أم الفــادي Redemptoris Mater
رسالة الحبر الأَعظم البابا يوحنا بولس الثاني العامة
رسالة الحبر الأَعظم البابا يوحنا بولس الثاني العامة
وثائق كنسيّة
البابا القديس يوحنا بولس الثاني
إلى الكنيسة جمعاء
أيها الإخوة المحترمين والأبناء والبنات الأعزاء، سلام وبركة رسولية!
المقدمة:
1- إن لأُم الفادي موقعاً محدّداً في مخطّط الخلاص، لأنه “عندما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه، مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس وننال التبنّي. والدليل على أنكم أبناء، كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها أبَّا، أيها الآب!” (غلاطية 4: 4 – 6).
هذه العبارات للرسول بولس، التي يستعيدها المجمع الفاتيكاني الثاني في مطلع ما يعرضه بشأن الطوباوية مريم العذراء (1)، استهلُّ بها، أنا أيضاً، تأمّلي في معنى الدور الذي لمريم في سرّ المسيح وفي حضورها الفاعل والمثالي في حياة الكنيسة. ذلك أن هذه العبارات تعلن في آن محبّة الآب ورسالة الابن وعطيّة الروح، والمرأة التي ولدت الفادي، وبنّوتنا الله، في سرّ “ملء الزمان” (2).
“ملء الزمان” هذا يشير إلى الحقبة التي حدّدها الآب، منذ الأزل، لكي يرسل ابنه “فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا 3: 16)؛ كما يشير إلى هذه الآونة السعيدة التي فيها “الكلمة الذي كان لدى الله، صار جسداً وسكن في ما بيننا” (يوحنا 1 : 1، 14) وأضحى أخاً لنا؛ وهو يبرز البرهة التي فيها كوّن الروح في أحشاء مريم التي من الناصرة، وهي عذراء، طبيعة المسيح البشرية، بعد أن أنزل عليها ملء النعمة؛ ويشير إلى المرحلة التي فيها تناول الخلاص الزمن نفسه بعد أن حلّ الأزل فيه؛ وإذ دخله سرّ المسيح أضحى، وبشكل نهائي، “زمن خلاص”. أخيراً، يشير إلى انطلاقة مسيرة الكنيسة في خطاها الأولى الخفيّة. ففي الليتورجيا، تهتف الكنيسة لمريم التي من الناصرة بوصفها فاتحة لها (3)، لأنها ترى في واقع الحبل بها، وهو حبل غير موصوم بالخطيئة الأصليّة، تحقيقاً مسبقاً لنعمة الخلاص التي للفصح، في أشرف عضو فيها، وخصوصاً لأن واقعة التجسد أبرزت المسيح ومريم في شركة لا تنفصم، فهو ربها ورأسها، وهي، إذ كانت أول من تلفّظ في العهد الجديد بعبارة “ليكن لي بحسب قولك” سبقت وصوّرت وضعها، وضع العروس والأم.
2- والكنيسة تسير، على مرّ الزمن، صوب انقضاء الدهر، لملاقاة الرب الذي يأتي، يسندها حضور المسيح (راجع متى 28: 20). ويهمّني أن ألفت أولاً إلى أنها تتقدّم في مسيرتها على هذه الطريق تستهدي الخط الذي سلكته العذراء مريم التي سارت في طريق الإيمان وهي تتمسّك بأمانة بما يربطها بابنها حتى الصليب (4).
إني أستعيد هذه العبارات الكثيفة المعنى والإيحاء التي وردت في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني “نور الأمم”، هذه الوثيقة التي تعطينا في خاتمتها خلاصة رائعة لما تعلّمه الكنيسة بشأن والدة المسيح والتي تكرّمها بوصفها أمّها الحبيبة وقدوتها في الإيمان والرجاء والمحبة.
بعد المجمع ببضع سنوات شاء سلفي العظيم بولس السادس أن يعود إلى موضوع العذراء الفائقة القداسة فعرض في رسالته العامّة “أم المسيح” ثم في التحريضين الرسوليّين اللّذين مطلعهما “العلامة العظيمة” “وإكرام مريم” (5)، أُسُس الإكرام الفريد الذي لوالدة المسيح في الكنيسة ومفاهيمه، وكذلك مختلف الأشكال الليتورجيا والشعبيّة أو الفرديّة التي يتّخذها هذا الإكرام المريميّ نابعاً من روح الإيمان.
3- إن ما يدفعني اليوم إلى العودة إلى هذا الموضوع هو أنَّ آفاق العام الألفين الذي أضحى قريباً أخذت تطلّ وتحمل الذكرى الألفيّة الثانية لميلاد يسوع المسيح، وهي توجّه نظرنا في الوقت نفسه صوب والدته. وفي هذه السنين الأخيرة، طلعت أصوات من هنا وهناك تقول إن إقامة يوبيل مماثل يكون موضوعه الاحتفال بذكرى ميلاد مريم، تفرض ذاتها استعداداً لهذه الذكرى.
