نضوج الشخصية
في ضوء الدين وعلم النفس
في ضوء الدين وعلم النفس
مواضيع تربوية
سالزيان الشرق الأوسط
للجميع
المقدمة:
هل يمكننا تحديد الشخصية بما نسميه ” الإنسان السوي ” أي الانسان بصفاته الطبيعية البشرية؟
جوابنا طبعا لا، فلا نضوج في الشخصية بدون الشخصية المتكاملة: أي الشخصية التي تتجاوب مع القيم. ولا شك أن التسامي والانفتاح نحو الكمال الروحي هما من أولى القيم. فلا يجوز للإنسان أن يبقى كما هو: ” إننا ولدنا للعلا “.
وفي تاريخ الكنيسة لنا مثال ألا وهو القديس أوغسطينوس في انفتاحه على القيم الروحية. وإذا أراد الإنسان التسامي نحو القيم العليا فلابد له من إرادة ثابتة وفعالة، تتحكم فيها العوامل التالية:
(ألم شديد، تجربة مريرة، إدراك واضح لهدف الوجود الإنساني). بيد أنه لا يمكن أن تتحقق الإرادة بكاملها، إلا من خلال مسيرة نفسية للزهد (التقشف).
وبالرجوع إلى وثائق تعاليم الكنيسة، لا يجب اعتبار النضوج النفسي والعاطفي وسيلة نهائية للجهود الشخصية والاجتماعية في مراحل نمو الإنسان وحسب. ولكنها منطلق لنمو روحي يتيح المجال لعيش الحياة المسيحية الكاملة التي يدعو القديس بولس أهل أفسس إليها فقد حثهم ليصيروا الإنسان الكامل: ” ولبلوغ القامة التي توافق سعة المسيح “.
فالنضوج الإنساني بهذا المفهوم هو عبارة عن الوعي الكامل لكل الطاقات الجسدية والنفسية والروحية التي تكوّن جميعها وحدة دينامية متناسقة إضافة إلى الجهد الشخصي، فالإنسان مدعو إلى تخطي نفسه والتسامي في اتحاد بالمسيح.
” إن التربية المسيحية لا تهدف إلى تأمين نضج الشخص البشري فحسب بل تهدف أيضاً إلى جعل المعمّدين الذين أدخلوا تدريجياً في معرفة سر الخلاص، يزدادون كل يوم وعياً بهبة الايمان …ويوجهون حياتهم الشخصية بحسب الإنسان الجديد، في البر والقداسة والحق (1أفسس22:4-24) والبلوغ إلى مستوى الإنسان الكامل، إلى ملء قامة المسيح”.
“وبالتربية المنظمة بحكمة، تنمية للنضج الإنساني اللازم للطلبة، هذا النضج الذي يبرهن عليه الاستقرار النفسي، والقدرة على اتخاذ القرارات المتزنة، والحكم الصائب على الأحداث والناس”.
أولا: متطلبات النضوج الروحي وعلاماته:
1- متطلبات النضوج الروحي:
في العهد القديم والجديد معاً دعوة مستمرة نحو التقدم الروحي (إرميا 2,16:6 , قورنتس 14:4 عبرانيين 10:4,7,3,أفسس 13:4,قولسي 10:1).
فالنضوج أو الكمال المسيحي هو التنمية الكاملة لجميع إمكانات النعمة على جميع مستويات الحياة الروحية. في الإيمان يجد النضوج الروحي المسيحي اتجاهه ومعناه وحافزه. وفي المحبة يتحقق النضوج الروحي (يو21:17, متى 1,4:5,قورنتس13) “فليكونوا أجمعهم واحداً، كما أنك فيّ يا أبت وأنا فيك فليكونوا هم أيضاً فينا، ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني”. فالإيمان والرجاء يهيأن للنضوج، وإن المحبة لن تكتمل في حياة الإنسان إن لم يكتمل فيه الإيمان والرجاء. إن هذه الفضائل الإلهية التي نالها الإنسان هبة في سر المعمودية، عليها أن تنمو لكي تحيي المسيحي وتحقق كماله.
يتكلم القديس بولس عن هذه الفضائل كقوى دينامية تلعب دوراً محدداً في نضوج الحياة الروحية (11 تسالونيكي 1: 3 , 5: 6)، ويقارن بين سلوك المسيحي الطفولي، وسلوك الشاب ويستخدم مراراً المقارنة بين طفل وشاب، ناقص وكامل (1 قورنتس2: 6 , 13: 10 .14 ,20 فلبي3: 15, قولسي1: 28).
