القسم
مواضيع تربوية
مواضيع تربوية
الأب رامي الياس اليسوعي
الوالدين – المربين
العلاقة بين الآباء والأبناء تعيش صراعا منذ الأزل ولا يمكننا، على ما أعتقد، أن نلغي هذا الصراع. فهذا الصراع يعود، في الحقيقة، الى كونهم من أجيال مختلفة وبالتالي المفاهيم تختلف، القيم في بعض الأحيان. دون شك العنصر أو الفكرة الحساسة في هذه العلاقة هو مفهوم الحرية. فالآباء يحدون من حرية أبنائهم اقتناعا منهم على أنهم يعملون من أجل مصلحة أبنائهم والأبناء يتلقون هذا الأمر على أنه حد لحريتهم لايقبلون به فهم بالغون أو على الأقل راشدون ولايتقبلون فكرة من يقرر عنهم. فهل هناك من امكانية للتوفيق بين الطرفين? أو هل هناك من امكانية بتجيير هذا الصراع نحو الأفضل? هذا ما سنتحدث عنه.
لكي نخوض في الموضوع كما يجب علينا أن نتساءل ما هي الحرية. هل الحرية هي أن أعمل ما أريد؟ هل الحرية تعني المزاجية؟ حتما لا! في الحقيقة الحرية تعني قبل كل شيء أن يستطيع الانسان أن يحقق ذاته، أن يعيش حقيقته الداخلية والعميقة، الحرية تعني أن يكون الانسان حقيقيا، وأخيرا وليس آخرا الحرية تعني أ ن يكون الانسان حرا من كل ما يمنعه أن يكون ذاته. فالانسان الحر هو انسان حر من كل شيء حتى من ذاته. فالعبودية الكبرى والأساسية هي في الحقيقة العبودية للذات. كل ما يفرض ذاته على من متطلبات من ملذات ورغبات هي في النهاية آتية من الأنا. هذا المفهوم للحرية يعني أنه لعيش حريتي عليّ أن لا أمنع الآخر من تحقيق ذاته، عليّ باحترامه وافساح المجال أمامه ليمارس بدوره حريته.
ولكن عمليا كيف يمكن ممارسة هذا الأمر بين الأبناء والأولاد؟ لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نتسائل عن دور كل منهم. فالأهل من هم وما هو دورهم؟ في الحقيقة الأهل هم الوسيلة التي من خلالها تنتقل الحياة من جيل الى آخر، هم الوسيلة التي تؤمن استمرارية الحياة وهذا الأمر مهم جدا وليس بأمر بسيط أبدا. فغالبا ماننظر الى الوسيلة على أنها لاشيء بينما لها دور فعال، مهم للغاية. فعندما ننقل أي شيء كان من خلال وسيلة ما هناك تفاعل لايمكننا الاستخفاف به بين الناقل والمنقول. وعلينا أن لاننسى بأن الحياة عطية، موهبة مجانية، علينا ألا ننسى بأن لا أحد يستطيع أن يمتلك الحياة، فالحياة تتجاوزنا ومن بعيد، ولهذا السبب أقول بأن لايحق لاأحد أن يملك أحدا ولا يستطيع أحد أن يملك أحد. فالأولاد هم إذن عطية نستقبلها في حياتنا ولاأحد يستطيع أن يحدد امكانية الانجاب لديه أو عدمها.
في الواقع كل المشكلة تكمن هنا. فإذا كان لدى الأهل نزعة لامتلاك اهلهم، فهذا يعود في النهاية لكونهم لم يعقبلوا أو يعيشوا مجانية الحياة. هذا يظهر بشكل واضح من خلال كيفية إنجاب الأولاد. فمن النادر مايخطط الأهل لمجيء الطفل وإن قاموا بذلك، فإنهم يقوموا يه من الناحية المادية وغالبا ما يأتي الطفل؛ غلطة. والأهم هو أن الطفل لايأتي من أجل ذاته بل من أجل أهله: ليخلدهم، ليؤمن استمرارية النسل والعائلة، لكي يؤكد الأهل للآخرين من خلاله قدرتهم على الانجاب. لهذا السبب يعيش الأهل عدم الانجاب على أنه كارثة أؤ غياب الذكر كذلك أيضا.
بينما الطفل هو مشروع قائم بحد ذاته، وعلى الأهل إنجاب الأولاد لأجل انفسهم (لأجل الأولاد) وليس من أجل الأهل. على الأهل أن يربوا أولادهم من أجل ذواتهم. بينما مايجري في الواقع هو العكس. غالبا مايسعى الأهل لتحقيق، ما لم يستطيعوا تحقيقه في حياتهم، من خلال أولادهم.
وإذا كانت العلاقة بين الأهل والأبناء مبنية على الحب، فالحب الحقيقي لا يعرف الملكية. “أولادكم ليسوا لكم أولادكم أولاد الحياة” يقول لنا الكاتب المعروف جبران خليل جبران. فلبناء علاقة جيدة بين الطرفين، لكي تكون الحرية محترمة من قبل كلا الطرفين علينا أن نضع نصب أعيننا ما يلي:
لذلك أقول الأمر نفسه للأبناء. فعلى الابناء أن يحترموا حرية أهلهم ومكانتهم، كما أن عليهم أن يستفيدوا من خبراتهم الواسعة. فبمجرد أو رفض الأولاد هذه الخبرات والآراء فهم بعيدين عن احترام حرية أهلهم. فممارسة الحرية بين الطرفين من خلال الحوار والاصغاء يسمح للولد أن ينموا على عملية التمييز. لذلك لابد للأهل من القبول في بعض الأحيان بضياع الابن، أو على الأقل بخيرات الولد لكي يستطيع فيما بعد أن يميز. لدينا مثلا رائعا بهذا الاتجاه ألا وهو مثل؛ الابن الضال.
