التوجيه الرسولي لعام ٢٠٠٠
دعوا الله يصالحكم
دعوا الله يصالحكم
التوجيه الرسولي السالسي
الرئيس العام الأب خوان فيكّي إدموندو نقلها للعربية الأب فيتوريو بوتسو السالسي
للعائلة السالسية
أن نكون أداة ورسل المصالحة مع الله ومع الإخوة
باسم المسيح سلامنا دعوا الله يصالحكم (راجع2 قور5 /20).
ليلة عيد الميلاد افتتح قداسة البابا اليوبيل الكبير، يوبيل الألفين وهكذا اجتازت الكنيسة عتبة الألف الثالث، وهي شاخصة نحو سر تجسّد ابن الله. فميلاد يسوع كان وما يزال سبب فرح عظيم، كما جاء في إنجيل لوقا: “لا تخافوا، إني أبشّركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كلّه: وُلِدَ لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الربّ…” (لو2 /11-12). إنّها بشرى رائعة أدّت إلى امتزاج فرح السماء بفرح الأرض، فانضمّ إلى الملاك بغتة جمهور الجند السماويين يسبّحون الله فيقولون: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر”(لو2 /13-14). منذ تلك اللحظة انتشر هذا النشيد الملائكي في العالم وتردّده الجماعات المسيحية المصلّية لنشر بشرى الخلاص.
على غرار ما جرى قبل2000 سنة، يعلن الآن لكل المسيحيين: “لا تخافوا، ها إني أبشّركم بفرح عظيم”. يوبيل الألفين هو حدث مفرح، لأنّه يُحيي ذكرى ميلاد يسوع المسيح وحضور الله بين البشر، فيصبح العالم مسكنه ومقرّه إلى الأبد. أمّا الكنيسة عروس المسيح، فتنظر نظرة حبّ إلى عريسها، وهو “عمّانوئيل أي الله”(متى1/13)، وهو أيضًا الذي يجعل كل شيء جديد (…)، الألف والياء البدء والنهاية”(رؤيا21/5-6).
1- روحانية اليوبيل
في براءة الإنذكتي” سر التجسّد” (وهي الوثيقة البابوية الرسمية الداعية إلى الاحتفال باليوبيل) يقول البابا: “يسوع هو الجديد الحقيقي الذي يفوق انتظار البشريّة كلّه وسيبقى إلى الأبد، على تعاقب الحقب في التاريخ. إن تجسّد ابن الله والخلاص الذي أتى به بواسطة موته وقيامته هما المقياس الحقيقي في تقويم الواقع الزمني وكل مشروع من شأنه أن يجعل من حياة الإنسان حياة أكثر إنسانية” (ع1).
يتوق كل إنسان، بلا شكّ، إلى حياة أكثر إنسانية، ولكنّ الناس لا يتّفقون على معنى هذا التعبير، لأن مفهوم الإنسان بحدّ ذاته يختلف باختلاف المبادئ الفلسفية والإيمانية التي يقوم عليها. قداسة البابا يدعو المؤمنين إلى اعتماد مقياس التجسّد والخلاص لتقويم مشروع حياتهم ولإعطائه معنى إنسانيًّا ومسيحيًّا شاملاً، ويدعوهم إلى عبور باب اليوبيل الذي يرمز إليه الباب المقدّس المفتوح لهذه المناسبة في بازليك القديس بطرس وفي البازيليكات الكبرى الأخرى، بروح الخشوع والتوبة. فالتوبة والتحوّل الذاتي هما جوهر اليوبيل.
العبور عبر الباب المقدّس يذكر المؤمن بأنه مدعوّ إلى العبور من الخطيئة إلى النعمة. قال يسوع: “أنا الباب” (يو 14/6) فمن دخل منيّ يخلص” (يو10/9). وقال أيضًا: “لا يمضي أحد إلى الآب إلا بي” (يو14/6). ما قاله يسوع عن نفسه يشير إلى أنه هو المخلّص الوحيد المرسل من الآب. فهناك إذن مدخل واحد للولوج في حياة الشركة مع الله وهو يسوع، طريق الخلاص الوحيد والمطلق. فعلى يسوع وحده ينطبق قول المزمور: “هذا باب الرب، فيه يدخل الأبرار”(مز118/20).
