لماذا اختار الله مريم العذراء؟
مباركة بين النساء
مباركة بين النساء
مواضيع مريمية
الشماس نبيل حليم يعقوب
للجميع
يقول البعض ان مريم هي امرأة عادية اختيرت لغرض عظيم، وأنه إن كان يستلزم اختيار امرأة ليتجسد فيها الله الكلمة وأنه ما حدث هو فقط اختيار لمريم، فما هو الغريب والعجيب في ذلك؟
إن تجسد كلمة الله كان يمكن أن يحدث في أي زمان عبر القرون منذ زمن حواء وحتى يومنا هذا، وأيضاً كان يُمكن أن يحدث في أي مكان من العالم، وكان يُمكن أيضاً أن يكون من نسل أي امرأة بخلاف مريم العذراء سواء قبل الوقت أو بعد الوقت الذي كانت فيه عذراء الناصرة (لوقا26:1-27). فلماذا ظهر الله فقط في هذا الوقت أو كما ورد “فلما بلغ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس” (غلاطية4:4) ولماذا اختيرت مريم لتكون هذه المرأة التي يولد منها ابن الله؟، وما الذي تتصف به عذراء الناصرة من الصفات أو الفضائل التي تجعلها أن تُصبح “أم الله” (لوقا43:1)؟
إن اختيار الله للإنسان ليقوم بدور ما يعتمد على ما يراه الله من صلاحية هذا الإنسان للقيام بدوره وهكذا قال السيد الـمسيح عن شاول الطرسوسي “إن هذا لي إناءُ مختار ليحمل اسمي أمام الأمم والملوك وبني إسرائيل” (أع 15:9). وأيضاً عندما اختار الله أول ملك على شعبه وكان شاول بن قيس فيذكر عنه الكتاب المقدس أنه “مُنتقى حسنُ لم يكن في بني اسرائيل رجل أحسن منه”(1ملوك 2:9). والقديس توما الأكويني يقول: “عندما الله يختار بنفسه خليقة من خلائقه لمهمّة خاصة، إنه يهيئها مُسبقاً للقيام على أكمل وجه بالخدمة التي يقّدرها له”، وعلى هذا النحو كانت العذراء مريم قد مُنحت ما تقتضيه رسالة التجسد السري من نِعم ملائمة ليسند الله إليها دوراً كبيراً ومهماً في التجسد والفداء والخلاص.
لا يوجد سبب معين أو وحيد جعل الله يختار مريم عذراء الناصرة، وما يلي بعض من تلك الأسباب:
طبقاً للناموس اليهودي فإن “كل بِكر كل فاتح رَحم من بني إسرائيل” فهو مُقدس للرب (خروج2:13) ويجب تقديمه لهيكل الرب. وحسب رواية إنجيل يعقوب الغير قانوني (Protoevangelium of James) فلقد جاء أن يواكيم وحِنّة والدا القديسة مريم قد قررا الوفاء بنذرهما بتقديم طفلتهما للرب فقدما ابنتهما مريم للهيكل عندما كان عمرها ثلاث سنوات (وفي بعض الأقوال عندما كان عمرها سنتان وسبعة شهور وسبعة أيام). وتقدمة مريم للهيكل لم يكن أمراً مفروضاً في الشريعة، فالشريعة ما كانت تلزم إلاّ بتقدمة الصبي بكر عائلته ولكن والدا مريم قدماها للرب وكرساها لخدمة الهيكل منذ ميلادها. والرأي العام عند مؤرخي حياة العذراء مريم هو أنها مكثت سني صباها حتى سن الرابعة عشر عاماً حيث سكنت مع رفيقاتها المكرّسات مثلها في إحدى الأبنية المتصلة بهيكل سليمان، وهي مثل دار للفتيات يربين فيه وفيها يعشن في نظام مشترك مشابه لنظام الرهبنات الحالي. وكانت الفتيات تتعلم في الهيكل الصلاة والمزامير والأناشيد مع التأمل وتدرس التوراة وتاريخ بني اسرائيل والشرائع والعادات والنبوءات التي تعلن عن مجيء المسيّا. ثم يأتي بعد ذلك الأعمال اليدوية العادية من تطريز لثياب الكهنة وإعداد العطور والغزل والنسج. وكانت مريم العذراء تفعل كل ذلك في صمت ومناجاة مع الله في تواضع، وتصنع الخير وتحبّ الفضيلة وفي طاعة كاملة، وبالطبع كانت ترى كل يوم الذبائح التي تقدم في الفجر وعند غروب الشمس. وكان كل اليهود يحضرون هذه التقدمة، وكانت تحضر في أيام الأعياد مثل أعياد الفصح والمظال، وفي المساء كانت تجتمع الفتيات للصلاة. ويذكر بعض الكتّاب عن معجزات كانت تقوم بها مريم العذراء، وأنه كانت تأتيها مأكولات مخصوصة من السماء، أو أنها كانت تحادث الملائكة، وكل هذه الروايات لا يمكن قبولها أو رفضها لأنه لم يذكر لنا شيئاً مؤكداً. لكن ما يجب أن نعلمه أن مريم كانت متعبدة لله الذي نذرت له كل نفسها وقلبها وجسدها، واستمر عمل النعمة فيها طيلة حياتها حتى إن ملاكاً من السماء حياها فيما بعد قائلاً: “يا ممتلئة نعمة”.
