بين الإيمان والإلحاد
قضايا إيمانية
قضايا إيمانية
مواضيع في التعليم المسيحي
سالزيان الشرق الأوسط
للجميع
مقدمة:
يظن الكثيرون اليوم أن الحياة أسهل وأفضل بعيداً عن الإيمان والله والدين. حيث أن كل هذا في نظرهم يُكبّل ويعوّق الإنسان في سعيه نحو السعادة والنضوج والرقي. وما الإيمان والدين سوى صورة لضعف الإنسان واحتياجه الدائم إلى ما يشبع إحساسه بالمحدودية. وهناك مَنْ يظن أن الإيمان والعالم لا يلتقيان وأن لا سعادة واستقرار بدون الإيمان بالله، دون الارتباط بالعالم وما فيه. وهذان الموقفان يدفعان للتعرض ولو سريعاً وباختصار لمسألة الله في التاريخ، قبل الخوض في بعض القضايا المرتبطة بالإيمان. التي نحن في حاجة ماسّة للتفكير فيها بعمق وموضوعية، أخذ موقف منها، حتى نستطيع أن نجددَ إيماننا ونعمقه ونحياه في العالم، لأجل بناء عالم جديد تسوده حضارة المحبة والإيمان العامل بالمحبة.
مسألة الله في التاريخ:
تتميز فيه بالطابع الوجودي، أي تتعلق بمسألة “وجود الله معنا” عمانوئيل، ولا تتعلق بحقيقة الله في ذاته. وتتجسد مسألة الله في العهد القديم في الأسئلة الآتية:
ولا تُطرح الأسئلة على مستوى الفهم النظري، بل على مستوى القرار الشخصي أيضاً، وبهذا تحمّل الإنسان على ولوج أعماق حرَّيته الذاتيّة حيث تُتخذ القرارات الحاسمة. وفي هذا الله هو المبادر بالانحدار بملء حرّيّته ومجاناً ليلتقي بالإنسان. فهو الذي أوحى لنا باسمه، وطرح هكذا على الإنسان مسألة الله بأسئلتها الأربعة بشكل لا يستطيع عقل أن يتصوره.
إن مسألة الله في العهد الجديد هي مماثلة لمسألة الله وأسئلتها الأربعة في العهد القديم. غير أن جوهر المسألة في العهد الجديد هو جديد بدرجة متسامية كجدّة اسم الله الذي أُوحى به لنا في الربّ يسوع على أنّه ” أبٌ “. بجانب الصياغة الجديدة لمسألة الله الآب والابن والروح القدس.
فيما سبق القرن الرابع، كانت حقبة إيمان هادئ، لقد كان الله مع الإنسان، وكان الإنسان بدوره مع الله. حتى تفجر مسألة الله على أثر اتصال الإيمان بالديانة اليهودية والثقافة اليونانية. فقامت جدالات حادّة حول اسم الله الموحى به في العهد الجديد على أنّه الآب الذي هو بالابن وفي الروح القدس الله “الواحد” معنا. فانتقلت مسألة الله بأسئلتها الأربعة إلى صعيد الفهم العقلي والصياغة الفكرية واللاهوتية. وبالتالي ظهر دور العقل في صعيد الإيمان من خلال المجامع والآباء بالإضافة إلى إرث العهدين القديم والجديد.
ظاهر الإلحاد أي الفصل بين الإيمان والعقل، وإقصاء الله عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعلى مَنْ يُؤمن بالله، ألا يتخطى هذا الإيمان حياته الخاصة.
لقد فصل العصر الحديث الدين عن العلم وعن الدولة وعزله منهما، أما في العصر ما بعد الحديث فقد سعى الإنسان إلى حذف الدين، بل قتل فكرة الله بالذات، لا وجود لله.
مسألة الله الآن:
ظهرت في الصيغة التي طُرحت بها في الكتاب المقدس، أو بالأحرى صعدت في أعماق التاريخ من عمق قلب الإنسان، فهي لم تُطرح على صعيد الأفكار بعبارات الماهية والوجود، بل على صعيد التاريخ الوجودي. فنحن المؤمنون بالله، مازالت جذور الإلحاد مغروسة في قلب كل إنسان. إنها لحقيقة قاسية تلك التي يعيشها المسيحي وهو يتخبط بين عبادته لله وتعبده لنفسه ولأصنامٍ كثيرة. نعاني من تصورات صنمية عن الله لا تزال تتسرب إلى إيماننا.
