الابتسامة مرآة توازن الإنسان النفسي
لغة تُحاكي القلب
لغة تُحاكي القلب
مواضيع تربوية
د. غريغوار مرشو
للجميع
إنّ التحدّث عن موضوع الابتسامة أو الابتسام يبدو للوهلة الأُولى مفاجئاً لبعضهم إذ قلّما تمّت إثارته في ندوة أو محاضرة كمحور نظراً إلى ما يُسبّبه لصاحبه من حرج ويضعه في موضع مساءلة. غير أنّ ما حثّنا إلى تناوله هو كَون الابتسام، على الرغم من تعبيره، بوجه عامّ، عن فاعليَّة الإنسان وتوازنه النَفْسيّ وقدرته على امتصاص الأزمات والتكيّف مع ما يدور في العالَم من أحداث ومتغيّرات، يبقى هذا الابتسام مهدّداً بالاحتجاب والاغتيال نظراً إلى ما طرأ ويطرأ على حياتنا من تحوّلات سياسيَّة واقتصاديَّة ونَفْسيَّة اجتماعيَّة ضاغطة وصادمة مُعيقة للتواصل المثمر والتفاعل الخلاّق بين الناس. ثمّ إذا كان الابتسام يبدأ معنا بشكل طبيعيّ منذ الطفولة، فهو حينما يتبدّى على وجوهنا في سنّ الشباب والرشد يأخذ أشكالاً متنوّعة ومختلفة ابتداءً من الابتسام الطبيعيّ العفويّ حتّى الابتسام الاصطناعيّ كمجرّد زينة أو حلية على وجه الإنسان. يُضاف إلى ذلك أنّ للابتسام أزماناً وفصولاً وأسراراً ولا يمكن الحفاظ عليه بالمطلق، إذ قد تستولي على الإنسان أحوال وظروف ومواقف وصدمات قد تحجب عنه الابتسام مؤقّتاً أو دائماً حينما لا يلاقي صاحبه تعزيزات اجتماعيَّة مُنشّطة له.
بناءً على ما تقدّم نقول إذا كان الابتسام يُعتبر فاعليَّة عامّة بين أفراد البَشَر كَون الإنسان هو إنسان ضاحك منذ نعومة أظفاره، فهذا يعني أنّ الابتسامة، في الأيّام الأُولى، تعود إلى أصل بيولوجيّ بدليل أنّها تظهر عند جميع الأطفال وحتّى لدى المكفوفين أو الصمّ والبكم. لكنّ هذا الأصل البيولوجيّ يحتاجُ إلى تعزيز وإلاّ ستنطفئ هذه الابتسامة وبخاصّة عند المكفوفين والصمّ والبكم حينما ينعدم التعزيز الاجتماعيّ.
الابتسام ومراحل الطفولة:
يمرّ الابتسام بمراحل متعدّدة خلال السنة الأُولى من حياة الطفل وهي:
ظاهرة الابتسام عند الراشدين:
لكن، إذا انتقلنا إلى ظاهرة الابتسام عند الراشدين فنجد أنّ الابتسام ينضج عموماً بما في الإنسان من توازن نَفْسيّ كَونه ثمرة تفاعل صاحبه مع بيئته الداخليَّة والخارجيَّة. فالتفاعل مع المحيط الداخليّ يتضمّن فهم الشخص لذاته ومعرفة قدراته ودوافعه واتّجاهاته والعمل عليها من أجل تنميتها وتطويرها وتحقيقها.
أمّا التفاعل مع المحيط الخارجيّ فيتضمّن فهم الواقع وشروطه ومتغيّرات البيئة وظروفها، والعمل على استنباط إمكانات جديدة منه لإبعاد الخطر عن الذات وتعديل السلوك بما يتناسب مع المستجدّات والأحداث المعاصرة. وأخيراً العمل المُنتج خلال سعي الفرد لتحقيق ذاته. إلاّ أنّ هذا السعي لا يخلو من الانفتاح على الآخَرين والمرونة في التعاون معهم والقبول باختلافهم وتفهّمهم بدون أحكام مسبقة. ودليل ذلك حبّ الآخَرين واستيعاب مستويات إمكاناتهم واحترامهم، وتكوين علاقات اجتماعيَّة مُرضية معهم. وهذا يُبيّن إلى أيّ مدى أصحاب هذا الانفتاح مُدركون نواحي القوّة والضعف فيهم، بحيث يُتيح لهم ذلك استثمار نواحي القوّة وتقبّل الضعف. لذلك نراهم مرنين في مواجهة مطالب الحياة وأزماتها وإحباطاتها اعتقاداً منهم أنّ الحياة لا تخلو من مطالب وصعوبات وأزمات ولابدّ من مواجهتها والتغلّب عليها.
