين”، “اخدموا الرب بالفرح”، افرحوا على هواكم. يكفي ألا ترتكبوا الخطيئة”. حِسُّه التربوي الرفيع أقنعه أن الشبيبة بحاجة إلى الفرح والسرور حاجتها إلى الهواء والخبز، مما يتطلّب احترام الولد وتقدير عفويته. دون اللجوء إلى الضغط والقمع والعنف.
من مزايا الفرح المسيحي ألاّ ينحصر الإنسان على التمتّع بالأفراح الروحية، ولكن أن ينفتح على الأفراح الطبيعية أيضًا. يقول البابا بولس السادس: “كم نحن بحاجة إلى جهد تربوي لنتعلّم أو نتعلّم من جديد أن نتمتّع بالأفراح الإنسانية التي يزرعها الخالق على دربنا: فرح الوجود والحياة، فرح القيام بالواجب، فرح الطهارة الشفافة، فرح الخدمة والمشاركة، فرح التضحية والبطولة… على المسيحي أن يطهّر جميع هذه الأفراح ويُكملها ويتسامى بها” (الإرشاد الرسولي “افرحوا بالرب”).
دون بوسكو يتكيّف تماما مع هذه الأفكار، هو الذي طبّقها بالتركيز على الترفيه والرياضة والرحلات والموسيقى والغناء كوسائل مميّزة لاجتذاب الشبيبة إلى التقبّل والقيام بما لا يميلون إليه عفويًّا، أي الدرس، العمل، القيام بالواجب، الممارسات الدينية. كان يريد تلاميذه عاملين، نشيطين، ملتزمين واجباتهم. لا يتحمّل الكسالى ولا يُتيح لهم الفرصة للراحة. كان يحثّهم جميعًا على التمتّع بالفرح النابع من التمسّك بقيم متينة ومتكاملة، مثل الفرح، الدرس والعمل، التقوى (أي الروحانية والممارسات الدينية). هذه القيم محور التربية السالسية، فدون بوسكو يرفض روحانية لا تصب في الالتزام، كما يرفض التزامًا منفصلاً عن الروحانية.
5- الفرح طريق القداسة
بولس السادس يدعو دون بوسكو معلّم القداسة من خلال الفرح ويذكّر البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته “أبو الشبيبة” (1988) الأجواء الهادئة والحماسية والمرحة التي خلقها في “الأوراتوريو” والتي مهّدت الطريق وسهّلت ممارسة القداسة إلى درجة البطولة. لا نستطيع أن ننسى العبارة المشهورة التي وضعها دون بوسكو على لسان تلميذه القديس دومنيك سافيو: “قداستنا قائمة على أن نكون فرحين”. بدون شكّ، استوحاها القديس التلميذ من معلّمه القديس، وبالحقيقة دون بوسكو هو الذي شقّ طريقًا جديدًا للقداسة وجعلها في متناول الشبيبة، وذلك في عصر كان اللاهوتيون يعتقدون أن الأطفال والمراهقين لا يستطيعون أن يبلغوا قمة القداسة. هذا الطريق أو هذه المسيرة نحو القداسة لا يقومان عل مبادئ نظرية وإنما على نمط حياة سبق وعاشه دون بوسكو، جاعلاً نفسه قدوة للذين يعيشون معه. يبقى أنه نمّى في نفسه والآخرين قناعة راسخة، وهي أن “الدين والنعمة وحدهما يُسعدان الإنسان” وأن “الذين يعيشون في نعمة الله يفرحون وحتى في الأحزان يبقى قلبهم مسرورًا”. وكأنه أراد أن يُفهم الشبيبة أن السعادة الزمنية والأبدية هي ثمرة العلاقات القائمة مع الله.
تربية دون بوسكو إذن هي أسلوب ونهج تربوي كما وهي أسلوب ونهج قداسة على السواء. دون بوسكو يربّي على حياة النعمة، على النموّ والنضج في المسيح، أي على القداسة، لأن هدف ودور المربي المسيحي إخراج صورة الله المحتجبة في كل إنسان، حتى يصير إنسانًا كاملاً ويبلغ “القامة التي تُوافق سعة المسيح” (اف4/13). القداسة بحسب دون بوسكو، هي في متناول الشبيبة لأنها مُفعَمة بالفرح، ولكنها في الوقت نفسه لا تستغني عن التضحية والتفاني والبطولة. دومنيك سافيو لبّى هذا التحدّي وواجه هذا الرهان وقام بأكبر إنجاز: بلغ قمّة القداسة في وقت قصير، ألتزم التزام الأبطال.
جذور قداسته، أو على الأقلّ الحافز المباشر للسعي إلى بلوغها كان إرشاد دون بوسكو لما استجاب طلبه المُلِحّ: “ساعدني على أن أصير قديسًا “، فلخّص إرشاده في 3 نقاط:
الفرح، فما يجعلك تضطرب ويسلبك الفرح، لا يأتي من الله.
واجباتك المدرسية والتقوية… ثابرْ على الدرس وثابر على التقوى. وذلك كلّه لا تفعله للطموح بل حبًّا للرب.
اعمل الخير للآخرين. ساعد دائمًا رفاقك ولو فرض ذلك عليك البذل. القداسة كلها هي في هذه الأمور.
في هذه العبارات خلاصة القداسة في نظر دون بوسكو.
انطلاقًا من هذه النظرة، يبقى أن الفرح والالتزام هما ينبوع قداسة حقيقية. والقداسة، بحدّ ذاتها، هي أكبر شهادة للمسيح، والشهادة تكلّلها المكافأة، كما يُعلن بولس الرسول، مشيرًا إلى حياته: “جاهدت جهادًا حسنًا وأتممت شوطي وحافظت على الإيمان. وقد أُعِدَّ لي أكليل البِّر يُجزيني به الرب” (1 طيم 4/7-8). يساعدنا على ذلك تشجيع دون بوسكو الذي يردّد ويؤكّد لنا أن “جزاءً كبيرًا أُعِدَّ في السماء لمن يسعى إلى القداسة”.
أتمنى لكم سنة جديدة مباركة، مُفعمَة بالفرح والالتزام، حتى كلنا سويًّا نعيشها كسنة رجاء وشهادة للمسيح. سوف يدعم مسيرتنا هذه توجيه الرئيس العام وبخاصة زيارة قداسة البابا للبنان. لنتهيّأ لقبول هذه النعمة الكبرى بمضاعفة جهودنا وبعيش روح السينودوس لكي نتجدّد ونُسهم بالتالي في تجدُّد الكنيسة والوطن.