مقدمة:
النضوج ليس مرتبط بعمر أو مرتبط بسن معين، وإنما هو حالة تحقيق الإنسان لذاته ودعوته الإنسانية، وبما أننا مدعوين إلى حياة روحية فنحن أيضاً مدعوون إلى إنضاج هذه الحياة الروحية فينا، ولكن لا يمكن الوصول إلى النضوج الروحي دون تحقيق النضوج الإنساني أولاً. بمعنى أن حالة النضوج التي سنتكلم عنها هي مرتبطة بإنسانيتنا وبالسمو في هذه الإنسانية إلى مرتبة أعلى من النضوج الروحي والاتحاد بالله تعالى. لذا سندرس الموضوع حسب منهجية معينة وخطوات تقودنا الواحد إلى الأخرى.
النضوج الإنساني هدف متوسط يسعى الإنسان إلى تحقيقه، ويحاول أن يسلك الطريق المؤدية إليه، لينعم بوجوده ويفهم قيمة الإنسانية.
- تعريفه:
النضوج الإنساني هو حالة بلوغ الإنسان لملئه، وتحقيقه ذاته لإنجاح مشروع حياته ولفتح آفاقه على العالم حوله. وهكذا يصل الإنسان ليصبح سيد نفسه وفكره وعمله وبيئته بدون تجاهل لحدوده، فمعرفة الإنسان لذاته هي ذروة العلم وعظمة العباقرة.
الإنسان عالم بحد ذاته، فقد صدق الشاعر العربي حين قال:
“وتحسب إنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”
الإنسان كائن واحد موحد، يختزل الكون بسبب عقلانيته “عاق” والفكرة القديمة تقسيم الإنسان إلى جسد وروح “أو نفس” والتعامل معه بثنائية قد زالت، بل يتعامل اليوم الإنسان كوحدة متكاملة مستقلة أو في اتصال مع الآخرين، بمعرفة الإنسان بحد ذاته ضرورة قصوى لمعرفة دوافعه وحاجاته وأبعاده الفكرية والجسدية والروحية هي من الأهمية بمكان لتساعدنا على دراسة الإنسان، وهنا تعرض نظرية العالم مازلو (MASLAW) الذي رتّب حاجات الإنسان الواجب إشباعها لبلوغ رفيع من الإنسانية:
|
الحاجة الجمالية |
|
|
الحاجة إلى تحقيق الذات |
|
|
الحاجة إلى المكانة والتقدير واحترام الذات |
|
|
الحاجة إلى الحب والانتماء والتفاعل |
|
|
الحـــــــــــاجة إلى الأمـــــــن |
|
الحــــــــــــاجة الفسيولـــــــوجية |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
يرى مازلو أن هناك ست فئات تقع فيها حاجات الإنسان الأساسية أو دوافعه في تدرج هرمي وهي:
- الحاجة الفسيولوجية وهي دوافع بيولوجية، يؤدي إشباعها إلى إيجاد حالة توازن في الفرد.
- إذا ما أشبعت الحاجات الفسيولوجية نسبياً فإنها تهيئ لظهور حاجات الحماية والوقاية وتحتل الدوافع المتعلقة بالألم والقلق المصاحب له.
- إذا ما أشبعت حاجات الحماية فهي تضعف وبذلك تهيئ لظهور حاجات الانتماء والحب والصداقة والرغبة في إنجاب البنين والتقبل في الجماعة.
- تلد هذه الحاجات في الدرجة حاجة التقدير، أن الفرد في حاجة إلى تقدير نفسه وتقدير الآخرين، إذ قد يسعى إلى الصيت والشهرة وما إلى ذلك.
- وفي قمة الهرم توجد الحاجة إلى تحقيق الذات، وهي بالتالي لا تظهر إلا إذا أشبعت الحاجات الأخرى.
- ويضيف مازلو إلى هذه الحاجات الرغبة إلى المعرفة والفهم والحاجات الجمالية.
- يتبقى أن نضيف أن الحاجة العليا في سلم الحاجات هي الحاجة إلى الطلق المزروعة في قلب الإنسان.
الترتيب الهرمي والنقاط الستة تحته مأخوذة من كتاب التربية وأبعادها الإنسانية للأب لويس حزبون صفحة (201)
- العوامل المؤثرة في تكوين الإنسان:
بما أن الإنسان عالم بحد ذاته، فهو يخضع لعوامل مؤثرة كثيرة في تركيبه وفي تكوينه ويقسم علماء النفس هذه العوامل إلى قسمين: عوامل وراثية وعوامل مكتسبة.
- العوامل الوراثية: هي كل ما يولد مع الإنسان بحكم الوراثة وهي كثيرة ومتنوعة، منها عوامل وراثية في الكروموسومات تدخل في تركيب جسم الإنسان وحتى في تكوين نفسيته وعقليته وجسمه. ويدرس علم الكروموسومات هذه الظواهر وتبدو اكتشافاته هائلة ومفيدة في هذا المجال، كما أن للبيئة الجغرافية تأثيراً في تكوين الإنسان، فابن الجبل غير ابن السهل وابن البلاد الحارة غير ابن المناطق الباردة. كما أن الإنسان يظهر وكأنه ابن للتاريخ والحضارة فهو يتوارث تاريخاً وحضارة معينة بفضل البيئة وحتى الدم الذي يسير في عروقه وفي كثير من الأحيان من الصعب أو حتى من المستحيل تغير هذه العوامل الموروثة.