نريد أن ندخل فعلاً في روح اليوبيل؟ علينا أن نحافظ قبل كل شيء على طبيعته، أي على أنه “زمن للدعوة إلى التوبة” (ع11). لذلك، انسجامًا مع طبيعة وأهداف السنة المقدسة وتمشّيًا مع توجيهات الحبر الأعظم، اختار الرئيس العام كموضوع التوجيه الرسولي لعام ألفين موضوع المصالحة مع الله.
قد يسأل سائل: “أين التوجّه الرسولي في موضوع هذه السنة؟”. الجواب صريح وقاطع، أعرب عنه بسؤال مضاد: هل يمكن لأحد أن يكون رسولاً إذا ما تصالح مع الله؟”. لذلك يعيدنا توجيه هذه السنة إلى جذور دعوتنا ورسالتنا ويذكّرنا بحقيقة كثيرًا ما ننساها أو نتناساها، وهي الكلمة الواردة في المزامير: “إن لم يبن الربّ البيت، فباطلاً يتعب البنّاؤون” (مزمور127/1). ليست من سنة أكثر ملاءمة من سنة اليوبيل لفحص ضمير جدّي في هذا المضمار.
2- يسوع المسيح سلامنا ومصالحتنا
نحن المؤمنين نعرف أن السلام الذي كان الأنبياء وأبرار العهد القديم يصبون إليه قد منحه الله في شخص يسوع المسيح لأنه به وفيه قهرت الخطيئة. أضحى المسيح، على حدّ قول بولس الرسول، “سلامنا” (أفس2/14.
لأنه حقّق السلام بين جميع الناس، موحدًا الشعوب والأمم في جسد واحد. كذلك “صالح الكائنات، سواء في الأرض أو في السماوات، فهو الذي حقّق السلام بدم المسيح على الصليب “(قولسي 1/20. إذن، بما أننا “دعينا لنصير جسدًا واحدًا”،” يسود قلوبنا سلام المسيح” (قولسي3/15). فكل مؤمن ينال التبرير، يحيا بواسطة يسوع المسيح في سلام مع الله (رومة5/1).
من منطلق يقوله بولي الرسول نسعى إلى التعمّق في معنى هذه الحقيقة: إن يسوع المسيح سلامنا ومصالحتنا. المؤمن يعرف أن المصالحة تأتي من الله المستعدّ دائمًا لمسامحة من يتوجّهون إليه ويرمون خطاياهم وراء ظهرهم (راجع أشعيا38/17). إن حبّ الله اللامتناهي يفوق الفهم البشري، كما يذكّرنا الكتاب المقدس: “أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك”(أشعيا49/15). إن الحب الإلهي هو أساس المصالحة التي نحن مدعوون إليها.” هو الذي يغفر جميع آثامكِ ويشفي جميع أمراضكِ، يفتدي من الهوّة حياتكِ ويكلّلكِ بالرحمة والرأفة… لا على حسب خطايانا عاملنا ولا على حسب آثامنا كافأنا” (مزمور103(102) /3-4، 10). لقد بلغ الله في استعداده المحبّ للمسامحة، حدّ إعطائه ذاته للعالم في شخص الابن الذي أتى ليمنح الفداء كلّ شخص بمفرده والبشرية بأسرها. وحيال إهانات البشر التي انتهت بالحكم على يسوع بالموت، فهو يصلّي: “يا أبتي، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون”(لوقا23/34).
