القسم
وثائق كنسيّة
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الكنيسة جمعاء
“فأسالوا رب الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده” (متى 9 / 38)
أيها الإخوة الأحباء في الأسقفية، أيها الأبناء الأعزاء في العالم كله،
للمرة الأولى يتحدث إليكم البابا الجديد بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات.
قبل أي شيء آخر، فلنذكر معاً، بالمحبة والشكران، المأسوف عليه البابا بولس السادس، لأنه أنشأ في المجمع، اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات كلها، تلك التي تستلزم التكرس لله والكنيسة. ولأنه، كل سنة، طوال خمسة عشر عاماً، أضفى من كلامه، بصفته معلماً، قبسا من نور على معنى ذلك اليوم، وشجّعنا، من كل قلبه، بصفته راعياً. على مثاله، أتحدث إليكم اليوم، في هذه السنة العالمية السادسة عشرة عاهداً إليكم بثلاث نقاط تهمني بنوع خاص وكأني بها كلمات تعارف وهي: الصلاة والدعوة والجواب
أولاً: قبل كل شيء الصلاة.
إن كان المسيح ذاته قد أمرنا بالصلاة على هذه النية، فلأن الأمر، حقاً، هو على جانب كبير من الأهمية: “فأسالوا رب الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده” (متى 9 / 38) واعملوا على أن يكون ذلك اليوم شهادة إيمان علنية بوصية الرب، وفعل طاعة لها. احتفلوا به إذا في كاتدرائياتكم، أساقفة وكهنة، رهباناً وراهبات، مرسلين وطلاب كهنوت، بالاشتراك مع جميع الذين يرغبون في تكريس الحياة مع الشعب، والشبان، الكثيرين من الشبان. احتفلوا به في الرعايا والجمعيات والمعابد والمدارس وحيثما وجدتم أناساً يتألمون. وليرتفع من كل حدب وصوب في العالم، بمثابة حملة نحو السماء، دعاؤنا هذا إلى الآب، سائلين ما أراد المسيح منا أن نسأل.
ليكن يوماً طافحاً بالأمل، فيطلّ علينا وكأننا في علّية كونية، “مواظبين جميعاً على الصلاة بقلب واحد… مع مريم أم يسوع” (أعمال 1 / 14)، منتظرين بثقة مواهب الروح القدس. بالحقيقة، إن المسيح بالذات يصلّي معنا ومن أجلنا، على مذبح الإفخارستيا، حيث نرتبط للصلاة، فيضمن لنا الحصول على ما نسأل: “إذا جمع اثنان منكم في الأرض صوتيهما وطلبا حاجة حصلا عليها من أبي الذي في السماوات، وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي كنت هناك بينهم” (متى 18 / 19). نحن كثيرون نجتمع باسمه ونسأل فقط ما يريد. فكيف يمكننا ألاّ نصلّي بنفس مليئة بالأمل بعد هذا الوعد العلني؟
ليكن ذلك اليوم اشعاع روحي، ولتنتشر صلاتنا، وتستمّر في الكنائس والجمعيات والعائلات وفي قلوب المؤمنين، كما لو كانت في معبد لا منظور يصعد منه دعاء دائم إلى الرب.
ثانياً: الدعوة
والآن أتحدث إليكم، أيها الإخوة في الأسقفية وإلى مساعديكم في الكهنوت، مقّوياً ومشجّعاً في الخدمة التي بها تضطلعون بشكل يستوجب الثناء. فلنحافظ على الأمانة للمجمع الذي حثّ الأساقفة على أن يهتمّوا، بكل ما أوتوا من قوة، بالدعوات الكهنوتية والرهبانية ويعنوا عناية خاصة بالدعوات الرسولية (مرسوم: المسيح الرب عدد 15).
إن المسيح الذي أمر بالصلاة من أجل عملة الحصاد دعاهم هو أيضاً شخصياً. ولا تزال كلمات دعوته محفوظة في كنز الإنجيل: “اتبعاني فأجعلكما صيّادي بشر” (متى 4: 19).
“وهلّم فاتبعني” (متى 19 / 21) “إن أراد أحد أن يخدمني فليتبعني” (يوحنا 12 / 26). لقد انيطت كلمات الدعوة هذه بخدمتنا الرسولية وعلينا أن نوصلها كسواها من كلام الإنجيل.
“حتى أقاصي الأرض” (أعمال 1 / 8). إن المسيح أراد أن ننقلها إلى مسامع الناس، ولشعب الله الحق بأن يسمعها منا.
إن البرامج الراعوية الجميلة في كل كنيسة والمؤسسات التي ترعى الدعوات بحسب توجيهات المجمع تنظّم النشاط الرعوي وتنمية خدمة للدعوات، وتفتح الطريق أمام نعمة الرب، وتهيّئ لها حقلاً جيداً. حرّ هو الله دوماً في أن يدعو من يشاء ومتى يشاء، “وفقاً لنعمته الفائقة السّعة، بما آتانا من لطف في المسيح يسوع” (أفسس 2: 7) على أنه يدعو عادة بواسطتنا وبواسطة كلامنا. لا تخافوا إذا من أن توجّهوا الدعوة. انزلوا إلى صفوف شبّانكم واذهبوا أنتم إلى لقائهم وأدعوهم. إن قلوب الكثيرين منهم مستعدة لأن تسمع لكم، وكثيرون من بينهم يبحثون عن هدف لحياتهم ويترقّبون اكتشاف رسالة ذات قيمة يقفون عليها حياتهم. إن المسيح لآءم بين ندائه وندائكم. علينا نحن أن ندعو والباقي شأن المسيح الذي يمنح كل واحد موهبة خاصة بحسب النعمة التي تعطى له (أقور: 7 / 7، روم 112 / 6).