- العوامل المكتسبة: تمثل العوامل المكتسبة في التربية التي يتلقاها الإنسان من صغره، ويتربى وينشأ عليها. لكن هناك مرحلة وعي الإنسان لذاته حيث يقول “ربيت وأربي نفسي الآن”. فالتربية عملية مستمرة استمرار الحياة ذاتها. فالحياة هي المعلّم الأفضل وهناك شعار تربوي يقول: “إن أردت أن تعلم جون الحساب، لا يكفي أن تعرف الحساب بل ينبغي أن تعرف جون وأن تعرف أي موضوع في الحساب مطلوب أن تعلمه لجون” وهكذا فعل تربية الذات.
الأدب والأخلاق من العوامل المكتسبة أيضاً كما هي التربية على الفضيلة وصون اللسان والاحترام، وهناك آداب عامة تعارف عليها الناس وجب اكتسابها ومعرفتها والتحلي بها.
- الطريق إلى النضوج الإنساني:
تمر الطريق إلى النضوج بمراحل نفسية هي:
- التقييم: بعد مرحلة الوعي، وعي الإنسان لذاته، يجب أن يعرضها لتقييم دقيق سلباً كان أم إيجاباً، فيفهم إمكانياته ويفهم أيضاً حدوده، وإذا كان غير قادر على تقييم ذاته بنزاهة عليه الاستعانة بآخرين ليكتشف مواقع القوة والضعف والخلل إذا كان موجوداً كما ليحدد قدراته الذكائية والنفسية والإبداعية بدون تبجج بل بموضوعية متفهماً لحدود طاقاته الجسدية والعقلية والنفسية وعندما يبلغ الإنسان إلى معرفة ذاته فقد بلغ العلم والمعرفة.
- القبول والتحقيق: بعدما يرى الإنسان ذاته واضحة أمامه عليه أن يبدأ بقبول ذاته كما هي لا أن يثور ويتمرد. قبول الذات لا يعني الإستكانة والهرب بل التسليم بموضوعية المعطيات الواضحة. وأول خطوة تتلوها هي التحقيق، أي تحقيق الإنسان لذاته داخل هذا الإطار الذي وجد فيه، وأهم خطوات التحقيق هي تحقيق التوازن النفسي وذلك يبدأ بالتخلص من العقد الكافية في العقل الباطني أو اللاوعي. فالاتزان النفسي على درجة مهمة من تحقيق النضوج الإنساني يتبعه الإنسان للاستفادة من الوقت، فالخطر الأكبر على الاتزان هو إضاعة الوقت والاختلاف في الترتيب الداخلي والخارجي للإنسان.
- الانفتاح: مع كون كل إنسان عالم بحد ذاته إلا أنه يشترك مع الآخرين في هذا العالم الكبير فإن انغلاقه على عالمه يعني الأنانية والكبرياء ووضع الأنا الشخصي في موضع الأهمية القصوى وهذا خطأ. فالانفتاح يعني قبول الآخرين الذي نعيش ونتفاعل معهم. كما يعني قبول البيئة والتأقلم معها. وانفتاحنا أيضاً على العالم الخارجي وحتى الكون الذي نحن جزء منه تقول اليزابيث ليزر “حيث زرعت عليك أن تزهر، كي تتجاوب مع المخطط الإلهي وتبعث الفرح من حولك”.
- الإبداع: الإبداع هو قمة النضوج الإنساني، ونعني بالإبداع هو وصل العمل الذي تقوم به إلى كماله وتميزه. فنحن لم نخلق نسخ كربونية إنما أشخاصاً مميزين. وهذا يعني أن لكل واحد منا دعوة خاصة يجب أن تبلغ كمالها، وحتى نصل إلى الإبداع يجب الإيمان بمبدأ التخصيصية بمعنى أن الجهد الإنساني الذي نقوم به يجب أن يتخصص في مجال واحد نركز اهتمامنا عليه لنوصله إلى ملئه، فالإبداع كما عرفه أحدهم “هو صغير الإنسان واختراقه لجدار الأبدية”، أو “حتى اختراق حاجز الزمن والنواميس الطبيعة”. يجب التنبه إلى دور الإرادة في دفع الإنسان إلى مرحلة الإبداع، فالإبداع يكمن في الإرادة القوية على إنجاز عمل قبل أن يخرج إلى حيز التنفيذ.
خلاصة الجزء الأول:
نلخص نظرتنا إلى النضوج الإنساني باعتباره هدف متوسط نسعى لتحقيقه في ذواتنا، فكما أننا لن نبلغه إلا في السماء، ولكن هذا لا يعفينا من مسؤوليتنا في القيام بالجهد المطلوب، فالمسؤولية والحرية هما دعمتا النضوج الإنساني، كما أن اتزان أحكامنا في نقدنا لذواتنا وتقييمنا للعمل أو للآخرين هو إشارة واضحة لبلوغنا النضوج الإنساني أو اختلالنا، فالميزان هو الذي يضبط عملية الاتزان، ومن ثم يدل على النضوج الإنساني فينا.
