إرشاد رسولي في المسبحة الوردية لمريم العذراء
Rosarium Virginis Mariae
Rosarium Virginis Mariae
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الكنيسة جمعاء
المقدمة
1- المسبحة الوردية التي اتّسعَ انتشارها تدريجياً خلال الألف الثاني هي صلاةٌ أحبَّها كثيرون من القديسين وشجّعت على تلاوتها السلطةُ الكنسية. لأنها تتلاءمُ مع الخطِّ الروحي الذي يسيرُ الدين المسيحي.
إن هذا الدين، الذي لم يفقد شيئاً من نضارة أصوله خلال ألفي عامٍ، يشعر بأنَّ روح الله يدفعه إلى “أن يتقدَّم في العمق” ليقول للعالم من جديد، بأعلى صوته: إنَّ المسيح هو الربّ والمخلّص، وأنه الطريق والحقُّ والحياة، وأنه “غاية التاريخ البشري، والجهة التي تتوجَّه إليها رغبات التاريخ” (1).
إن المسبحة الوردية، وإنْ تميَّزت بطابعها المريمي، هي صلاةٌ تضع المسيح في المحور، وهي بالرغم من عناصرها الموجزة، تجسد عمق الرسالة الإنجيلية، وتكاد تلخِّصها (2). فإن فيها صدىً جديداً لصلاة مريم ونشيدها الدائم “تعظّم نفسيَ الربَّ” الذي أنشدته لحادث التجسُّد الفدائي والذي ابتدأ في أحشائها الطاهرة. فمع المسبحة الوردية يقتدي الشعب المسيحي بمَثلِ مريم، ويدعُ نفسه يُؤخْذُ بمشاهدة جمال وجه المسيح وبالخبرة العميقة لِحُبِّه. كما أنّ المؤمن يحصل بالوردية على نِعَمٍ غزيرة تتدفَّق – نوعاً ما – من يدَيْ أمِّ المخلّص.
2- الأحبار الرومانيون والمسبحة الوردية
أهتمَّ الكثيرون من الباباوات أسلافي اهتماماً كبيراً بهذه الصلاة. ولكنَّ الفضل الأكبر يرجع إلى البابا لاون الثالث عشر الذي أصدر في الأول من أيلول 1883 الرسالة العامة “المهمة الرسولية العظمى” (3). إن بها أقوالاً بليغةً ذكر فيها مجموعةً من المداخلات التي تُخصُّ هذه الصلاة، وقدَّمها للمؤمنين وسيلةً روحيةً فعّالة لكبح جماح شرور المجتمع. ومن أقرب الباباوات إلينا وأشهرهم وأكثرهم اندفاعاً لنشر المسبحة الوردية، في أيام انعقاد المجمع، الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون (4)، وخصوصاً البابا بولس السادس الذي بيَّن بوضوحٍ في الإرشاد الرسولي “التقوى المريمية”، بالاستناد إلى ما أوحاه إليه المجمع الفاتيكاني الثاني، الطابع الإنجيلي للمسبحة الوردية وتوجُّهها نحو عبادة المسيح.
أمَّا أنا فإني لم أُعمل أيَّة مناسبة لأحُثَّ الناس على تلاوة المسبحة الوردية بتواتر. فمنذ أيام شبابي كانت لهذه الصلاة مكانتها الهامّة في حياتي الروحية. إنَّ سفري الأخير إلى بولونيا ذكَّرني ذلك الأمر بقوَّة، ولا سيّما لمَّا زرت معبد كالواريا Kalwaria.
