1. “لقد أحَبَّنا“، قال القدّيس بولس مشيرًا إلى المسيح (رومة 8، 37)، ولا شيء ”يستطيع أن يفصلنا عن محبّته“ (راجع رومة 8، 39). وأكّد بولس ذلك، لأنّ المسيح نفسه أكَّد لتلاميذه: “أنا أحبَبْتُكم” (يوحنّا 15، 9. 12). وقال لهم أيضًا: “قَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي” (يوحنّا 15، 15). إنّ قلبه المنفتح يسبقنا وينتظرنا دون قيد أو شرط، دون أن يطلب منَّا أيّ شيء لكي يحِبَّنا ويقدِّم لنا صداقته: هو أحبَّنا أوّلًا (راجع 1 يوحنّا 4، 10). وبيسوع “عَرَفْنا المحبَّةَ الَّتي يُظهِرُها اللهُ بَينَنا وآمنَّا” بهذه المحبّة (1 يوحنّا 4، 16).
الفصل الأوّل
أهمّيّة القلب
- نستخدم عادة رمز القلب للتّعبير عن محبّة يسوع لنا. وقد يتساءل البعض هل هذا الكلام ما زال له معنى؟ مع أنّ السّطحيّة التي نعيش فيها، وعندما نعيش ولا نعرف لماذا نعيش في النّهاية، فنصير مستهلكين لا نشبع، وعبيدًا لسوق لا تهتمّ بمعنى وجودنا، كلّ ذلك يفرض علينا أن نستعيد أهمّيّة القلب. [1]
ماذا نعني عندما نقول ”القلب“؟
- في اللغة اليونانيّة الكلاسيكيّة غير الدّينيّة، لفظة ”كارديّا“ (kardía) تشير إلى أعمق جزء في الكائنات البشريّة، وفي الحيوانات والنّباتات. في هوميروس لا تشير فقط إلى المركز الجسديّ، بل أيضًا إلى النّفس والمركز الرّوحيّ للإنسان. وفي ”الإلياذة“، الفكر والعاطفة ينبعان من القلب، وهما قريبان جدًّا أحدهما من الآخر. [2]يظهر القلب كمركز للرّغبة والمكان الذي تتكوَّن فيه قرارات الشّخص المهمّة. [3]عند أفلاطون، يأخذ القلب على نحو ما وظيفة ”توليفيّة“ فيجمع بين العقل وما هو ميل في كلّ إنسان، بما أنّ أوامر القوى العليا والعواطف تنتقل من خلال الأوردة التي تتلاقى في القلب. [4] وهكذا أدركنا منذ القدم أهميّة النّظر إلى الإنسان ليس كمجموعة طاقات مختلفة، إنّما هو عالم روحيّ وجسديّ وهو مركز موحِّد يعطي لكلّ ما يختبره الإنسان معنًى وهدفًا.
- يقول الكتاب المقدّس إنَّ “كَلامَ اللهِ حَيٌّ ناجِع […] وبِوُسْعِه أَن يَحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه” (العبرانيّين 4، 12). وبهذا فهو يحدّثنا عن نواة، أي القلب، الذي يكون خلف كلّ المظاهر، حتّى خلف الأفكار السّطحيّة التي تسبِّب لنا الاضطراب. كان تلميذا عمواس، أثناء رحلتهما الرّوحيّة مع المسيح القائم من بين الأموات، يعيشان زمن ألم وارتباك ويأس وخيبة أمل. لكن، الأمر الأهمُّ هو أنّه حدث شيء ما في أعماقهما: “أَما كانَ قلبُنا مُتَّقِدًا في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟” (لوقا 24، 32).
- وفي الوقت نفسه، القلب هو مكان الصّدق، حيث لا يمكن الخداع ولا التّمويه. فيه النّوايا الحقيقيّة، وما نعتقده ونؤمن به ونريده حقًّا، و”الأسرار“ التي لا نقولها لأحد، باختصار فيه الحقيقة المجرّدة. هو ما ليس مظهرًا أو كذبًا، بل ما هو أصيل وحقيقيّ، وما نملكه بصورة كليّة. ولهذا السّبب سألت دليلة شمشون الذي لم يخبرها بسرّ قوّته: “كَيفَ تَقولُ: إنِّي أُحِبُّكِ، وقَلبُكَ لَيسَ معي”؟ (القضاة 16، 15). ولمّا كشف لها سِرَّه الخفِيّ “رَأَت دَليلَةُ أَنَّه قد أَطلَعَها على كُلِّ ما في قَلبِه” (القضاة 16، 18).
- هذه حقيقة كلّ شخص وغالبًا ما تكون مخفيّة تحت تراكمات كثيرة تغطّيها، وهذا يجعل من الصّعب الوصول إلى اليقين أنّك تعرف نفسك، ومن الأصعب أن تعرف شخصًا آخر: “القَلبُ أَخدَعُ كُلِّ شيَء، وأَخبَثُه فمَن يَعرِفه؟” (إرميا 17، 9). وهكذا نفهم لماذا يحُثُّنا سفر الأمثال: “صُنْ قَلبَكَ أكثَرَ من كُلِّ ما تَحفَظ، فإِنَّ مِنه تنبَثِقُ الحَياة. إِنْفِ عنكَ خِداعَ الفَم” (4، 23– 24). فالتّظاهر والرّياء والخداع أمور تسيء إلى القلب وتفسده. بالرّغم من كلّ المحاولات للتّظاهر أو التّعبير عن شيء ليس فينا، كلّ شيء يُقرَّر في القلب: هناك ليس المهمّ ما يظهر في الخارج أو ما يَخفَى، بل حقيقة ما نحن عليه. وهذا هو أساس كل خِطّة متينة لحياتنا، لأنّه لا يمكن بناء أيّ شيء صالح بدون القلب. المظاهر والأكاذيب لا تقدِّم إلّا الفراغ.
- على سبيل الاستعارة، اسمحوا لي أن أذكر شيئًا سبق أن قلته في مناسبة أخرى: “في مناسبة المرافع (الكرنفال)، لمــَّا كنّا أطفالًا، كانت الجدَّة تصنع لنا حلويات، وكانت العجينة التي صنعتها رقيقة جدًّا. ولمــَّا كانت تضعها في الزَّيت كانت تنتفخ. لكن العجينة التي نأكلها كانت فارغة. وكانت هذه الحلوى تسمّى باللغة الدارجة ”الكَذِب“ (bugie). وكانت الجدَّة تشرح لنا ذلك: هذه الحلوى تسمّى ”الكَذِب“، لأنّها تظهر كبيرة، لكن لا شيء فيها، لا حقيقة ولا جوهر” [5].
- بدل البحث عن الرّضا السّطحيّ، وتمثيل دور أمام الآخرين، من الأفضل أن نطرح الأسئلة المهمّة: من أنا حقًّا، ما الذي أبحث عنه، أيّ معنى أريد لحياتي، وخياراتي أو أعمالي، لماذا ولأيّ هدف أنا في هذا العالم، كيف سأقيِّم وجودي عندما ينتهي، ما المعنى الذي أريد أن يكون لكلّ ما أختبره، ماذا أريد أن أكون أمام الآخرين، ومَن أنا أمام الله؟ هذه الأسئلة تقودني إلى قلبي.
تابع القراءة بتحميل الملف