أجل، إذا كان لا يمكن أن نعيّن في مسيرة التاريخ زمناً محدّداً نشير فيه إلى يوم ميلاد مريم، فقد وعدت الكنيسة دوماً أن مريم ظهرت قبل المسيح في أفق تاريخ الخلاص (6). فالواقع، إذن، أنّه فيما كان يقترب بشكل حاسمٍ “ملء الزمان”، أعني ظهور عمّانوئيل بوصفه حدثاً خلاصياً، فالتي كانت معدّة منذ الأزل لأن تكون أمّاً له سبقته في الوجود على الأرض. وواقع كونها “تسبق” مجيء المسيح تعكسه ليتورجيا ما قبل الميلاد. فإذا كانت السنون التي تفصلنا عن نهاية السنة الألفين للمسيح ومطلع الألف الثالثة، يمكن أن نقارن بينها وبين هذه الحقبة القديمة، حقبة الانتظار التاريخي للمسيح، تضحي رغبتنا في التوجّه، لا سيما في هذه المرحلة، صوب تلك التي بدأت تتألّق “كنجمة الصبح” الحقيقيّة في ليل انتظار هذا الحدث، في إطارها الطبيعي. فكما أن هذه النجمة والفجر الذي يرافق ظهورها يسبقان اشراقة الشمس، كذلك سبقت مريم، منذ أن حُبِل بها حبلاً منزهاً عن الخطيئة الأصلية، مجيء المخلِّص، أي بزوغ “شمس العدل” في تاريخ الجنس البشري (7).
إن وجودها في إسرائيل، وجوداً خفيّاً، إلى حدّ أن معاصريها كادوا أن يجهلوه، كان يسطع بوضوح أمام الأزلي الذي كان قد أشرك في مخطّط الخلاص الشامل تاريخ البشر كلّه، “ابنة صهيون” هذه الخفيّة (صوفانيا 3: 14؛ زخريا 2: 14). فنحن المسيحيين، إذن، محقّون في رغبتنا في أن نبرز وجود أمّ المسيح الفريد في التاريخ، لا سيما في هذه السنين الأخيرة من الألف الثاني، يقيناً منَّا أن المخطّط الربّاني الذي وضعه الثالوث الأقدس هو محور الوحي والإيمان.
4- وإن المجمع الفاتيكاني الثاني يعدّنا لذلك إذ يطرح في تعليمه موضوع والدة الإله، في “سرّ المسيح والكنيسة”. وفي الواقع، إذا كان “لا يفهم سرّ الإنسان إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسِّد”، كما يؤكّد هذا المجمع نفسه (8)، فمن الطبيعي أن نطبّق هذا المبدأ بالذات على “فتاة الأجيال” الفريدة هذه، على “المرأة” التي لا مثيل لها، التي أضحت والدة المسيح. ففي سرّ المسيح وحده نكتشف سرّها في كلّيته. والكنيسة، منذ البدء سعت إلى اكتناهه في هذا الضوء: فسرّ التجسد أتاح لها أن تسبُرَ سرّ والدة الكلمة المتجسّد أكثر فأكثر وتنيره. وكان لمجمع أفسس (431) في هذا المجال أهمية حاسمة لأن حقيقة أمومة مريم الإلهية توطّدت فيه بشكل علني ورسمي بوصفها عقيدة إيمانيّة في الكنيسة، فكان ذلك مدعاة لفرح عظيم لدى المسيحيّين. إن مريم هي والدة الإله، لأنّها حبلت بالروح القدس في أحشائها البتولية وولدت يسوع المسيح ابن الله الواحد في الجوهر مع الآب (9). “إن ابن الله… المولود من العذراء مريم، أضحى حقاً واحداً منّا” (10)؛ لقد تأنّس. ففي سر المسيح يتألّق سرّ والدته في كلّيته في أفق إيمان الكنيسة. ومن جهة أخرى، فعقيدة أمومة مريم الإلهيّة كانت لمجمع أفسس، ولا تزال للكنيسة، وكأنّها ختم يؤكّد عقيدة التجسّد، التي تعلن أن الكلمة اتّخذ حقيقة، في وحدة شخصه، الطبيعة البشريّة بدون أن تضمحلّ حياله.