إن مسامحة الله تعبير عن حنان الآب. ففي مثل الابن الضال الوارد في الإنجيل (راجع لوقا15/11-32)، أسرع الأب إلى لقاء ابنه حين رآه راجعًا إلى البيت. ولم يدعه يعتذر له: لقد غفر كل شيء. إن الفرح الكبير الناتج عن المسامحة التي أعطيت وقبلت يشفي جراحًا لا تشفى وبقيم العلاقات من جديد ويوصلها في حب الله اللامتناهي (راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة لمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي1997: “قدّم المسامحة، تنل السلام”، ع6).
لقد أعلن يسوع عن غفران الله في حياته كلها. كشف عن الله الذي هو آب، والذي هو محبة. لقد أظهر الله “غنيّا بالرحمة” (أفس2/4) وجعل هذه الحقيقة واقعًا ماثلاً للعيان وركّز عليها مهمّته ورسالته كمسيح. كما نعلم، انتهت رسالة يسوع بالصليب والقيامة، أي بما يسمّى بسر الفداء والسر الفصحيّ. فهو الذي “لم يعرف الخطيئة، جعله (الله) خطيئة من أجلنا” (2قور5/21)، على ما يقول بولس الرسول. فبذبيحته “عوّض” عن خطايا الإنسان وأعاد المصالحة والسلام بيته وبين الله.
الإيمان بالابن المصلوب هو “الإيمان بوجود المحبّة في العالم وبأن المحبة أقوى من كل شر، أيًّا كان نوعه (…) والإيمان بمحبة من هذا النوع معناه الإيمان بالرحمة التي هي جزء لا يتجزأ من المحبة” (يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة في الرحمة الإلهية، ع6).
3-النعمة والرحمة في حياتنا
كل مؤمن مدعو إلى أن يختبر خلال هذه السنة اليوبيلية المقدسة المصالحة مع الله وإلى أن يكتشف انعكاساتها على الحياة اليومية، وبخاصة في علاقاته مع الآخرين. وفضلاً عن ذلك، فنحن، تلاميذ وأبناء دون بوسكو، علينا أن نكتشف أيضًا مع البُعد اللاهوتي بُعد المصالحة الإنساني والتربوي. هنالك أسئلة لا بدّ أن تطرح: ما هو مكان الخلاص الذي أتى به يسوع المسيح في حياتنا وفي حياة الأشخاص الذين هم حولنا؟ هل هذا الخلاص يعنينا وكيف؟ ماذا نفعل ليعني الآخرين أيضًا، وبخاصة السباب؟
إن إنسان اليوم وشباب اليوم يختبرون في ذاتهم الانقسام والألم، النزعات والأخطاء. فكيف نحن ننقل إليهم بشرى الخلاص، أي كيف نُفهمهم أن الله يحبّهم كما هم ويلتقيهم حيثما يتواجدون وأن باب الأمل مفتوح أمامهم في جميع الظروف ومهما كان وضعهم صعبًا؟ نحن إذن رسل الرحمة وفي خدمة المصالحة، بعد أن كنا قد تصالحنا مع الله واختبرنا ما للمصالحة من نتائج إيجابية وبنّاءة في توجيه الحية.
تكمن المصالحة مع الله في بعض الخطوات التي لا بدّ من القيام بها وتعتبر أساسية لعيش روح اليوبيل في هذه السنة، وهي: العودة إلى الله، مراجعة الذات والانفتاح على الآخرين.
