العُبور إلى الرَّجاء Varcare la Soglia della Speranza
مَنشورات اللجنة الأسقفيَّة لوسَائل الإعلام
مَنشورات اللجنة الأسقفيَّة لوسَائل الإعلام
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الكنيسة جمعاء
مقدمة
نشأة هذا الكتاب
أكنّ احتراماً خاصّاً لزملائي كتّاباً ومخرجين في الصحافة المتلفزة، لذلك كنت دائماً أرفض التطاول على ميدانهم، على الرغم من المحاولات المغرية. ويبدو لي، في الواقع، أنّ الكلمة، وهي المّادة الأولى في عملنا، ليس لها، على موج الأثير، الحضور والأثر اللذان تتمتّع بهما في الصحافة المكتوبة. وعلى الصعيد الشخصيّ، لم أسلك سوى سبيل التحرير في الصحف ودور النشر. إذ إنّ استديوهات التلفزيون بقيت غريبة عليّ.
إذاً، كما كانت دهشتي كبيرة عندما تسلّمت مكالمة من المدير العام للمحطة الأولى في التلفزيون الإيطالي (1)، في يوم من أيّام أيار 1993. فقد كنت في مكتبي أعيد النظر في بحث فرغت منه، وأتهيّأ للشروع في بحث جديد. كنت أشعر بالامتنان لمن سهّل أمامي سبيل مواجهة هذه المشاغل كلّها، في سكون وحدتي، داخل ملاذي المطلّ على بحيرة “لاغارد”. بعيداً عن كلّ مراكز السلطات السياسيّة والفكريّة وحتّى الدينيّة. وقد حضرتني جملة لشيشرون يقول فيها: “هل يمكن أن تحظى بأمنية أفضل من أن تكون لديك مكتبة مطلّة على حديقة صغيرة؟”. فالذي أعتقده أنّ جاك مارتان، صاحب المنزلة المرموقة عند البابا بولس السادس، كان يجد لذّةً في نصح أولئك الذين يرغبون في الاستمرار بمحبّة الكثلكة والدفاع عنها، بألاّ يتردّدوا إلى أوساط كاثوليكيّة معيّنة بسوى مقدار معيّن وضمن نطاق محدود.
وها هو المدير العام للمحطّة الأولى يقتحم عزلتي، في ذلك اليوم من أيّام الربيع الجميلة، ويعلمني أنّني، بعد قليل، سأتسّلم عرضاً لا يمكن أن أرفضه هذه المرّة. وفي الأيام التالية وصلتني، بالفعل، مكالمات أخرى من روما، فكان القلق يكبر مع نموّ المشروع الذي بدأت تتّضح ملامحه.
في تشرين الأوّل من العام 1993 كان البابا يوحّنا بولس الثاني يحيي ذكرى مرور خمس عشرة سنة على اعتلائه السدّة. وفي هذه المناسبة سمح بإجراء مقابلة تليفزيونية مع المحطّة الأولى. إنّ هذا العمل يُعتَبر خطوة رائدة في تاريخ البابويّة، لأنّ أحداً من خلفاء القديس بطرس لم يظهر أمام آلات التصوير والتسجيل ليجيب عن أسئلة تُرِك اختيارها لمبادرة حرّة من قِبل صحافيّ. وبعدما حُصِر البثّ بالمحطّة الأوّلى، ليلة الذكرى، عُرِضتْ تلك المقابلة في كبريات المحطّات العالميّة. وما أراه هو أنّ كتاباتي قدّمت من الفوائد ما جعل القيّمين يعهدون إليَّ مهمّة إجراء مقابلة مع قداسته. فالواقع أن مقالاتي وكتبي تضطلع بمواضيع دينيّة أعتمد فيها صراحة العلمانيّ وحرّيّته، مع المحافظة، في الوقت نفسه، على حرص المؤمن الذي يقتنع بأنّ الكنيسة لم يُؤتمن عليها رجال الدين وحدهم، وإنّما كل معمّد أيضاً.
صدر، في العام 1985، بياني حول الإيمان، فلفت الانتباه، وأثار حرباً كلاميّة. ولكنّ النجاح الرعويّ جاء مؤكّداً، وكان الأثر الإيجابيّ حاسماً داخل الكنيسة. فطبع البيان عدّة مرّات، ونُقلَ إلى لغات مختلفة. وقد جمع هذا الكتاب مقابلات متعدّدة أجريت مع أقرب مساعدي البابا، هو الكاردينال جوزف راتزينغر مدير “مجمع العقيدة والإيمان”. وكان العمل خطة أولى. فأسرار هذا المجمع، ومحكمة التفتيش القديمة التي كانت أسطورة مناوأة الإكليروس توجّه إليها اللوم على اعتماد السكوت والتكتّم، كُشِفَ عنها النقاب أخيراً.