وبمفهوم القديس بولس، الطفل هو بدء الحياة المسيحية، خطواته الأولى مبعثرة ولمساته غير واضحة.
أما الشاب أو الكامل فهو ذاك المسيحي الذي نمت فيه بذور الحياة الجديدة التي نالها بالعماد. فترك السلوك الطفولي ليتخذ سلوك الشاب، أي مسؤوليات الإيمان والنعمة (غلاطية 4: 1, قورنتس 13: 11) وهذه مرحلة أساسية في نضوج الشخصية المسيحية.
2- علامات عدم النضوج الروحي (السلوك الطفولي):
ما هي علامات السلوك الطفولي التي يجب على المسيحي أن يتحرر منها. وكيف يمكن التعرف عليها؟ يشير العهد الجديد إلى العلامات فيذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
علامات النضوج الروحي:
إن تجاوز عدم النضج الروحي ليس هو إلا الناحية السلبية لعملية النضوج الروحي. إذ أن النضوج الروحي ليس التخلي عما هو ناقص فحسب، بل أيضاً تنمية الناحية الإيجابية التي تعبّر النعمة عنها. وعلامات النضوج الروحي كثيرة ومنها:
تكامل الشخصية في المسيح:
تتكامل حياة المسيح مع فضائل المسيح (1تسالونيكي22:5) إن نمو الحياة الروحية بكل امكاناتها تؤدي إلى وحدة ديناميكية في الأفكار والعواطف والرغبات والأعمال. فالمسيحي الناضج عليه أن يتحرر من تلك الميول العاطفية التي تجعل من المسيح حاجة نفسية بدلاً من أن يكون المسيح ذاك الشخص الذي نقدم له حياتنا. وعليه أن يتخذ قراراته مهما كانت ظروف حياته. فالمسيحي الناضج “ثابت في الإيمان “(روما20:11) بعيد عن الشر متوجه نحو الله الذي يحميه باستمرار. وتجاه هذا الصراع كان القديس بولس متكاملاً في المسيح حيث يقول “إذا كانت لي حياة بشرية فإنها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وضحى بنفسه من أجلي”(غلاطيه20:2).
التزام في الكنيسة وفي العالم:
أي مقدرة المسيحي على تجاوز حدوده للدخول في علاقة بناءة مع الاخرين. يتم الانفتاح على الاخرين عن طريق المحبة، والالتزام الكنسي والالتزام تجاه العالم. النضج المسيحي ليس نظرياً فحسب بل عملياً أيضاً، أي الحياة العملية اليومية في الكنيسة ومع الكنيسة. ينبغي على المسيحي الناضج أن يحيا التزام القداسة وشركة المحبة، وأن يعرف كيف يتقبل نقائص الكنيسة نفسها، عاملاً بالتزام كي تشبه المسيح مثالها ورئيسها (فلبي1,27:1تسالونيكي7:1,أفسس 13:4). يعبّر المسيحي عن حياته بشهادة أعمال خارجية، ورسالة حياة أخلاقية(يعقوب1,22:1تسا3:1) لا يستطيع أن يسكت على ما أختبره وما سمعه (2قورنتس13:4, أعمال الرسل20:4) وبهذه الطريقة تنمو حياة المؤمن كفرد، وكجزء من الكنيسة.
المتطلبات الانسانية للنضوج الروحي:
إن الشخصية الإنسانية كائن مستقل ومتميز من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤلف وحدة متكاملة. ومن هنا سنبحث في عوامل النضوج ومميزاته.
عوامل النضوج في الإنسان:
لكل شخصية تربية خاصة، تبعاً لظروف حياته. ففكرة “التكامل” تعني الوحدة الوظيفية، أي الانسجام في داخل الشخصية للفرد، الانسجام بين رغائبه وميوله وأفكاره وطموحاته وأهدافه بين الفكر والسلوك. يبدو التكامل على صعيد الفكر والعمل على حد سواء. ويظهر في المقدرة على اتخاذ القرارات بدون تردد مبالغ فيه إزاء الصعوبات.
في سبيل تكامل الشخصية نواجه مراراً صعوبات جمّة وصراعات كثيرة. ولكن لا تعالج الصعوبات عن طريق عدم التكيف أو العصابية، بل نعالجها بالمحافظة على الوحدة الداخلية والانسجام بين الميول المتصارعة.