أ) العودة إلى الله
يعتقد الكثيرون أن المصالحة تبدأ بإقرار الأخطاء. لا شكّ أن الإقرار ضروري، ولكنّ المصالحة كما تظهر في الإنجيل هي مبادرة يسوع دائما، الراعي الصالح الذي يفتقد الخروف الضال. يسوع ينظر إلى لاوي العشّار ويقول له: “اتبعني”(لو5/27). ينظر إلى زكّا ويقول له: “يجب عليّ أن أقيم اليوم في بيتك”(لو19/5). يدافع عن المرأة الخاطئة (لو7/48) والزانية (يو8/10). يعفو عن المرضى قبل أن يشفيهم. ينظر إلى بطرس، وكان قد نسي إنكاره له، “فتذكر بطرس كلام الرب…فخرج من الدار وبكى بكاءً مرًّا (لو22/61). إذن، فمسيرة المصالحة في الإنجيل تبدأ بخطوة صادرة من يسوع الذي لا يقف متّهمًا أو حاكمًا، بل يظهر وكأنه شخص يسعى إلى إقامة علاقة لا ينتظرها الآخر. ولكن، بدون تجاوب الإنسان، تبقى مبادرة يسوع بدون أي نتيجة فيتحمل الإنسان وحده مسؤولية الفشل. فهل نجسر بأن نرفض المشاركة في فرحة العيد، عيد الغفران والمصالحة، ونحن نعلم أن هذه السنة المقدسة عيد مستمر للغفران والمصالحة؟
ب) مراجعة الذات
لدى الكنيسة قناعة راسخة وهي أن سر التوبة، بالنسبة إلى المسيحي، هو الطريق العادي لنيل الصفح وغفران الخطايا الكبيرة (المميتة) المرتكبة بعد العماد. لذلك تعلّق أهمية كبيرة لأعمال التائب وفي أولها استقامة الضمير ونقاؤه. “لا يمكن للإنسان أن يتقدّم في طريق التوبة الصادقة الصحيحة، ما لم يفهم أن الخطيئة تنأى به عن القاعدة الأدبية المكتوبة في عمق كيانه وما لم يتحمّل شخصيًّا مسؤولية أفعاله. لا يكفي أن نقول: “هذه خطيئة” فحسب، بل “إنّي خطئت”. فالعلاقة السرية (أي المتعلقة بسر التوبة) لنقاء الضمير هو الفعل التقليدي المدعو “فحص الضمير”. هذه المراجعة العميقة للذات، استعداد لسر التوبة، لا تكون مجرد بحث نفساني-إ ذ لا يتوجه المؤمن إلى الكاهن مثلما يتوجه أي إنسان إلى الطبيب النفساني- بل مقارنة مخلصة صافية مع الشريعة الأدبية (أي الوصايا)، ومع القواعد الإنجيلية التي تعلّمها الكنيسة، ومع المسيح نفسه معلمنا ومثالنا في الحياة، ومع الآب السماوي الذي يدعونا إلى الخير والكمال (راجع الإرشاد الرسولي بشأن المصالحة والتوبة، ع31).
مراجعة الذات إذن، غالبًا ما تكون بداية الارتداد إذا تجسدت في ندامة حقيقية، أي في تغيير جذري للحياة وإعادة اكتشاف فرحة الخلاص.
ج) الانفتاح على الآخرين
العودة إلى الله وتبديل الحياة لا يكتملان إلا إذا رافقتهما خطوات ملموسة نحو القريب. يسوع جمع دائمًا في تعليمه بين محبة الله ومحبة القريب وكلنا يتذكر الآية الشهيرة الواردة في رسالة القديس يوحنا الأولى: “إذا قال أحد: إني أحب الله، وهو لا يحب أخاه كان كاذبًا لأن الذي لا يحب أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه” (1 يو4/20).
ففي البراءة الداعية إلى الاحتفال باليوبيل، يشدّد البابا على ضرورة إظهار المحبة (راجع ع12) كعلامة ضرورية ومميزة للسنة المقدسة، وكأن الإنسان يبلغ محبة الله الرحيمة وبالتالي رحمته، على قدر ما يبدل ما في نفسه وفقًا لمتطلبات محبة القريب (راجع الرسالة العامة في الرحمة الإلهية، ع14).
