القسم
مواضيع تربويّة
مواضيع تربويّة
عن مجلة السالزيان الدورية نقلها للعربية الأب السالزياني بشير سكر
للجميع
كلما ازداد ما يملكه الإنسان كلما تعرّض إلى فقدان ذاته
“ألقيت كأسي بعيداً حينما رأيت طفلاً يشرب من النبع براحة يديه”!… مقولة شهيرة للفيلسوف القديم “ديوجين”.
أعظم كنز يقتنيه الإنسان هو أن يعيش مكتفياً بالقليل وأن يهنأ بذلك، لأن القليل لا ينضب أبداً.
الأشياء تملك قيمة في حدّ ذاتها، لكنها قيمة نسبية للغاية. الأشياء ليست في حدّ ذاتها عوامل نمو؛ اعتقادنا أننا ننضج أكثر إذا امتلكنا أكثر يسمّى “خدعة شهوة الامتلاك”. يكفي أن نفتح أعيننا لنتأكد من أن المنزل لا يصنع الأسرة ومن أن الحقيبة الأجمل لن تهدينا التلميذ الأفضل؛ هناك تلاميذ متألقون بأقل التجهيزات…
جرثومة “شهوة الامتلاك” تتغلغل اليوم أكثر فأكثر في العديد من العقول. الأشياء صارت تضاهي في أهميتها الأشخاص: أمس كنا نقول: “فلذة كبدي” اليوم نقول: “سيارتي”!…
الأشياء صارت مقياس التقييم: من لا يُنتج (كالأطفال والمسنّين…) يُعتبر عديم الفائدة.
الأشياء تهدد هويتنا ذاتها. هناك من يظن أنه يزداد أناقة عندما يقتني مشتريات تحمل “ماركات” عالمية! الأشياء تشكّل العقلية: عقلية “الإنتاج والتصنيع”…
الأشياء تُفرز عدم الرضى. كلما شاهدنا أشياء كلما اعتقدنا أنها ضرورية!… في الأمس كان الاحتياج هو الذي يولّد الأشياء أما اليوم فصارت الأشياء هي التي تولّد ضرورات الإنسان. في الأمس كنا نسعى إلى الماء حين نعطش، اليوم كل تلك المشروبات والمثلجات التي اخترعناها صارت تولّد آلاف الأحاسيس بالعطش والتي إذا لم يتم إرواؤها ينجم عن ذلك بالغ التوتر. الطبيب النفساني “ماسّيمو ريكالكاتي” وصل إلى الاستنتاج ” أن تخمة تكديس الأشياء هي مصدر الكثير من المعاناة”.
الأشياء يمكن أن تنتج أيضاً شخصيات هشّة؛ فحين نسعى إلى امتلاك المزيد من الأشياء، سنصل إلى بذل أقل مجهود: كأن نستخدم السيارة بدلاً من القدمين، الآلة الحاسبة بدلاً من العقل، مفكرة المواعيد بدلاً من الذاكرة… وهكذا إلى أن تقودنا كثرة المقتنيات إلى إدمان الخمول…
هناك ضرر آخر أكثر خطراً يسبّبه التهافت على المقتنيات، فالكثير من المقتنيات يؤدي إلى انعدام الرغبة. ماذا يمكن أن يحلم طفل اليوم بمناسبة عيد ميلاده بعد أن أغرقناه بالألعاب الإلكترونية وأشبعناه من مختلف الأطعمة ولبّينا كل ما يتخيّله من وسائل الترفيه؟!
لا، ليست الأشياء بريئة! فكلما ازداد ما يملكه الإنسان كلما تعرّض إلى فقدان ذاته، وبمعنى آخر تغمرنا الأشياء بالخيرات ولكنها تُفقدنا إنسانيتنا!…
ولكي نحمي أنفسنا من “شهوة الاقتناء” نقترح ما يلي:
دعم العمق الإنساني
نفهم أنه الخطوة الأولى للتغلّب على “شهوة الامتلاك”. فأمام بريق “الأشياء”، من الحكمة دعم “الإنسان”. وهذا يعني في الواقع أمراً واحداً: دعم العقل! أحضِر لي فتى لا تخدعه “شهوة الأشياء” وسترون فيه فتى لا يسحره حتى أدهى البائعين!
هذا إذاً ما يهدف إليه المربي المحترف: تشكيل عقول لا تكتفي بمعرفة سعر الأشياء وإنما قيمتها أيضاً.
تعزيز التقشّف:
إنه الخطوة الثانية لمواجهة “شهوة الاقتناء”:
التقشف يصون الصحة:
سائر أطباء الأورام مثلا ًيقرّون بأن الأورام تُهزَم على المائدة أيضاً. النحافة تعتبر وقاية من مرض السرطان وتضمن صحة جيدة. جميع الأطباء يُضيفون أن الشيخوخة تزحف بشكل أبطأ لدى من يأكل أقل.
التقشّف يرادف الحرية:
ثمة أبحاث مختلفة أفضت إلى النتيجة التالية: الغنى الفاحش يؤدي إلى التوتّر. من يملك الكثير يتلهّف بجشع إلى اقتناء ما ينقصه. إنه يفتقد إلى الحرية، إنه مقيَّد ومكبَّل في دوامة الجشع الخانقة.
التقشف مدرسة تنمّي الشخصية:
علماء النبات يصرّحون بأن شجر السنديان الصلب ينمو في تربة هزيلة. القاعدة تنطبق أيضاً على الإنسان. التقشف ميدان تدريب للإرادة. إنه يدعم العزيمة ويعيد السيادة للذات وليس للأهواء.
( … )
التقشف عدل وتضامن:
ليس من العدل أن تُلقى ثلاث مئة مليون طن من الأغذية في القمامة على المستوى العالمي، بينما يظل نصف البشرية في حالة جوع…
فن التغاضي:
الوقت هو رأسمالنا الرئيسي: لا يمكننا إيقافه ولا تخزينه ولا شراؤه. رغم ذلك فنحن نبذّره لانقيادنا وراء عادات غير مُجدية، عن جهل أو مسايرة، بينما في الواقع قليلة جدا ً هي الأمور المفيدة حقا ً والمطلوب منا أن نفعلها.
لا نُغرق أنفسنا في الإيميل والواتساب والفيسبوك والانستغرام… لا نكدّس على عاتقنا المشاغل. فلنقصّر الحوارات الهاتفية والرسائل التي لا تنتهي. لنضع أهدافا ًقليلة ولتكن دقيقة ومحدّدة.
والأهم هو “تنمية فن التغاضي” (أي التخلّي عن بعض الأمور). فدواعي القلق في حياتنا اليومية متعدّدة: كالمواصلات والبنين العصاة والطوابير أمام خزائن السوبرماركت وغيرها…لا تكدّسوا عليكم الضغوط والانفعالات.