فاحترام الحرية يكون قبل كل شيء بالاصغاء لهم، لما يعيشونه وخاصة خلق جو من الثقة بدلا من القمع أو أو على الأقل بدلا من النهي المستمر. فامكانية التعبير عن الذات، عن مايعيشه الانسان من ايجابي وسلبي هي الامكانية الأفضل للنمو النفسي والانساني والعاطفي. والاصغاء للولد بحب واحترام وخاصة بثقة يساعده على أن يحكم على مايعيش والتمييز بين ما هو جيد وسيء. فاذا كانت خبرته مرفوضة مسبقا فهذا يلغي كل امكانية التمييز والحكم وبالتالي امكانية النمو. لاخوف من الخبرات التي يقوم بها الأولاد إذا كان باب الحوار والثقة مفتوح أمامهم، وما من أخطر من اقفال هذا الباب في وجههم. ولكن لكي يكون الاصفاء جيد، لكي يتم خلق جو الحرية والثقة لابد للأهل من أن يصغوا الى أولادهم انطلاقا منهم ولي انطلاقا من ذواتهم أي الأهل. فتفكير الأولاد الزما مختلف بما أن الأجيال مختلفة والخبرات أيضا. وأنا أقول نفس الأمر للأولاد أيضا. عليهم أن لاينسوا بأن أهلهم يملكون خبرة أو خبرات كبيرة لايدركونها وعليهم الاستفادة من خبرات أهلهم دون اطلاق احكام مسبقة؛ هم دقة قديمة …جيلهم غير جيلنا….
قبول خبرات الأولاد هذا يعني القبول بالتجربة، أي بالضياع. ماذا أعني بالضياع؟ أعني القبول بأن الولد قد بخطىء وهذا أمر طبيعي، أن يغامر، أن يعيش مغامرته لكي يمكنه فيما بعد التمييز واكتشاف الخطأ. لدينا مثلا من الانجيل يوضح لنا هذا الأمر بشكل جيد: مثل الابن الضال. فالأب لم يفتح فاه أمام طلب الابن بالحصول على حصته من المال. اعطاه اياها وتركه يغامر. لم يكن بامكان الابن اكتشاف النعيم والحب الذي كان يعيشهم بالقرب من ابيه إلا عندما ابتعد عنه محاولا العيش على اهوائه والقيام بخبراته. فالأب في هذا المثل قبل ضياع ابنه، لابل قبل أن يحتك ابنه بالموت (كاد أن يموت جوعا يقول لنا النص) وفي النهاية اكتشف بأن الحياة والحب الحقيقيين هم لدى ابيه ثم عاد اليه معترفا بخطأة. بينما الابن الأكبر الذي لم يترك اباه لم يكتشف خطأه واستمر به.
الانسان الحقيقي هو الانسان الذي اختبر الحياة واختبرته الحياة بدورها أيضا. طالما لم يختبر الانسان الحياة، طالما لم ي دعك الانسان ويعارك الحياة فهو ليس بإنسان. ولكن للأسف الشديد في أيامنا هذه يسعى الأهل بشتى الوسائل لكي يبعدوا عن أولادهم الهموم والمشعور بالمسؤولية. هذه أفضل طريقة لكي يبقى الولد طفلا متكلا رافضا للاستقلالية.
هل هذا يعني أن على الأهل أن لايقولوا شيئا لأولادهم ويتركونهم لمزاجيهم؟ بالطبع لا. فأنا لم أقل هذا ولا يمكنني أن أقول هكذا. على الأهل أن يفيدوا أولادهم بخبراتهم وعلى الأولاد أن يحترموا ويستفيدوا من خبرات أهلهم ولكن على هذا الأمر أن يتم بحرية. وهذا هو دور الحوار بين الطرفين. فالحرية لاتعني المزاجية وعدم المزاجية لايعني القمح في نفس الوقت. هذا هو التوازن الذي على الأهل والأولاد معا أن يجدونه.
في النهاية أقول بأن الحياة تيقى عطية وبمقدار ماأعيشا بالفعل على أنها عطية بمقدار ما أسيطيع أن علاقة غير تملكية مع الآخر بشكل عام ومع الأولاد بشكل خاص. لأنه عندما استقبل الحياة كذلك فأنا أكون حرا لا أخاف على شيء. وبمقدار ماأعيش على أنني المصدر بمقدار ماأكون في موقف دفاعي، قلق، لايسمح لي بقبول زختلاف الآرين عني وأولادي بشكل خاص. فأنا أسعى آنذاك لكي أحقق – ما لا أستطع تحقيقه في حياتي – من خلال أولادي. وتكون علاقتي امتلاكية مملؤة بالصراعات بيني وبين أولادي.
هل هذا يعني أنه بهذه الطريقة من الممكن الغاء الصراعات بشكل عام، صراع الأجيال بشكل خاص ? حتما لا. لا يمكن الغاء الصراعات، وليس المطلوب الغاؤها فالصراعات تشكل دينامية الحياة وفي كل المجالات. المطلوب هو القبول بها والتعامل معها من خلال الحوار المستمر من اجل سعي أفضل نحو الحقيقة. فالحقيقة لا أحد يملكها ولا توجد في مكان ما، إنما الحقيقة نصنعها من خلال سعينا وبحثنا عهنا من خلال هذا الحوار الذي نوهنا عنه.