فمنذ الوعد بالخلاص كما جاء في سفر التكوين: “سأجعل عداوة بينكِ (الحيّة) وبين المرأة وبين نسلِك ونسلها، هو يسحق رأسِك وأنتِ ترصدين عقِبه”(تكوين15:3)، هذه النبوءة التي قيلت بفم الله، فاختار الله من كل البشرية عائلة سام، ومن كل عائلة سام اختار الله ليكون من بذرة إبراهيم (تكوين1:12-3)، ومن كل عائلة ابراهيم اختار يعقوب اسرائيل (تكوين 3:26و4)، ومن كل عائلة اسرائيل اختار سبط يهوذا (تكوين9:49و10 وعبرانيين 14:7)،ومن كل عائلة يهوذا يختار داود(1 اخبار الأيام 12:17-14)،ومن جميع عائلة داود تتركز نبوءات المسيا على اثنين هما سليمان الحكيم ومنه جاء يوسف خطيب مريم العذراء وهو الأب الإسمي ليسوع المسيح (متى6:1و16) وناثان ومنه جاءت العذراء مريم الأم الحقيقية ليسوع (لوقا31:3).
من أجل هذا لم يشأ المخلّص أن يأتي من سبط لاوي الذي كان سِبط الكهنوت لأنه لم يأتي كاهناً على غرار كهنوت لاوي، فجاء من سِبط لم يلازم أحد منهم المذبح ولم يتكلم عن هذا السِبط (يهوذا) شيئاً من جهة الكهنوت (عبرانيين 13:7-14)، “وأما هذا فلكونه يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول”(عبرانيين24:7).
وسِبط يهوذا هو سِبط المُلك الذي قال عنه يعقوب “لا يزول قضيب من يهوذا ولا مشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الأمم”(تكوين11:49). ومن سِبط يهوذا هذا خرج بوعز ويسّى وداود (راعوث 13:4-21)، ومن داود خرج المسيح (متى1:1-16).