إنَّ المسبحة الوردية قد رافقتني في أوقات أفراحي وأوقات شدائدي. وإني قد أودعتها اهتماماتٍ كثيرة فوجدت فيها دوماً المؤازرة. ومنذ أربعٍ وعشرين سنة، في 29 تشرين الأول 1978، ولم يكد يمضي أسبوعان على انتخابي وجلوسي على كرسيّ بطرس، كشفت عن بعض ما في نفسي وصرَّحت بما يلي: “إن المسبحة الوردية هي صلاتي المفضّلة. إنها صلاةٌ رائعة؛ رائعةٌ ببساطتها وعمقها. ويمكننا أن نقول إنها إلى حد ما صلاةٌ وشرحٌ للفصل الأخير من الدستور “نور الأمم” الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني، إذْ إنَّ هذا الدستور يبحث، بطريقةٍ رائعة، في موضوع حضور أمّ الله في سرِّ المسيح وسرِّ الكنيسة. ففي خلفيّة أبيات “السلام عليك” المتتابعة تمرُّ أمُّ أحداث حياة يسوع. إنَّ هذه الاحداث، التي جُمعت في أسرار الفرح وأسرار الحزن وأسرار المجد، تصلنا اتصالاً حياً بيسوع – وأقول – من خلال قلب مريم أُمِّه. إننا في الوقت نفسه نستطيع أن نجمع في عقود المسبحة الوردية كلّ أحداث حياتنا الفردية أو العائلية، وأحداث حياة بلادنا وحياة الكنيسة والبشريّة، أي أحداثنا الشخصيّة وأحداث الآخرين، ولاسيّما الذين هم أقربُ الناس إلينا، وهم الأحبّاء إلى قلوبنا. وهكذا تنساب المسبحة الوردية البسيطة على وتيرة الحياة البشرية” (5). بهذه الأقوال، أيها الإخوة والأخوات، وضعت على وتيرة التلاوة اليومية للمسبحة الوردية اوَّل سنةٍ من حبريَّتي.
واليوم، في مطلع السنة الخامسة والعشرين من حبريَّتي كخليفة للقديس بطرس، أريد أن أعمل الشيء نفسه. ما أكثر النعَمَ التي نِلتُها من مريم العذراء، بوساطة المسبحة الوردية خلال هذه السنوات! “تعظّم نفسيَ الرب”. أريد أن أعبِّر عن شُكري للربِّ مع كلمات أُمِّه الفائقة القداسة، التي وضعت حبريَّتي تحت حمايتها “إني بكُلِّيتي لك”.
3- تشرين الأول 2002 – تشرين الأول 2003: سنة المسبحة الوردية
ولذلك، فإنّي بعدما عرضت تفكيري في الإرشاد الرسولي “بدء الألفية الجديدة” على أثر اختباري لأحداث اليوبيل، ودعوت شعب الله إلى أن “ينطلق من المسيح انطلاقةً جديدة” (6)، شعرت بضرورة تفكيرٍ أعمق في المسبحة الوردية. إن هذا التفكير العميق هو تتويجٌ مريمي لهذا الإرشاد الرسولي، هدفُه أن أُشجِّع بوساطته على المشاهدة التأمُّلية لوجه يسوع برفقة أُمِّه الفائقة القداسة وبالاقتداء بها. نعم إن تلاوةَ المسبحة الوردية ليست إلاّ مشاهدةً تأمُّليّة لوجه المسيح مع مريم أُمِّه.
إني أريد أن أُعطي لهذه الدعوة أهميّةً أكبر. لذلك، فإني أغتنم ذكرى السنة المئة والعشرين للرسالة العامّة التي أصدرها البابا لاون الثالث عشر، والتي ذكرتُها، وأُضِّحُ رغبتي في أن تُعرض هذه الصلاةُ، طوال السنة، على الجماعات المسيحية المختلفة، وأن يبرز بروزاً خاصاً ما لها من أهميّة. فأنا أُعلن إذاً أن السنة التي تبدأ في تشرين الأول 2002 وتنتهي في تشرين الأول 2003 هي سنة المسبحة الوردية.
إني أوُدعُ هذا التوجيه الراعوي إلى مبادرة الجماعات الكنسية المختلفة. وأنا لا أنوي بذلك أن أُثقِّل على المشاريع الرعوية القائمة في الكنائس المحليَّة، بل أريد أن أوحِّدها وأقويّها. وإني على يقينٍ أن هذا التوجيه سيقبله الجميع باندفاعٍ وسرعة. فإذا ما اكتشفوا من جديدٍ معنى المسبحة الوردية، استطاعت هذه المسبحة أن تقود المؤمنين إلى قلب الحياة المسيحية، وأن تقدِّم لهم مناسبةً روحيةً وتربويةً عاديةً وجليلة الفائدة للمشاهدة التأمُّلية الشخصيّة، ولتثقيف شعب الله، وللبشارة الإنجيلية الجديدة.
وإنه يحلو لي أن أقول ذلك مرّةً أخرى بمناسبة ذكرى حادثٍ آخر مُفرح، وهو ذكرى السنة الأربعين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (11 تشرين الأول 1962). لقد كان هذا المجمع “نعمةً عظيمةً” منحها روح الله للكنيسة في أيامنا (7).