5- اعتلان مريم في سرّ المسيح هو أيضاً، في رؤية المجمع، وسيلة لتفهّم أكثر عمقاً لسرّ الكنيسة. وفي الواقع، أن مريم، بوصفها والدة المسيح، متّحدة بشكل خاص بالكنيسة “التي شاءها الرب جسداً له” (11). والنصّ المجمعي يقارب بشكل ملفت بين هذه الحقيقة، حقيقة الكنيسة بوصفها جسد المسيح (كما يعلّم الرسول بولس في رسائله)، وحقيقة “ولادة ابن الله بفعل الروح القدس من العذراء مريم”. إن واقع التجسّد يجد له امتداداً، في سرّ الكنيسة – جسد المسيح. ولا يمكن أن نفكّر في واقع التجسّد بالذات دون أن تتبادر إلى الذهن مريم والدة الكلمة المتجسّد.
مع ذلك، أريد أن أعرض في هذه التأمّلات خصوصاً “مسيرة الإيمان” التي “سلكتها العذراء الطوباوية، حافظة في أمانة اتحادها بالمسيح” (12). وبذلك تتّخذ هذه “الرابطة المزدوجة” التي تربط والدة الإله بالمسيح والكنيسة معنى تاريخياً. فلسنا هنا في وارد سرد تاريخ العذراء الأم، أي مسيرتها الشخصيّة بالإيمان، “والنصيب الأصلح” (لوقا 10: 42) الذي لها في تاريخ الخلاص، فحسب، بل أيضاً مسيرة شعب الله كله، أعني جميع الّذين يشتركون في مسيرة الإيمان الواحدة.
وهذا ما يعبّر عنه المجمع، في موضع آخر، إذ يشير إلى أن مريم “تحتلّ المرتبة الأولى “بصيرورتها” صورة الكنيسة… على صعيد الإيمان والرجاء والاتّحاد الكامل بالمسيح” (13). “ومرتبتها الأولى” هذه، كصورة أو مثال، تتعلّق بصميم سرّ الكنيسة نفسه التي تقوم برسالتها الخلاصيّة، تحقيقاً واكتمالاً، أو تجمع في ذاتها، على غرار مريم، صفات الأمومة والبتوليّة معاً. فهي بتول “لأنها أعطت عريسها إيمانها به، إيماناً تصونه كاملاً ونقيّاً”، وهي “تضحي بدورها أمّاً… إذ تلد إلى حياة جديدة وخالدة أبناء حبل بهم من الروح القدس وولدوا من الله” (14).
6- هذا كله يتمّ على مرّ تطور تاريخي وبشكل “مسيرة”. إن مسيرة الإيمان تعني التاريخ، أي تاريخ النفوس، إلا أنه في الوقت نفسه تاريخ البشر، الخاضعين لوضع عابر على هذه الأرض وقائمين في نطاق التاريخ. على أننا نسعى، في التأمّلات الآتية، إلى أن نتنبّه للمرحلة الراهنة. فهي ليست بعد في ذاتها من التاريخ، ومع ذلك، فهي لا تني تكيّف التاريخ لا سيَّما بمعنى تاريخ الخلاص. وإنه لينبسط أمامنا مجال وسيع جدّاً، حيث لا تزال العذراء الطوباوية تحتلّ “المرتبة الأولى” في شعب الله. إن مسيرتها الفريدة على دروب الإيمان تشكّل مرجعاً دائماً للكنيسة، أفراداً وجماعة، وللشعوب والأمم، وعلى نوع ما للبشريّة جمعاء. وفي الواقع، إنه ليتعذّر علينا أن نلمّ بإشراقه ونقدّره.
ويشير المجمع إلى أن والدة الإله هي منذ الآن اكتمال الكنيسة في يومها الأخير: “فالكنيسة تبلغ، في شخص العذراء الطوباويّة، منذ الآن الكمال الذي يبرزها “لا كلف فيها ولا غضن” (أفسس 5: 27). كما يشير في الوقت نفسه، إلى أنّ المؤمنين “لا يزالون مشدودي الجهد للنموّ في القداسة بالانتصار على الخطيئة؛ وهذا ما يحدوهم إلى رفع الالحاظ صوب مريم كمثال للفضائل يشرق في مجتمع المختارين كله” (15). ومسيرة الإيمان ليست الآن مسيرة والدة ابن الله: فقد تمجّدت مريم في السماوات إلى جانب ابنها، واجتازت العتبة التي تفصل بين الإيمان والرؤية “وجهاً إلى وجه” (1 كورنتس 13: 12). مع ذلك، لا تزال مريم، في الوقت نفسه، وقد اكتمل فيها اليوم الأخير، “نجمة البحر” (16) لجميع الذين لا يزالون على دروب الإيمان. فإذا رفعوا أنظارهم إليها، حيثما وجدوا على الأرض، إنّما يفعلون ذلك “لأنّها ولدت الابن الذي أقامه الله بكراً ما بين إخوة كثيرين” (روما 8: 29) (17). وأيضاً لأنها “تسهم، وهي الأم الحانية في ولادة هؤلاء الأخوة والأخوات وتنشئهم” (18).
تابع القراءة بتحميل الملف