4- طريقة سالسية لعيش أهداف اليوبيل
نعلم جميعًا أن الروحانية السالسية تُضفي على حياة المؤمنين الذين يختارونها للسير على خطى المسيح مع دون بوسكو، وجهًا خاصًّا على صعيد التفكير والمشاركة. ذلك بأن يسعى كل واحد من الرهبان والراهبات والمعاونين إلى الحفاظ على هويته الخاصة بالتمسّك بالمبادئ السالسية الثابتة وبتطبيقها في ظروف حياته المختلفة والمتغيرة. فهل يمكننا القول إننا نستطيع أن نعيش اليوبيل بطريقة سالسية؟ وبخاصة، كيف نعطي وجها سالسيا للمصالحة مع الله، إن كنا نتصالح مع الله شخصيا أو إن كنا نوجّه غيرنا، لا سيما الشباب، إلى ذلك؟ الجواب، بكل تأكيد، هو “نعم” لعدة أسباب.
المصالحة مع الله من خلال سرّ التوبة كانت وما تزال من أركان الأسلوب الوقائي الذي أراده دون بوسكو أسلوبا للتربية على القداسة. فهذه المصالحة لا تتمّ إلا عبر مراحل وباستعمال وسائل عدة متكاملة. لقد وضع دون بوسكو المصالحة مع الله في قمّة اهتماماته التربوية وفي الوقت نفسه مهّد لها الطريق، آخذا بعين الاعتبار ظروف حياة الأولاد وقدرتهم على استيعاب بغض القناعات والممارسات الأساسية في هذا المجال. هذا والتقليد السالسي، وهو امتداد وتطبيق عصري لخبرة دون بوسكو التربوية، لا يزال يؤمن بأن لسر المصالحة بعدا تربويا مهما في إطار مسيرة التربية على الإيمان. لذلك، بمناسبة اليوبيل، تدعونا قناعاتنا السالسية إلى مراجعة ممارساتنا في هذا المجال على الصعيد الشخصي والجماعي. ما هي نظرتنا إلى سر المصالحة أي التوبة وما هو دوره في حياتنا الشخصية؟ قوانين الأعضاء المكرّسين في العائلة السالسية، أي الرهبان والراهبات، ونظام الحياة الرسولية للمعاونين تخصّص مادة واحدة أو أكثر (فوانين الرهبان90، 84، 36-قوانين الرهبات71، 41، 17-نظام المعاونين33) لهذا السر وتشدّد كلها على أن هذا السر يطبع حياتنا بدينامية ارتداد مستمر تنمينا في الحبّ. وكأن قبول هذا السر بتواتر يمنعنا من الركود الروحي ويقوينا ويدفعنا إلى الأمام. فماذا يدفعنا كالسالزيان على أن نُولي هذا السر أهمّية واهتمامنا اليوم بالذات وعلى أن نكون أداة ورسل المصالحة مع الله ومع الإخوة.
أعتقد أن هنالك عوامل عدّة تتعلق بتعليم الكنيسة والتقليد السالسي، كما سبق وذكرت، وتتعلّق أيضا بالاختبار الذاتي وبرسالتنا التربوية. أكتفي بالتركيز على نقطتين أساسيتين وضروريتين في التنشئة الذاتية وفي تربية الآخرين على عيش المصالحة مع الله والاستفادة من سر التوبة. الأولى هي ظاهرة منتشرة في عالم اليوم وهي فقدان معنى الخطيئة، والثانية هي تنشئة الضمير. الاثنتان مرتبطتان ارتباطا وثيقا، لأن فقدان معنى الخطيئة يؤدي، لا محالة، إلى تعطيل الضمير فيعجز عن القيام بدوره التوجيهي والحاكم.
أ) فقدان معنى الخطيئة
لقد اكتسب الضمير المسيحي، على مرّ الزمن إحساسا رهيفا وإدراكا دقيقا حادّا لما تحتويه الخطيئة من بذار الموت. فعلى ضوء الإنجيل، علينا أن نكتشف أشكال الخطيئة المختلفة، وهي كثيرا ما تظهر اليوم تحت أقنعة متعددة تغطّي وجهها الحقيقي. كان في الماضي أشخاص يرون الخطيئة المختلفة في كل مكان ويشدّدون على خوف العقاب الأبدي، (وقد وجّهت هذه التهمة إلى دون بوسكو أيضا). أمّا اليوم فكثيرون الذين لا يرون الخطيئة في أي مكان أو يغطونها بستر المحبة الإلهية وكأن الخطيئة لم تعد تستوجب عقابا أو كأن جهنم مجرّد خيال. تحدّث قداسة البابا غير مرّة عن فقدان معنى الخطيئة، وكأنه “ظلام الضمير” أو “كسوف الضمير”، بينما دعا حسّ الخطيئة “ميزان حرارة” كل ضمير واعٍ.