4- اعتراضات على تلاوة المسبحة الوردية
إنَّ ملاءمة تلاوة المسبحة الوردية متأتيّةٌ من عدّة اعتبارات. إن أولها هو الإسراع في مواجهة أزمة تلاوة صلاة المسبحة الوردية. إن هناك خطراً يهدِّد قيمة هذه الصلاة، في الجوِّ التاريخي واللاهوتي الذي نعيشه، ويجعلها لا تُعرض على الأجيال الطالعة إلا نادراً، ذلك لأنَّ الكثيرين يعتقدون أن الأهميّة المركزية لليتورجيا الكنسية، التي أبرزها المجمع الفاتيكاني الثاني، كان من نتائجها الحاسمة أنها أدَّت إلى إضعاف أهميّة المسبحة الوردية. في الحقيقة إن هذه الصلاة – كما أعلن ذلك البابا بولس السادس – لا تتعارض مع الليتورجيا الكنسية، بل بخلاف ذلك، فإنها تقف سنداً لها، لأنها تُهيِّئ المؤمنين لقبولها، وتكون لهم صدىً في نفوسهم، وتدعوهم إلى أن يَحيوا الليتورجيا الكنسية بمساهمةٍ داخليةٍ كاملة، لكي يجنوا منها ثماراً تفيدهم للحياة اليومية.
ويُبدي آخرون مخاوفهم من أن المسبحة تظهر مناقضةً للحركة المسكونية إذْ إنَّ لها طابعاً مريمياً واضحاً. في الحقيقة إن إكرام مريم أمِّ الله له طابعٌ ديني لا يشوبه أيّ انحراف.
لقد أعلن ذلك المجمع الفاتيكاني الثاني عندما حدَّد أن إكرام أمِّ الله موجَّهٌ على المسيح موضوع الإيمان المسيحي بمعنى أن “مختلف صيغ التكريم للعذراء يجعل الابن يُعرف ويُحَبُّ ويُمَجَّد” (8). فإذا ما اكتشف هذا المعنى بطريقةٍ سليمةٍ تكون تلاوة المسبحة سنداً لا عقبةً للحركة المسكونية.
5- طريق المشاهدة التأمُّلية
إن السبب الأكبر لإعادة اكتشاف أهميّة تلاوة المسبحة الوردية هو أن هذه التلاوة تؤلِّف وسيلةً قيِّمةً تُنشِّط عند المؤمنين الالتزام بالمشاهدة التأمُّلية للسرِّ المسيحي. لقد عرضت هذا الالتزام في الإرشاد الرسولي “بدء الألفية الجديدة” كطريقةٍ تربويةٍ صحيحة للقداسة: “لا بدَّ من دينٍ مسيحي يمتاز قبل كلّ شيءٍ بفنِّ الصلاة” (9). ففي الوقت الذي تُعلنُ الثقافة العصرية – في وسط تناقضات كثيرة – مطلباً ملحاً جديداً لروحانية تنجم عن تأثير دياناتٍ أخرى، فقد بات من الضروري، قبل أيّ وقتٍ مضى، أن تكون جماعاتنا المسيحية “مدارس صحيحةً للصلاة” (10).
إن تلاوة المسبحة الوردية تدخل في قلب أنقى وأشهر تقليدٍ للمشاهدة التأمَّلية المسيحية. فإن هذه التلاوة قد انتشرت في الغرب، وأصبحت بنوعٍ خاص صلاةً تأمُّليةً، وقابلتها صلاة القلب أو “صلاة يسوع” التي نمت في أرض الشرق المسيحي.
6- الصلاة لأجل السلام والأسرة
إن هناك مناسباتٍ تاريخيةً قد ساهمت في تجديد طابع المسبحة الوردية تجديداً أفضل. وأولى هذه المناسبات ضرورة الإلحاح على طلب نعمة السلام من الله تعالى. ففي مطلع الألف الثالث الذي بدأ بحوادث جريمة مروِّعة في 11 أيلول 2001، والذي لا يزال يسجِّل كل يومٍ في مناطق متعدّدة من العالم حوادث دمويةً وعنيفة، فإن اكتشاف دور المسبحة الوردية يعني الاستسلام إلى التعمُّق في المشاهدة التأمُّليّة لسرّ الذي “هو سلامنا”، الذي جعل من “الشعبين شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما أي الحقد” (أفسس 2 / 14). فنحن لا يمكننا أن نتلو المسبحة من دون أن نشعر بأننا منجذبون نحو التزامٍ دقيقٍ في سبيل خدمة السلام، ولاسيَّما في أرضِ يسوع المعذّبة، والتي هي حبيبةٌ إلى قلوب المسيحيين.
