القسم
مواضيع في التعليم المسيحي
مواضيع في التعليم المسيحي
الأب بسّام آشجي
للجميع
فعلى الإنسان أن يُميّز كل شيء حتى يختار المناسب
مقدّمة
لقد خُلق الإنسان حراً. فلا تضاف حريته على كيانه، بل هي إنما من عمق جوهره. ويقول محقاً (بعض الشيء!) الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر: “إنني أكون حريتي” Je suis ma liberté. فالرؤية الصحيحة للإنسان تنفي مفاهيم: “القَدَريّة” والعبودية وصدف الوجود. فهو الذي يصنع تاريخه دون أن يلتزم بأية “قَـبْليـّة” محتومة. لذلك وبفضل حريته هو مدعو أن يختار، ولكي يختار لابد له أن يُميّز، وبشكل حر وموضوعي. والتمييز هنا لا يتناوله العقل أو العاطفة فقط، بل الإنسان بكامله بكل ما يحمل من ملكات وجوده. فيقول مثلاً هذه رؤيتي، وتلك رؤية المجتمع. هذا نظام الكون، وذلك منطق العلوم. يتساءل: ما هو الحقيقي؟ وما هو المزيف؟ ما هو الواقع؟ وما هو الوهم؟ ولكي يختار يُميّز أيضاً: ما هو المناسب لي؟ لماذا هو مناسب؟ كيف يكون مناسباً؟ وعند المؤمن تتصدر لديه تساؤلات أخرى في حركة التميز: ما هي مشيئة الله؟ هل هناك ما يعاكسها؟ أهي مشيئة العالم أم ميل منحرف أم روح شرير؟ وما دوري في ذلك؟ فلا يكتفي المؤمن أن يسأل: كيف أميّز وأقيّم واختار والتزم؟ بل يتساءل أيضاً ودوماً: ما حضور الله في كل مكان من الأفعال السابقة؟
قد لا نحتاج اليوم، في عالمنا المعاصر، أن نرفع من شأن الإنسان لجهة فرادته وتميزه عن بقية الكائنات. فمهما يحمل من ضعف ومحدودية تشهد له إنجازاته على تفوقه وعظمته. ولكن لا نستطيع، رغم ذلك، أن نعفي أنفسنا من السؤال: من أنت أيها الإنسان؟ أنكتفي أن ندرك فيه حركة عقل وحضارة، وتشابك في العلاقات والعواطف، والمواقف، والآراء…؟
إن الرؤية المسيحية للإنسان تظهر لنا المعنى الحقيقي له، دون أن تزيل عنه علامات الاستفهام. فهو “صورة الله ومثاله”، سفيره على الخليقة يُميّز كائناتها ويتسلط عليها (تك1/15) والأكثر من ذلك: أن الله هو “أبّا “أبانا، كما رأينا في الحديث السابق. و”أبانا” هو نفسه الله الخالق “الذي لا يفي به وصف، ولا يحده عقل، ولا يرى ولا يدرك، الدائم الوجود، والكائن هو هو”. هل الإنسان صورته، ابنه، هو أيضاً، رغم ضعفه وحدوده، موجودٌ على مثاله “كائنٌ هو هو”: ليست الحقيقة فيه هي فقط ما يظهر ويدرك ويعقل؟
إن العلامة الأولى للتمييز الروحي هي أن نسأل عن الإنسان وعن دعوة كيانه للعبور من مستوى الخليقة العادية إلى مستوى البنوة الإلهية. وبمعنى آخر: هل نميز في حياتنا أننا أبناء الله؟ هل تظهر بنوتنا له في مواقفنا وأحداث حياتنا وآرائنا؟ كيف نميز ذلك؟ وما أهمية ذلك؟
مجموعة من التساؤلات تتصدر الحديث هذه الأمسية المباركة ليس لتتابع بتسلسل الإجابات عنها، بل لتفتح الآفاق أمام نداءات الروح القدس “الذي يهبُّ حيث يشاء” (يو3/8). فتدعو جميعنا إلى إصغاء مقدس، نتلمس مشيئة القدوس من خلاله، ونميّز إرادته المُحبّة. يقول أوغسطينوس: “إن أردت أن ترى الحقيقة فأدخل إلى ذاتك.. “. فهلمّوا ندخل غمار عليّة الروح.