إن هذا الواقع يُثير تساؤلات: هل دخلنا نحن أيضا في أزمة ضمير؟ وهل لنا فكرة واضحة عن الضمير ودوره في حياتنا؟ أم أفسدناه أو بنّجناه أو أسكتناه؟
في عصرنا علامات كثيرة تدعو إلى القلق لأن الضمير الذي حدّده المجتمع الفاتيكاني الثاني بأنه “لبّ لإنسان السرّي جدّا ومخدعه المقدس” (الكنيسة في عالم اليوم ع16) أمسى في كثير من الناس كلمة فارغة من المعنى وتعطّل تعطلا شبه تام. وهذا التعطّل يؤدّي، لا محالة، إلى تعطّل حسّ الخطيئة وفقدان معناه، مع ما يتوقّف عليهما من سوء استعمال الحرّية وفقدان الاتجاه نحو الخالق وزعزعة المبادئ الأخلاقية.
لهذا الوضع أسباب مختلفة لا أدخل في تفصيلها، ولكن أكتفي بذكرها: 1): “العلمانية” التي تتجاهل الله كليا وتنجرف في تيار الاستهلاك والملذات دون أي اعتبار أخلاقي؛ 2) استنتاجات خاطئة لبعض العلوم الإنسانية كعلم النفس، وكأن إزالة الشعور بالذنب يفرض إزالة حسّ الخطيئة، فيجوز بالتالي استبدال الكاهن المعرّف بالطبيب النفساني؛ 3) ” النسبية” الأخلاقية التي تستغني عن المراجع الثابتة وتسمح لكل فرد أن يكون مصدر مبادئه وقيمه الأخلاقية؛ 4) التخلّي عن المسؤولية الشخصية لإلقائها على المجتمع أو على البنى الاجتماعية وغير ذلك (أنظر مثلا إلى ظاهرة عصابات الشباب أو المراهقين حيث تفقد الهوية الشخصية تماما…) ( راجع الإرشاد الرسولي في شأن المصالحة والتوبة ع18).
كلنا شاهد لهذه التيارات المنقولة إلينا عبر كتب تدعي أنها فلسفية أو علمية وبخاصة عبر وسائل الإعلام التي تطول الجماهير. فالنتيجة واضحة أمامنا: هز وانهيار القيم الأخلاقية.
فهل نظلّ مكتوفي الأيدي ونتعرّض للانجراف وراء أمثلة مسلكية يفرضها التوافق والتصرّف العام، أم نتهيأ للسير عكس التيار؟ أما حان الوقت لنتسلّح الله لنستطيع المقاومة في يوم الشرّ، كما يقول القديس بولس؟ (راجع أفس6/13). فكيف نتهيّأ؟ هنالك وسيلة واحدة لتهيئة الذات لتربية الأولاد والشباب على مواجهة.
هذا الوضع، وهي تربية الضمير وتنشئته.
ب) تربية الضمير وتنشئته
إنها مسألة تهمّنا جمعيا، بل هي محكّ كفاءتنا التربوية، مهما كانت دعوتنا الشخصية وأيا كان دورنا التربوي. لا حاجة إلى التذكير أن تربية الآخرين تبدأ بتربية الضمير، لأن الضمير مكان التقاء الإنسان بالله. فالضمير المنحرف أو المشوّه يشوّه صورة الله ويحرّف كلامه ويحول دون تحقيق مشروع الخلاص.