وهناك مواقف غريبة عن الدين وعن المحبة نتخذها أمام المشاكل الاجتماعية. والتخلي عن قضية الإنسان المقدسة وهو يخوض صراعاً مراً في مواجهة الظلم والشقاء، والعنف والجوع، والألم والموت، ونتخذ من السماء ذريعة لنتهرب من الواقع الزمني ومن واجبات الأخوّة والمحبّة، ونختبئ وراء الله لنستر به لامبالاتنا وانهزامنا وتقاعسنا عن العمل.
بين الإيمان والإلحاد:
أن مسألة وجود الله تُطرح منذ القدم، والحقيقة الأولى التي نتمسك بها في بحثنا عن الله هو كونه موجوداً وجوداً ذاتياً وواقعياً. إنه الكائن الموجود من تلقاء ذاته، وعلّة كل كيان ووجود. وحيث أن الاعتراف بحقيقة وجود الله لم يعد شيئاً بديهياً في الكثير من المجتمعات المعاصرة. ولذلك من الضروري أن نمعن التفكير في قضية الإلحاد، حتى يتعمق إيماننا وينمو وتتحطم كل الأصنام والصور الخاطئة عن الله.
تعريف الإلحاد:
الإلحاد هو موقف يتخذه الإنسان تجاه الله وقضية وجوده سوى على مستوى حضوره في العالم والمجتمع، والمستوى الشخصي وتأثيره في كل منهما. وهذا الموقف يبعد الله عن الحياة الاجتماعية والشخصية للإنسان، وكأن الإنسان هو مصدر ذاته، وقادر على تفسير كل الأشياء والظواهر.
أنواع الإلحاد:
وهو الذي يجزم بعدم وجود الله، فهو لا يستند في الأوساط الشعبية، إلى مبررات عقلانية، بل يرتبط بشعور غامض بأن شؤون الدين قد عفا عليها الزمن، إذ يفسر العلم كل شيء، ويسد حاجات الإنسان، وإن الديانات عدوة الشعب، ومرتبطة بالنظم المحافظة. وفي أوساط المفكرين الذين يحاولون تبرير الإلحاد لا نجد براهين تنفي وجود الله، ولا نجد محاولات تتصدى للبراهين على وجود الله، بل مجرد ادّعاء بأننا غير مرغمين على قبول بفكرة الله، وإن هذه الفكرة تحول دون ازدهار الإنسان واستقلاله.
إنّه موقف الذين يعتبرون معضلة وجود الله غير قابلة للحل. يقلون إن وسائل بحثنا أقصر من أن تطاله. ولذا يجب أن نتخلى عن تساؤلاتنا حول الله، ونعيش حياتنا البشرية على هذه الأرض بوسائلنا البشرية البحتة. وهذا الموقف يلتقي مع موقف الإلحاد العملي.
إنّه موقف الذين لا تتأثر تصرفاتهم بوجود الله أو عدمه. فالله ولو كان موجوداً، لا يكترث لنا، وليس بوسعنا أن نتصل به. فوجوده لا تأثير له على حياتنا. أنّه موقف يتناقض تماماً مع موقف القديسين الذين، مذ عرفوا الله، لم يستطيعوا أن يحيوا إلا من أجله. فهو كل شيء بالنسبة لهم.
ويُعاش هذا النوع من الإلحاد بقوة أمام الموت، حيث يظهر الموت كنهاية كل شيء والفناء الأبدي، وهذا بسبب عدم الإيمان بالله المحبّة واهب الحياة وفيه وحده ضمان بقاؤها واستمرارها. وفي اتباع الأنظمة والتيارات التي لا تحترم الإنسان، والتي تقود الإنسان إلى الاستهلاك والتملك. وليس الكينونة، وحياة ملء الحياة بالاتحاد بمَنْ قادر على الحب، ويفجر طاقات الحب في حياة كل إنسان. والسؤال الأساسي هنا ما هي الأشياء والتصرفات والمواقف التي يظهر فيها إلحادي العملي؟
أسباب الإلحاد:
بعض أسباب الإلحاد العملي :
الجوانب الإيجابية لظاهرة الإلحاد:
الإيمان ومعرفة الله:
أن العلاقة بين الإيمان والمعرفة علاقة طردية، أي كلما يزداد الإيمان تتعمق المعرفة، وكلما تتعمق المعرفة نمى الإيمان وأثر في الحياة، وصار نبعاً ومصدراً لمواقف الإنسان تجاه القضايا الحياتية الهامة، ومعضد له في قراراته الشخصية التي تتميز بالحرية. وهذا ينطبق على جميع أبعاد الحياة الإنسانية ولاسيما الإيمان بالله والعلاقة معه. ولاختلاف معرفة الله عن المعرفة العلمية والنظرية البحتة.