فلننجز هذه المهمة بقلب سخي، ولنفتحه كما أراد المجمع إلى خارج حدود الأبرشية والأمة والعائلة والرهبانية والمذهب. وإذ نأخذ بعين الاعتبار حاجات الكنيسة بأسرها، نحمل مساعدتنا بنوع خاص إلى المناطق التي يزداد فيها الطلب بإلحاح لعملة في كرم الرب. وأودّ أن أوّجه ما سبق وقلته للأساقفة ومعاونيهم في الكهنوت إلى رؤساء ورئيسات الرهبانيات وإلى مديري المعاهد العلمانية والمسؤولين عن الحياة الرسولية لكي يتم كل منهم ما يترتب عليه خدمة للخير العام في الكنيسة.
ثالثاً: الجواب
إليكم أتوجّه بنوع خاص أيها الشبان، وأرغب في أن أتكلم معكم، مع كل منكم، أنتم أحبّائي، ولي ثقة كبيرة بكم؛ لقد دعوتكم أمل الكنيسة وأملي.
علينا أن نتذكر معاً بعض الحقائق. يحتفظ كنز الإنجيل بالأجوبة الجميلة التي تلقّاها الرب ممّن كان يدعوهم. جواب بطرس واندراوس أخيه يقول: “وللحال تركا شباكهما وتبعاه” (متى 4 / 20) وجواب لاوي العشّار: “وإذ ترك كل شيء ونهض وتبعه” (لوقا 5 / 28) وجواب الرسل: “إلى من نذهب يا رب؟ وكلام الحياة عندك”. (يوحنا 6 / 68) وجواب شاوول: “سيدي ماذا أعمل؟” (أعمال 22 / 20). منذ عهد البشارة الأولى للإنجيل وحتى أيامنا هذه أعطى عدد كبير من الرجال والنساء جواباً شخصياً، حرّاً وواعياً، المسيح، الذي يدعو، فاختاروا الكهنوت والحياة الرهبانية والرسولية هدفاً لهم في الوجود ومثالاً أعلى، وخدموا شعب الله والبشرية بإيمان وذكاء وشجاعة ومحبة. وها قد أتت ساعتكم، عليكم أن تجيبوا. قد تكونون خائفين.
فلنفكر معاً على نور الإيمان. أن حياتنا هي عطيّة من الله وعلينا أن نعمل منها شيئاًَ صالحاً. هناك طرق شتّى نستخدم فيها حياتنا لعمل الخير متى ألزمناها بخدمة القيم البشرية والمسيحية. إن كنت أحدّثكم اليوم عن وقف الذات كليّاً على الله في الكهنوت والحياة الرهبانية والرسولية، فلأن المسيح يدعو الكثيرين من بينكم إلى هذه المغامرة الرائعة. إنه بحاجة إليكم ويريد أن يكون بحاجة إليكم، إلى عقلكم، على مواهبكم، وإيمانكم ومحبتكم وقداستكم. إن دعاكم المسيح فلأنه يريد أن يتمرّس بكهنوته من خلال تكريسكم وعملكم الكهنوتي. إنه يريد أن يكلّم بشر اليوم بصوتكم، وأن يقدّس الإفخارستيا ويغفر الخطايا بواسطتكم، ويحب بقلبكم، ويساعدنا بأيديكم، ويخلّص بفضل جهودكم. فكّروا بهذا مليّاً. إن الجواب الذي يعطيه الكثيرون منكم، موجّه إلى المسيح بالذات الذي يدعوكم إلى هذه العظائم.
سوف تجدون صعوبات. وهل تظنون أنني لا أعرفها شخصياً؟ أقول لكم أن الحب يقهر كل صعوبة، وأن الجواب الصحيح على كل دعوة هو عمل المحبة، وأن التجاوب مع الدعوة الكهنوتية والرهبانية والرسولية لا يمكن أن ينبع إلا من حب للمسيح عميق. إن قوة الحب هذه هي عطية منه تضاف إلى موهبة الدعوة لتجعل جوابكم ممكنا. ثقوا بذاك الذي يستطيع أن يبلغ بنا، بقوّته العاملة فينا، مبلغاً أبعد ممّا نسأله أو نتصوره (أفسس 3 / 2). وإن استطعتم فقدّموا له حياتكم فرحين وبلا خوف، وهو الذي سبق فقدم حياته عنكم. وبالتالي أدعو إلى أن تصلّوا هكذا:
“أيها الرب يسوع، يا من دعوت من تشاء، أدع الكثيرين منا ليعملوا معك ولك. أنت يا من أنرت بكلمتك من دعوت، أنرنا بنعمة الإيمان بك. أنت يا من عضدتهم في الصعوبات، ساعدنا للتغلب على صعوبات شباب اليوم. وإذا ما دعوت أحدنا لكي تكرّسه بكليته لك، فاعمل على أن يغمر حبك بدفء منه هذه الدعوة منذ ولادتها، فتنمو وتستمر حتى النهاية. آمين”.
وفيما أعهد بهذه الأماني والصلاة إلى شفاعة العذراء القديسة مريم الكلية القدرة، مليكة الرسل، آملاً أن يتمكّن المدعوّون من معرفة صوت المعلم الإلهي وأتباعه بسخاء، استمطر عليكم أيها الإخوة الأحباء في الأسقفية وعليكم أيضاً أيها الأبناء الأعزاء في الكنيسة كلها مواهب السلام والصفاء من لدن الفادي، وأمنحكم، عربوناً لها، من كل قلبي، البركة الرسولية.
عن الفاتيكان، يوم الاحتفال بعماد ربنا في السادس من كانون الثاني 1979، السنة الأولى لحبريتنا.