التمييز الروحي في الكتاب المقدس
العهد القديم:
منذ الصفحات الأولى للكتاب المقدس، تُطرح الإشكالية في حركة التمييز الروحي عند الإنسان. ففي قصة “امتحان الحرية” (تك3) تظهر أن المشكلة الكبرى للإنسان تكمن في اختياراته الخاطئة، التي وجدت إنما بتمييز ضعيف، بفعل تدخل غريب (الحية – إبليس). فالله يعلن بوضوح عن أن “معرفة الخير والشر” لا يمكن أن تتم بشكلٍ ناضج إلا بمرافقته. فيمكن للإنسان أن يستقلّ عن خالقه، إن شاء، في كل الأمور، ولكن، لا يستطيع ذلك في “معرفة الخير والشر”. لأنه، لو فعل ذلك، فسيبقى أبداً معرّضاً لهشاشة الخطيئة. هذا ما يحصل حقاً، إذ يلبس الشر ثوب الخير، ثوب ملاك النور (تك3/5-6، أنظر أيضاً: 2كور14/11). ويأكل الإنسان الخديعة، فتتعطل لديه حركة التمييز الروحي، فيتكاثر شره (تك6/5). ويختلط الشر بالخير (اش5/20، رو1/21- 25). وهكذا يهيم الإنسان في صحراء الحياة يبحث عن “مشيئة الله” لتكون له مقياساً لتمييزه. والله بدوره لا يبخل عليه بإعلانها بشتى الطرق والعلامات. فيظهر الرفيق الأمين لدربه، والحكمة المقدسة لاختياراته. فتتسطر على صفحات الكتاب المقدس مظاهر التمييز الروحي بحثاً عن مشيئة الله والعمل بموجبها (مز143/10). ويسخى الله بأن يعطي الإنسان قلباً جديداً، ليعرّفه على مشيئته، وروحاً جديداً، ليعمل ويعيش بموجبها (حز36/26-27). وتتصدر “الشريعة” بياناً واضحاً لتمييز مشيئة الله لتكون قريبة من الإنسان نوراً يضيء له (تث30/15، أش55/7). وتتسخر الطبيعة أيضاً لتعلن مصداقية مشيئة الله (تك9/12-17، خر14/21، مز135/6، أيو37/12، سير43/13- 17). فيكون الإنسان تارة مميزاً لها وعاملاً بموجبها، وطوراً متغافلاً عنها خائناً في تحقيقها (خر32…). وتظهر له أحياناً صعبة التحقيق، لا بل تعسفيّة (حز18/25). فيذكّره الله بمحدوديته كمخلوق (أر18/1-6)، ليؤكد أن اتّباع مشيئته هو خير له كإنسان، فهي الحقيقة الثابتة إلى الأبد (مز33/11)، والله هو الذي يسهر على نجاحها (مز40/8-9، أش53/1، 67/4، نشيد2/7، 3/5 ،8/5….). ونلاحظ أيضاً في العهد القديم: كيف تتولى شخصياته حركة التمييز الروحي لمشيئة الله لهم وللآخرين. فيختار الله نوحاً، ليعلن عن عزمه بتجديد الخليقة. ويُميّز موسى لشعبه “شريعة الله”. ويدوّن مَنْ يدوّن تاريخ رفقته وخلاصه للإنسان. ولا يبخل على أرميا وأشعيا وحزقيال وكل الأنبياء بأن يصرخوا: “يقول الرب السيد…”، ويسمح للشعراء والمتصوفين أن ينشدوا وصاياه وتدابيره.
العهد الجديد:
إن الإنجيل ببشاراته الأربع، كذلك العهد الجديد بجملته، يُعمّق أهمية التمييز الروحي، ليبلغ به نموذجاً مقدساً في شخص يسوع المسيح القائم من بين الأموات. وعلى غرار العهد القديم، تطرح اشكاليته على الإنسان وصعوبته منذ الصفحات الأولى، لتصل به إلى انتصار الحق، حيث الروح القدس ينجز في الإنسان ومعه مشيئة الله:
التمييز الروحي في تقليد الكنيسة
الآباء:
يعتبر آباء الصحراء، خصوصاً القديس أنطونيوس الكبير، “التمييز الروحي” أعظم الفضائل. حيث بواسطته تُنظّم الحياة الروحية. ولذلك يُميّز في أعمال الإنسان ثلاثة مستويات:
ويتحدث القديس ايرنيموس أيضاً مميزاً اختبارَين يعيشهما الإنسان:
فعلى الإنسان أن يختار العمل بمشيئة الله، لكيلا يبقى في “فراغ”، إذ أن “الشيطان يشغل الأيادي الفارغة”.
ويُميّز القديس كاسيانوس عمل الشيطان حين يشعر الإنسان “بالعزلة المقرونة بالحزن واليأس”. فمن يقول: “لا أحد يفهمني”، يكون في تلك العزلة كما يقول ايفاغريوس البنطي: “فالشيطان يفصل الإنسان عن جماعته، ليأسره في سجن نفسه المظلم”.