بعد أن عالجنا النضوج الإنساني بجوانبه المتعددة، سنعالج النضوج الروحي ولكن بشيء من الاختصار، فمراحله تشبه إلى حد بعيد مراحل النضوج الإنساني، وتتلخص بتقييم الحياة والقبول بها والانفتاح الروحي ثم التحرر الروحي والإبداع والقداسة.
- تعريفه: النضوج المسيحي هو بلوغ المسيح فينا على حد تعبير القديس بولس، أي عندما “يصير الله كل شيء في كل شيء” فدعوة المسيح “كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل”. هي إطار ودعوة إلى الكمال الروحي والمسيحي.
- القبول والتقييم: وجب القبول بالدعوة التي إليها دعينا، فهي دعوة سامية بدأت بالعماد واكتملت بالتكريس ومن ثم فهم سموها ومكانتها وعيشها حسب هذه الدعوة. هذا يتطلب ترتيب لسلم أولوياتنا حسب دعوتنا، فالله هو المخدوم الأول والإنسان طريقنا إلى الله. وإذا كانت هذه الدعوة إلى الحياة المسيحية فتحقيق وتقييم هذه الدعوة يتم على مقياس الإنجيل ذاته. والتقييم يعني أيضاً رؤية واضحة في أي مرحلة روحية فنقف بصدق وبدون مؤاربة ثم السعي إلى التخطي إلى الأمام.
- التحرر الروحي والانفتاح: “تعرفون الحق والحق يحرركم”، فالغاية من النضوج الروحي التوصل إلى حرية أبناء الله، هي حرية مسؤولة أمام الله، في الدرجة الأولى هي حرية القلب من الخطيئة، ونقاوة الضمير، كما أنها حرية من كل ما يكبل الإرادة وحتى الظلم البشري، هنا ندخل إلى جوهر لاهوت التحرير الذي ازدهر في أمريكيا الجنوبية. أما الانفتاح الروحي فهو الإدراك أننا أبناء عائلة بشرية واحدة وأننا نقف كجماعة أمام الله، فسمّانا هي أن نصنع سماء الآخرين أو أن نسير معهم ضمن كنيسة واحدة جامعة والانفتاح يعني عدم التقوقع على الذات بل محاولة قراءة علامات الأزمنة.
- الابداع الروحي أي القداسة: “كونوا قديسين كما أن أباكم السماوي قدوس”. فالقداسة غاية كل حياة مسيحية وتحقيق الإبداع الروحي يعني تحقيقي القداسة فالقديس هو المبدع في روحانيته. والقداسة لا تعني الشهرة بل إتقان العمل الذي نقوم به بأدق التفاصيل. فحسب قول الفيلسوف الفرنسي مارتيان “يكمن كمال الإنسان في المحبة”.
- العوامل المساعدة في النضوج الإنساني والروحي:
- الحياة المرتبة التي نحياها وفقاً لبرنامج يومي للوقت، غنى الحياة اليومية.
- الحياة الجماعية والتي تعطينا بعداً لخبرة إنسانية عميقة.
- الحياة الروحية، القداس والأسرار وخاصة الاعتراف منها.
- الحياة العملية علاقاتنا واتصالنا مع الناس من خلال عملنا.
- الإمكانيات المتوفرة كانت ثقافية أم إنسانية لتهذيب إنسانيتنا.
- أخطار تعريض نضوجنا الروحي والإنساني (مَثَل الزارع).
- عقلية القصور (القاصر) التي يفرضها المجتمع على المرأة ومن ثم على المسيحي.
- عقد الانغلاق الجماعية، جماعة واحدة من جنس واحد وفكر واحد.
- عدم نضوج الرجولة والأمومة الروحية فينا، وعدم معالجتنا لحياتنا الجسدية بشكل مريح.
- نموذجية المسيحي في مجتمعنا، وقعد الانفرادية والأقلية.
- المسلمات والبديهيات التي لم نخضعها للناقش والنقد.
- التشتت الحاصل في حياة المسيحي من جراء المغريات المادية وضغط الحياة وما إلى ذلك.
خلاصة عامة:
لا يمكن للإنسان أن يحقق غيره قبل أن يحقق ذاته، “فاقد الشيء لا يعطيه” وعليه كان للموضوع أهمية قصوى من حيث أن النضوج الإنساني والذي يقودنا إلى النضوج الروحي هو وسيلة وهدف نحاول أن نبلغه في ذاتنا أولاً لتحقيق ذوات الآخرين الموكولين إلينا وخصوصاً في مجال التربية.
فالتربية هي انعكاس لذاتنا، “ما يزرعه الإنسان يحصده” هي مثل دارج يعبر عن حكمة عميقة، دورنا هو بناء شخصيات الآخرين فلنبدأ بأنفسنا أولاً.