لعلّ هذا ما يدفعنا إلى القول: إذا كان الابتسام هو مرآة التوازن النَفْسيّ للإنسان وسمة عامّة لدى أصحابه فلا يخلو من حالات الاحتجاب المؤقّتة حيال المواقف الصعبة، ولكن سرعان ما يبتلعونها ويهضمونها نَفْسيّاً بُغية التكيّف معها ثمّ تجاوزها.
ثمّ ما يعزّز الابتسام عند الشخص هو رضاه عن عمله ونجاحه الكفؤ فيه وميله إليه. لهذا السبب يُركّز علماء النَفْس المهنيّ والصناعيّ على هذا الجانب من خلال الاهتمام بعمليّتَي التعليم المهنيّ والتوجيه المهنيّ اللذين يهدفان إلى وضع الرَجل المناسب في مكانه المناسب. الأمر الذي يُشجّعه على الإقبال على الحياة والمشارَكة المناسبة في حياة المجتمَع وتطويره وتقدّمه وتحديثه.
لكن إذا كان المثل الرائج عند الناس أنّ الإناء ينضح بما فيه فهذا الأمر لا ينطبق على جميع الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، إذ كثيراً ما يصادفنا في حياتنا اليوميَّة تلوّنات من الابتسامات تغالط هذا المثل لأنّها لا تعبّر عن مكنونات النَفْس على نحو صادق والاختلافات في تفسيرها عديدة.
على سبيل المثال:
فهذه الأنماط من الابتسامات قد تنسحب على قسم كبير من العلاقات سواء ما بين رؤساء الدول أو ما بين الحكّام والمحكومين أو المدراء والمُدارين أو الأساتذة والطلبة. وإضافةً إلى هذه الأنماط من الابتسامات هناك ابتسامات لها أبعاد تلقائيَّة عفويَّة، لكن مربوطة بالأزمان والفصول كما أسلفنا. مثلاً في زمن الرخاء والازدهار والأمان والسلم الاجتماعيّ تكثر الابتسامات عند الناس، وخاصّة في فصل الربيع حيث القلوب تتفتّح لاستقبال مباهج الطبيعة وحيويّتها.
أسباب احتجاب الابتسام:
في الحقيقة، ثمّة أسباب خارجيَّة وداخليَّة لاحتجاب الابتسام. الخارجيّة تتجسّد في الضغوطات على اختلاف أشكالها: السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتربويّة التقليديَّة التي تلمّ بالمجتمَع وما تحمله من متغيّرات مفاجئة وتحدّيات وتهديدات وصدمات تطال الصغار والكبار. وبسبب الشعور بالعجز في مجابهتها وتفهّمها للتأثير فيها ولتجاوزها إلى ما هو أفضل يُسلّم أصحابها أنفسهم للأقدار كي تُبدّل الأحوال. وهذا ما تتمخّض عنه أشكال من القلق والإحباط والخوف من المستقبل إلى الحدّ الذي يسرق متعة الابتسام عند أغلبيَّة الناس وأفضاله الصحّيَّة النَفْسيَّة عليهم.