تتجمع في الشخصية المتكاملة مجموعة السمات الطبيعية البشرية وحاجاتها لتعمل كوحدة واحدة. فالتكامل عملية أساسية للنمو. بيد أن النمو الفيزيولوجي لا يؤدي بالضرورة إلى التكامل، وذلك لكثرة المؤثرات المفككة التي يعاني منها الفرد في تطوره.
وفكرة “النمو” هي فكرة أساسية في علم النفس، وتعني التقدم نحو الهدف. النضوج هو الهدف أي الحقيقة المنشودة من النمو، والشخصية الناجحة هي تلك الشخصية التي تلعب فيها مرحلة النمو دوراً هاماً.
وعليه فإن النضوج يكتسب تدريجياً طوال الحياة، ولكن هذا لا يعني أن ليس للطفل شخصية إنما هناك فرق بين شخصية الطفل وشخصية الراشد.
وقد ذهب بعضهم إلى أن النضوج هو حصيلة نهائية للعوامل النفسية والاجتماعية والفيزيولوجية. غير أن هذا الاستنتاج يحتوي على خطأ كبير إذ أن الإنسان ليس فقط حصيلة لمؤثرات كثيرة داخلية أم خارجية. لكن أيضاً حصيلة ما ينجزه هو نفسه، أي علاوة على الوراثة والمجتمع والبيئة، وهناك مقدرة الإنسان على اختيار قراراته وتحديد معالم سلوكه ومصيره.
هذا إذا كان صحيحاً ما يقال من أن التصرفات والمواقف وطبع الفرد ليست مخيرة يبقى أن عوامل الشخصية قابلة للتأثيرات عن طريق التحكم بالذات وضبطها واختيارات الإنسان.
يجب أن تتكامل القوى العاطفية مع القوى العقلية في الفرد الناضج بحيث يستخدم قواه بصورة عقلانية. يعطي الانسجام بين العقل والعاطفة، الإنسان مجالا للبلوغ إلى أعلى مستويات النضج فيستفيد من ديناميكية العاطفة ويرفعها إلى مستواه فيصل الإنسان إلى وحدة داخلية بحيث يكون في أفضل الظروف لبلوغ هدفه.
على الصعيد الانتولوجي (الوجودي)فإن النضوج العاطفي يمثّل ملء العاطفة الروحية. إذا لم ترفع العاطفة الروحية العاطفة البشرية على مستواها فإن الإنسان ينقاد إلى شهواته وينقسم داخلياً. ومن هنا نستنتج بأن النضوج العاطفي يتماشى مع التكامل الأخلاقي ومع نضوج الإنسان كما هو.
كما نلاحظ أيضاً بأن عدم التكامل الاخلاقي يؤدي إلى التفكك المستمر والصراع الدائم بين النفس والجسد وبين وظائفهما.
وقد أثبتت تجارب علم النفس الديناميكي والعلاجي هذه النتيجة أي أن كل توقف عن النمو يؤدي إلى النكوص في تصرفات الفرد، فتصبح غير ناجحة أي أقل انسانية.
أما الشخصية الناضجة فتؤدي إلى نضوج في جميع النواحي ولا سيما في النطاق العاطفي. إن العاطفة عنصر أساسي في بناء الشخصية، إذ أنها جزء من العمليات التي تساهم أكبر مساهمة في تكامل الشخصية. وبما أن العاطفة هي بعد أساسي فيمكن أن نعتبر النضوج العاطفي شرطاً لا بد منه لنشاط الشخصية. والبعد الجنسي له أهمية في العاطفة بحيث لا يمكن نفي العلاقة الوثيقة التي تربط بين العاطفة والجنس، ولا عن علاقاتهما في تكامل الشخصية.
العالم “ليتlutte)) يذكر في كتابه بأن الجنس هو عنصر أساسي في عملية النضوج. وبناء على دراسة “كالياري”(CALLIERI) يجب اعتبار الحياة الجنسية أكثر الأدلة حساسية للميول الأساسية في الفرد. ويعتبر الفرد ناجحاً جنسياً إذا تمكن من السيطرة على نوعين من عدم النضوج:
فهذه هي المرحلة الأولى للنمو الجنسي، أما المرحلة الثانية فتشترط على الحب أن يصبح عطاء وليس بحثاً عن الذات. فالشخصية الناضجة لا تكمن في تقبّل القيمة الجنسية كقيمة مكمّلة للقيم الأخرى، فحسب إنما تكمن أيضاً في النضج العاطفي، وبالتالي المقدرة على الزهد الفيزيولوجي كوسيلة لكمال الشخصية في اتجاه الآخر.