الإيمان معرفة لله، وهذه المعرفة ككل معرفة تتطلب مساهمة العقل، ولكنها هنا تتجاوز حدود وإمكانات العقل البشري، فمعرفة الله شأنها شأن حقائق بالغة الأهمية في حياة الإنسان ووجوده، قد يكرس لها ذاته أو يموت من أجلها، ولكنه لا يستطيع تقديم أية براهين منطقية قاطعة، مثل العدالة والحرية والإخاء بين البشر، وهنا البرهان الوحيد هو مشاركة الخبرة. وبالتالي معرفة الله لا تكون كمعرفة الرياضيات وقوانين الطبيعة، وذلك للأسباب الآتية:
تخطي الذات للاتصال بالإنسان الآخر، تخطي الذات للاتصال بالله: ليس هذا مجرد تشابه بين هاتين العمليتين، إنما يوجد ارتباط وثيق بينهما. فبقدر ما انفتح على الآخر البشري، أصبح أكثر استعداداً للاتصال بالله، لذ ربط الرسول يوحنا بين محبة الله (أي الاتصال الصميمي بالله، الذي لا إيمان حقيقي بدونه) وبين محبة البشر اخوتنا، قائلاً:” إن قال أحد:” إني أحب الله”، وهو يبغض أخاه، فهو كاذب: فمن لا يحب أخاه وهو يراه، فلا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه” (1يو4/20).
بعض السُبل لمعرفة الله:
ومن خلال ما سبق يمكن أن نكتشف العلاقة بين الإيمان وكل من الآتي:
الإيمان والخطيئة: فلا وجود للخطيئة مع الإيمان التام بالله أي الاتحاد به. لأن الإيمان يُعاش ويُحقق يومياً في الواقع اليومي للإنسان، وبالتالي ينمو وينضج ومع هذا النمو والنضوج يتغير فكر الإنسان ورؤيته للحياة والعالم والآخر، مما ينتج عنه تغير السلوك الشخصي. حتى يرى الناس أعمالنا الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات.
الإيمان والعمل: كما أوضحنا سابقاً أن الإيمان بالله ليس مجرد إيمان بفكرة أو ببداهة سوى كانت حسية أو عقلية، بل إيمان بشخص وبالتالي يُعبر عن هذا الإيمان بأعمال حب تحمل الثقة والرجاء في الله، وكل ما يربطنا به ولاسيما الآخر.
الإيمان من الله أم من الإنسان: لا يمكن أن نقول إن فعل الإيمان من الله وحده أو من الإنسان وحده، بل هو فعل الاثنان معاً، الله يوحي ويكشف عن ذاته، والإنسان يتقبل هذا الكشف بموقف حر منه يتميز بالاستعداد والانفتاح الدائم.
ولعيش إيماننا المسيحي على وجه أفضل لابد من التمييز بين كل من الإيمان والدين والعقيدة:
ومن التعاريف السابقة والتي تميز بين الإيمان والدين والعقيدة، ولا الفصل نجد العلاقة بينهم وهي أن كل من الدين والعقيدة يعبران عن الإيمان ويشملان كل أبعاد حياة الإنسان سوى الشخصية أو الاجتماعية. ومن خلالهما يجد جواباً على أسئلته الكبرى حول ذاته والعالم والحياة والموت والشر والألم. ورؤية وموقف حتى في القضايا الاقتصادية والسياسية.
خاتمة:
من كل ما سبق يتأكد لنا أن لا معنى للإنسان إلا بمعرفة الله والإيمان به، حيث يكون الإيمان نبعاً متدفقاً ومتجدداً لحياة الإنسان وتصرفاته تجاه الآخر والكون والعلوم والشر والألم …أي كل ما يخص حياة الإنسان. وبالتالي لا تحقيق لإنسانية الإنسان بدون الله. وهذه دعوة لنا لنكتشف كل الصور السلبية عن الله ونحطمها، ونعيش علاقة مجانية مع الله لا يحكمها أو يوجهها سوى الحب. وهذا سيدفع الإنسان لمواجهة كل الصعوبات التي قد تعوق تحقيق ومعايشة إيمانه، لينتصر على الأنانية والتملك بالتخلي وأن يكون ما هو عليه، أي صورة الله ومثاله. وبهذا يحقق ملكوت الله والسماء والأرض الجديدتين.