ويضع الآباء عدة مناهج للسلوك في التمييز الروحي. فيؤكد آباء “العصر الذهبي” (القرن الرابع)، على أن الحياة الروحية هي حركة نمو مستمرة بين تآزر نعمة الله وعمل الإنسان (Synergie): “من يطلب يجد، ومن يسأل يعطى ومن يقرع يفتح له” (مت7/7). يقول القديس غريغوريوس النيصي: “أن نجد الله هو أن نفتش عنه.. ألا نرتوي من الشوق إليه”. ولا بدّ للإنسان من الاستعداد في تمييزه للعمل المشترك بينه وبين الله، فعليه أن يساهم في تحرره من أهوائه، فيتمرّس على التوبة المستمرة. والتوبة عند الآباء ليست الندامة وحسب، بل التغبير الجذري والمستمر: “فتبدلوا بتجديد عقولكم” (رو12/2)، هذا ما تدل عليه كلمة “ميتانيّا” اليونانية (Metanoïa)، يقول اسحق السرياني:” التوبة تليق دائماً، وتليق بالجميع، بالخاطئ والبار، إنها كمال المسيحي الأساسي.. فلا حدّ للكمال.. من يعرف (من يُميّز) خطاياه أعظم ممن يقيم الموتى”. ويقول يوحنا السلمي: “النفس الغير المحرّكة بالتوبة غريبة عن النعمة”.
يؤكد الآباء أنه بعد أن يتحرّر الإنسان من الأهواء تتميّز فيه حالة من “صحو الذهن” أو “اللاهوى” (Apathia). حيث يستديم لديه “ذِكرُ الله”، فيعيش سلاماً حقيقياً، ويتدرج في مسيرة “التألّه” (Théosis)، بعد أن يكون قد تطهّر من أهوائه، واستنار بالروح القدس، وكأنه في حالة “انجذاب نحو الله” (Extasis). فتصبح حركة التمييز لديه حركة تلقائية، وتظهر شيئاً فشيئاً منبثقة كمشيئة الله. وللوصول إلى هذه الحالة لا يبرح الآباء يؤكدون على الكثير من التمرس في حياة الصلاة والتأمل في الكتاب المقدس والصوم وكل الإيقاعات الروحية، التي تساهم حقاً للنمو في حياة بالله.
القديس اغناطيوس دي لويولا:
لقد ابتكر القديس اغناطيوس منهجاً وأسلوباً جديدين للتمرّس في التمييز الروحي وهو “الرياضات الروحية”. والرياضات هي عبارة عن “تمارين” تأملية وضعت في الأساس لتكتشف لصاحبها عن مشيئة الله في اختيار الحياة الرهبانية أو العكوف عنها. وسرعان ما أصبحت “رياضات” تسعى بشكل مستمر لتمييز مشيئة الله في مختلف التزامات الحياة ومواقفها. والرياضة الروحية هي الخروج إلى البرية على غرار يسوع، الذي اقتاده الروح القدس إليها لينتصر على إبليس، وينطلق إلى حياته العلنية. ويقوم المتريض مدة أربعة أسابيع بتأملات ومشاهدات مأخوذة من سر التدبير الخلاصي، ويحاول أن يأوّنها في حياته لتظهر من خلال هذا التأوين مشيئة الله. ويتناوب لديه الشعور بـ “الانقباض” و “الانبساط” مما يساهم في تجديد قواعد التمييز الروحي ليكون “ممارسة حياة الإيمان المليئة بالرجاء: “إيمان متواضع وصبور، إيمان نشيط وحازم وباسل، إيمان يقظ”. ويساهم “التمييز الاغناطي” في تحديد دعوة الإنسان وتوجيه حياته الشخصية في البحث عن عناصر العمل الإلهي الثابت والحركات والدوافع الباطنية فيستطيع رسم الخط الثابت الذي يسير عليه الحضور الإلهي. وهذا الحضور يتجلى بمفاعيله أو ميزاته: السلام والفرح والانسجام الباطني والشجاعة الباطنية وبعبارة أخرى: ثمار الروح فكل حرية بشرية بحسب التمييز الأغناطي لا يمكن فصلها عن إرادة الله فالاختيار ليس ما أُقرّه أنا أولاً بل هو وعيي، في حرية متزايدة لمشيئة الله الشخصية في شأني. إن التمييز الأغناطي هو دعوة “الانتباه” هذه.
التمييز الروحي… مسيرة مستمرة:
مهما حاولنا أن نضع قواعداً أو مناهجاً يبقى التمييز الروحي نعمة يمنحها الرب من فيض سخائه، ولكن علينا أن نسهر على حياتنا الروحية لكي تجد نعمة الرب هذه فينا الأرض الخصبة. فتتآزر مع جهودنا وتنوّر سهرنا. لذلك سأحاول لأن أرتب الملاحظات لعلها تساهم في جعل حركة التمييز الروحي مسيرة مستمرة في حياتنا لننمو في المسيح:
خاتمة:
لعل أنسب ما نختم به هو قول أحد الآباء يشرح رأي القديس اغناطيوس: “هكذا ثق في الله، كأن النجاح كله يأتي منك ولا شيء من الله، ولكن اعمل حينذاك مجتهداً كأن لا شيء يأتي منك. كل شيء من الله وحده”.