بشكل عام، تستهدف التربية على الإيمان اكتساب أو إعطاء ذهنية إيمانية لا تخشى المقارنة، والمواجهة أحيانًا، بالقيم لتوجيه الحياة وفقًا للإنجيل. إن هذه المسيرة طويلة وشاقّة ولا تنجح إلا باعتماد التدرّج والاستمرارية التربوية، مع مراعاة ظروف كل شخص لجهة العمر والبيئة العائلية والاجتماعية ومستوى الثقافة الخ…
إليكم بعض الأفكار قد تساعدكم في عملكم التربوي مع الأولاد والشباب.
أما الضمير الخلقي المسيحي فلا يتكوّن إلا بمقارنة الحياة الذاتية بمتطلّبات الإنجيل وتعليم الكنيسة. فالانفتاح على الحقيقة الموضوعية هو شرط مسبق لقبول كلمة الله. إنه تحدّ يلزم المربي بأن يكون أمينًا في عرض المبادئ الأخلاقية وأن يعرضها غرضًا كاملاً، مع مراعاة ملائمة لظروف الشباب.
وتجدر الإشارة هنا إلى الابتعاد عن الممارسة الدينية وعن الالتزام الكنسي، كثيرًا ما ينبع من إيمان لم يدعمه إطار ثقافي واضح (نقص في معرفة مبادئ وطريقة التفكير أو كيفيّة معالجة الأمور ومواجهة الأحداث الخ…)، وكأن كل ما هو جديد يهدّد ويزعزع الضمائر وكأنه يفرض على الناس، لا سيما الشباب، نمط حياة على عيار واحد. وهذا ما أسّميه بـ “عولمة” الضمائر أو تنميطها وكأنها بضاعة (standardisation). وهذا ما يجري بصورة مكسوفة أو مبطنة.
الضمير المسيحي الذي يقرأ الأحداث وأفعال الناس، بدءا بأفعاله، في ضوء الإنجيل ويقومها بمقاييس لا تتغير. فأكثر من أي وقت مضى، يريد الإنجيل أن يدخل اليوم، في مطلع الألف الثالث، في حياة الأشخاص وأن يقدم لهم رؤيا للواقع تتمحور حول العلاقة بالله الآب وبالابن المخلّص. غير أن الانتقال من الإنجيل إلى واقع الحياة ليس بسهل. إنه يحتاج إلى تربية الضمير، لكي بتأهّل لإدراك أخلاقية التصرّفات ويميّز بين ما هو ثابت وبين ما هو عابر. فالثابت هو القواعد المستخلصة من طبيعة الإنسان، من الإنجيل ومن خبرة الكنيسة، وهي تشكّل الخطوط الأساسية لكل حياة مسيحية حقّة.
الخاتمة
لاحظتم، بدون شكّ، أن التوجيه الرسولي لسنة ألفين يفتح أمامنا آفاق واسعة جدا، إن كان على الصعيد الروحي الشخصي أو على الصعيد التربوي. ألم يكن لقاء الابن الضال بحب أبيه منطلق حياة جديدة أمضاها في البيت الوالدي؟ كلّنا في مسيرة إلى بيت الآب، فروحانية اليوبيل تدعمنا دعمًا مميّزًاً خلال هذه السنة المقدسة. الدعوة إلى تغيير حيلتي واقعي وإلى إزالة تدريجية للشرّ الداخلي وإلى تجدّد في الوجود الخاص تنطبق على كل مؤمن. يسوع وحده هو سلامنا ومصالحتنا، فلن نرتاح في حضن الله إلا إذا عبرنا هذا الباب الخلاصي.
فيا ليت نعبره برفقة عدد كبير من الناس، أقارب كانوا أم إخوة في الرهبنة أو العائلة السالسية أو الرعية أو تلاميذ أو شبيبة نهتمّ بهم، كأبناء دون بوسكو، ملتزمون بأن نكون رسل محبة الله نحو الشباب. فلنتصالح إذن معه قبل كل شيء، كي نستطيع، وقد امتلأنا من رحمته، أن نظهر للآخرين جمال حبه غير المتناهي وفرح الحياة معه.