ومن ناحيةٍ مشابهةٍ، فإنه من الضروري أن نلتزم بالصلاة لأجل وضعٍ آخر قائمٍ في عصرنا، دقيقٍ للغاية، هو وضع الأسرة. فالأسرة التي هي خليَّة المجتمع، تهاجمها قوى هدّامةٌ على الصعيدين الأيديولوجي والعملي. وهذا ما يجعلنا نخشى على مستقبل هذه المؤسَّسة الأولى التي لا يمكن الاستغناء عنها، كما نخشى معها على مستقبل الجماعة البشرية كلّها. ففي الإطار الواسع لرعاية الأسرة، فإن تجديد تلاوة المسبحة الوردية في الأسرة المسيحية يهدف إلى تقديم مؤازرةٍ فعَّالةٍ لصدِّ النتائج الجارفة التي تنتج عن هذه الأزمة الحالية.
7- هذه أُمُّكَ
إن علاماتٍ كثيرةً تبيِّن ما تريد العذراء القديسة أن تحقّقه اليوم من خلال هذه الصلاة. إنها الأمّ الواعية التي سلَّم إليها المخلِّص قبل موته بلحظات، في شخص التلميذ الحبيب، كلَّ أبناء الكنيسة: “يا امرأة هو ذا ابنُكِ” (يوحنا 19 / 26). إن الأحداث التي أظهرت فيها أمّ المسيح حضورها وأسمعت صوتها، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لتَحُثَّ شعب الله على هذا النوع من الصلاة التأمُّليّة هي أحداثٌ معروفة. وبسبب تأثيرها الواضح الذي تحتفظ به في حياة المسيحيين، وبسبب اعتراف الكنيسة بأهميَّتها، فإني أرغب في أن أذكر بنوعٍ خاص ظهورات لورد وفاطمة (11)، اللتين يؤمُّ الكثير من الحجَّاج كُلاً من كنيستَيْهما للبحث عن المؤازرة والرجاء.
8- على خطى الشهود
إنه من المستحيل أن نذكر جميع أسماء المجموعة الكبيرة التي لا يُحصى عددها من القديسين الذين وجدوا في تلاوة المسبحة الوردية طريقاً أميناً لبلوغ القداسة. يكفي أن نذكر منهم القديس لويس ماري غرينيون دي مونفور الذي كتب كتاباً نفيساً في تلاوة المسبحة الوردية (12). ونذكر من هو أقرب منه إلينا، وهو الأب بيُّو من بيترلشينا P. Pio da Pietrelcina الذي ابتهجت بتطوبيه منذ مدّةٍ قريبة. أما الطوباوي برتولو لونغو فقد كانت له موهبةٌ خاصة، وهي موهبة رسول تلاوة المسبحة الوردية. إن طريق القداسة ارتكز عنده على إلهامٍ سمعه في أعماق قلبه: “مَنْ نشرتلاوة المسبحة الوردية فهو مُخلَّص” (13). وانطلاقاً من هذا الحدث شعر بأنه مدعوٌّ إلى أن يبني في مدينة بومباي Pompei معبداً لسيّدة الوردية بقرب آثارات المدينة القديمة التي كانت البشارة الإنجيلية قد دخلتها منذ عهدٍ وجيز قبل أن تُدفن تحت انفجار بركان فيزوف Vsuve في العام 79، والتي عادت إلى الحياة بعد قرونٍ طويلةٍ لتشهد أنوار الحضارة الكلاسيكية وظلالها.
إن بَرتولو لونغو قد أنعش بعمله الخاص، ولاسيّما “بالسبوت الخمسة عشر” روح المحبة للمسيح وفكرة المشاهدة التأمُّليّة بالمسبحة الوردية. وقد لاقى في سبيل ذلك تشجيعاً خاصاً وسنداً لدى البابا لاون الثالث عشر “بابا المسبحة الوردية”.
تابع القراءة بتحميل الملف