أمّا الأسباب الذاتيَّة لاحتجاب الابتسام فقد تتولّد من عدّة أفكار ثابتة تتحكّم في لاوعي وفي وعي أصحابها. فمنهم مَن ينطلق من فكرة أنّ الابتسام سمة من سمات الضعف في الشخصيَّة وغياب الرجولة والفحولة والهيبة والسطوة والتأثير في الآخَرين، فلا بدّ من العبوس لفرض الاحترام والوقار عليهم. وقد يلجأ إليه قسم كبير من المثقَّفين المصابين بتضخّم أنويّ، انطلاقاً من فكرة مسبقة الصنع مفادها أنّ من مواصفات المثقّف الجادّ والنضالي أن يكون عبوساً مُقطّب الجبين ومترفّعاً ومتأنّفاً لأنّه يُخيّل له أنّه من جِبِلَّةٍ أسمى من عامّة الناس لكَونهم مجرّد رعاع لا يستحقّون البسمة. وهذا يدلّ على مدى استلابهم عن واقعهم وعلى مدى ميلهم إلى إعطاء صورة عصمويَّة عن ذاتهم وإخفائهم، بالتالي، أمّيّتهم في قراءة الواقع واستيعابه للتواصل معه على نحو تفاعليّ لا تقاعسيّ، بذريعة أنّه لا خير يُرجى من هذه الأُمّة. وإذ صادف وابتسم أصحاب هذا النمط من المثقّفين فابتسامهم لا يكون إلاّ فيما بينهم بغاية السخريَّة من هؤلاء الناس المحسوبين على الطرف الأدنى في سُلّم النوع الإنسانيّ. وقد يتوسّل بعض الأثرياء والبخلاء هذا النمط من العبوس لقطع الطريق على من يطلب العَون الماليّ أو الاستدانة منهم، فيتظاهرون بفقر الحال وسوء الأحوال الاقتصاديَّة. ومنهم من يتقنّعون بالعبوس على حساب الابتسامة لتمويه مركّبات نقصهم وسدّ الطريق على مَن يجرؤون على كشف عيوبهم وعدم كفاءتهم للمنصب الذي يشغلونه. لذلك نرى أصحاب هذا التصوّر يتشدّدون بشكل متزمّت بالنظام والانضباط والأخلاق الصارمة سواء بغاية الابتزاز النَفْسيّ أو المادّيّ. وإذا حدث وابتسم هؤلاء فابتسامهم يكون في غياب مَن يمتثلون لهم للتلذّذ بما ألحقوه بالآخَرين من أسباب الخوف والرضوخ.
لكنّ ثمّة حالات كنّا استخرجناها من الحقل العياديّ النَفْسيّ تبيّن أنّ أسباب احتجاب الابتسام لدى أصحابها ناجم عن وطأة الاكتئاب التي تجتاحهم وتشلّ تدريجيّاً إرادتهم. ويندرج اكتئابهم في ثلاثة مستويات تطال الأطفال والمراهقين والراشدين والمسنّين.
في نهاية التحليل نقول: إذا كان لهذه الحالات في السابق من المتنفّسات في فضفضة الهموم والشجون عن طريق الأصدقاء والصديقات أو رجال الِدين أو بعض الأطبّاء والحكماء أو العقاقير.. فقد صار اليوم، نتيجة تعقيد الحياة وانحسار الأُسرة الكبيرة وغياب التآنس لكثرة الثراء والنجاح غير المشروع على حساب المقهورين، يُحتاج إلى نخب جديدة فاعلة ناشطة متعدّدة الاختصاصات. وذلك بُغية تفعيل المجتمَع وتطويره ليستعيد الإنسان توازنه النَفْسيّ وكرامته ومن ثمّ ابتسامه، وإلاّ فإنّ أيّ تقاعس في تدارك علاج هذه الحالات سيتسبّب في تناسل سلوكيّات ملتوية للتخفيف من المعاناة، سواء بالإدمان المفرط على الكحول أو المخدّرات أو حبوب الأعصاب، أو سيتسبّب في إفراز أمراض وأعراض نَفْسيَّة جسميَّة قد تبدأ بالقرحة والقولون والشقيقة وتنتهي بالشلل الجزئيّ أو الكلّيّ أو الجلطات الدماغيَّة القلبيَّة.
من هنا، تمسّ الحاجة إلى استراتيجيَّة تعليميَّة وتربويَّة وقائيَّة جديدة تقوم على فلسفة التآنس من حيث كَونها إمكانيَّة التفكير في الشروط الموضوعيَّة والروحيَّة للعيش معاً في كنف السعادة الذي في أساسه الأنس والمحبّة. وقد تظهر هذه الفلسفة في التصوّرات التي تتحدّد حول مفاهيم الاتّفاق والتواصل والتآزر والتحافز والضيافة. هذه المفاهيم كلّها هي تصوّرات تعالج وضعيَّة الإنسان المتردّية في عالَم تسيطر عليه معقوليَّة الهيمنة، هذه المعقوليَّة التي تتمحوَر حول العقل الأداتيّ الحسابيّ النفعيّ المنغلق. غير أنّ فلسفة التآنس التي تقوم على تعايش المحبّة لا تنفي بطبيعة الحال ما يصبغ العلاقات البَشَريَّة من العنف والصراعات والتأزّم والتوتّر، كما لا تنفي ما يطبع تنسيق هذه العلاقات من طابع سياسيّ يقوم على الترغيب والتخويف، لكنّها تحاول، على الأقلّ، التفكير في إمكانيَّة تخليق الحياة المشترَكة بإعطائها صبغة إنسانيَّة كونيَّة لعلّها بذلك تقلّل من وطأة أعمال العنف والمكر والخبث والجشع التي تمارسها الدول المستقوية على شعوبها المستضعفة.