وبالعودة إلى ربيع 1993 نقول: إنّ تحضيرات مقابلة الحبر الأعظم كانت تتلاحق بكتمان. فقد قابلته في فصل الصيف، في “كاستل غوندولفو”، مع الاحترام المقرون بصراحة فاجأت البعض (ولم تفاجئ مضيفي الذي أعجب ببساطتي البنويّة). وهناك توافر لي إمكان عرض العناصر التي وجّهتني في تحضير أولى لوائح الأسئلة. فقد كانت التعليمات: اعمل بما تراه مرضياً.
ما كان غير متوقع:
من دواعي الأسف أنّ البابا لم يُقم حساباً لكثافة التزاماته، في شهر أيلول الذي كان، كذلك، موعداً أخيراً لإنهاء التسجيل و”مونتاج” النشرة، قبل الانتقال إلى البثّ. فجدول أعمال قداسته، لذلك الشهر، ملأ ستّاً وثلاثين صفحة مطبوعة، منها زيارة أبرشيّتين إيطاليّتين (أريزو وأستي)، ولقاء رسميّ مع أمبراطور اليابان. ومنها زيارة ليتوانيا وأستونيا، من الاتّحاد السوفياتيّ سابقاً، وهي الأولى التي يقوم بها حبر أعظم، مع ضرورة التحضير للاطّلاع على أوليّات لغات صعبة. ونشير، هنا، إلى أنّ غيرته الرعويّة، ورغبته كانتا تفرضان أن يُسمِعَ شعوب العالم قراءته الإنجيل بلغاتها.
كان من المستحيل، إذا، أن نضيف إلى اللقاءين الأوّلين: الياباني والبلطيقي، لقاءً متلفزاً. بخاصّة أنّ يوحنّا بولس الثاني كان قد قَبِلَ بأربع ساعات تصوير، يختار منها المخرج أفضل المقاطع من أجل بثّ يدوم ساعة. فضلاً عن ذلك، ينبغي أن تُصوَّر هذه اللقاءَات في كتاب يبيّن الخطّة الرعويّة والتعليميّة التي كرّس البابا نفسه من أجلها. ولكن المؤسف أنّ ضرورات البرنامج اقتضت غير ذلك.
رجعت، إذاً، إلى سكينة مكتبي حيث تسنّى لي التفكير بالمواضيع التي تمنّيت معالجتها مع قداسة البابا، لو ساعدتني الإمكانات في ذلك. وكان رسم “بليز باسكال” يتصدّر مكتبي، فتذكّرت قوله: “أمر واحد يكمن وراء شقاء البشر كلّه ألا وهو عدم معرفة البقاء بهدوء وسكينة داخل غرفة” (2).
بعدما ألفيتني متورّطا في هذا المشروع، على ما يثيره من حماسة، رأيتني أمام تساؤلات جدّية. وسألت نفسي أوّلاً، كوني مؤمناً، عمّا إذا كانت اللقاءات المتلفزة التي يمنحها البابا أمراً مستحباً؟ فهو على الرغم من نبل نواياه، سيجد نفسه منجذباً بالآليّة الضاغطة للنظام التوافقيّ. أليس من المجازفة أن يختلط صوته بالضجيج الخاوي لعالم أصبح فيه كلّ شيء مُبتذلاً، وعرضاً مسرحيّاً، وآراء متناقضة، وما تبقّى يتضّمن كلاماً لا حدّ له؟ ألا يمكن أن يهمل الحبر الأعظم هذا “النحن” الاحتفاليّ الذي من خلاله يتردّد صوت السرّ الألفيّ للكنيسة، لكي ينعطف إلى نوع أصغر من المقابلات، وإلى بساطة عبارة “في رأيي؟”. الحقيقة تقال إنّه كانت لديّ رغبة في إيصال هذه الهواجس إلى يوحنا بولس الثاني نفسه.
فضلاً عن هذه الأسئلة الأساسيّة، تساءلت عمّا إذا كانت كفاءاتي المُكتَسَبة في حقل الإعلام الكنسيّ تبدو كافية للتعويض عن عدم خبرتي في الحقل التلفزيونيّ، ولا سيّما في بثّ مثل هذا الحجم.
كلّ ما يمكن قوله هو أنّ خطّة “خمس عشرة سنة من الحبريّة في التلفزيون” قد لا تنجح. وما يمكن أن يُفترض هو أنّه، بعد انتهاء الذكرى، لن يتحدّث عنها أحد، ولن يبقى أمامي سوى أن ألاحق كما في الماضي، تصريحات أسقف روما عبر صحيفة الفاتيكان الرسميّة (3).
تابع القراءة بتحميل الملف