إن المسيح، كلمة الله، هـو هـو أمس واليوم وإلى الأبد. لقد كلّم الرب الآباء في القديم وكلّم الأنبياء عن المسيح المخلّص، ويمتلئ العهد القديم بالرموز عن العذراء الأم المختارة لتكون أم المسيح الفادي. ويلّخص لنا القديس يوحنا الدمشقي هذه الرموز في عظة ألقاها “لقد أصبحتِ يا مريم جنة عدن الروحية أقدس وأرفع من القديمة، ففي الأولى كان يسكن آدم الأرضي أما فيكِ فيحلّ الرب الآتي من السماء. لقد مثلتكِ سفينة نوح التي أنقذت الخليقة الثانية لأنكِ ولدتِ المسيح خلاص العالم الذي غّرق الخطيئة وسكن أمواجها. أنتِ التي رمزت إليكِ وصورتكِ العليقة ورسمتكِ الألواح التي خطتها يد الله وأخبر عنكِ تابوت العهد ومثلتكِ مجمرة الذهب والمنارة ولوحا العهد وعصا هارون التي أفرخت (عبرانيين 4:9 وعدد 7و23)، وُلد منكِ من هو شعلة الألوهية المن السماوي العذب، الاسم الذي يسمو على كل اسم، النور الأزلي الذي لا يداني، خبز الحياة النازل من السماء. ألستِ أنتِ التي سبق ودل عليكِ الأتون الذي امتزجت ناره بالندى (دانيال 49:3-50) “ها أنا أنظر أربعة رجال يتمشون وسط النار وما بهم ضرر ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة”، رمز النار الإلهية التي جاءت فحلّت فيكِ. أكاد أغفل عن سلم يعقوب، ماذا؟ ألا يتضح لكل أحد أنه كان صورة عنكِ؟، فكما أن يعقوب رأى السماء متصلة بالأرض بطرفي السلم وعليه ينزل الملائكة ويصعدون وقد اشتبك معه في صراع رمزي القوي الذي لا يغلب هكذا أصبحتِ أنتِ الوسيطة والسلم الذي نزل عليها الله نحونا وحمل ضعف طبيعتنا وامتزج بها وجعل من الإنسان روحاً يرى الله. وما قولي في آيات الأنبياء ألا يجب أن تعود اليكِ إذا شئنا أن نثبت صحتها؟
من هي العذراء التي قال عنها أشعيا أنها تحبل وتلد ابناً يدعى الله معنا، أي أنه يظل إلها ولو صار إنساناً؟ من هو جبل دانيال الذي قطع منه بغير يد بشرية حجر الزاوية التي هي المسيح؟ أليس أنتِ التي حبلت بلا زواج ومازلت دائماً عذراء؟ من هي تلك التي تكلّم عنها داود والتي جُعلت عن يمين الملك بذهب أوفير؟”.
عندما نقول عن مريم أنها مختارة من الله منذ الأزل، فماذا نعني بهذا الاختيار؟
جاء في إنجيل متى عن الاختيار ما يلي: “هكذا يكون الأخرون أولون والأولون آخرين لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون”(متى 16:20)، وكذلك نجد في إنجيل يوحنا هذه الآية “لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الأب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يوحنا44:9).
إن هذا الاختيار هو شخصي من الله. وبحسب قصد الله.
“كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة” (أفسس 4:1)، “ولكي يبين غِنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدّها للمجد” (رومية23:9).
ابراهيم واسحق وموسى كان اختيارهم من الله والكثيرين غيرهم. ويذكر الكتاب بعض النسوة اللواتي نلن حظوة في عيني الله والناس مثل سارة التي ولدت ابنها اسحق بطريقة عجيبة، ورفقة زوجة اسحق التي تم اختيارها من الله، وراحيل التي أحبها يعقوب والتي أعطاها الله ابن الموعد يوسف بعد أن ظلّت عاقراً، ويهوديت مخلّصة شعب الله، وأستير الملكة ولكن أين هؤلاء من مريم العذراء، إنما هن إلا رموزاً عن عظمة مريم التي فاقت جميع الناس والملائكة مجداً وعظمة.
عندما وقف الملاك ليحي القديسة مريم قائلا لها “السلام عليك يا ممتلئة نعمة” (لوقا 28:1) والملاك يحييها هذه التحية قبل أن يحل عليها الروح القدس وقبل أن يتجسد الكلمة في أحشائها الطاهرة، فمتى بدأت تحظى بهذا الامتلاء؟
أن مريم مختارة منذ الأزل لتكون أما لابن العلي ولذا منذ أول لحظة من وجودها ملأها الثالوث الأقدس بالنعمة المقدسة وكما قال لها الملاك “إنكِ قد نلتِ نِعمة عند الله”(لوقا30:1).
قال القديس غريغوريوس العجائبي ” ان الله قد جعل فيها كل كنوز النعمة فهي السفينة التي حملت جميع كنوز القداسة”. والكنيسة ترتل “الغير الزمني أيتها العذراء اختارك من قبل الزمان لتكون له كرسيّا” والله لا يجلس إلا على كرسي الملوكية الذي كله قداسة ونعمة. “قولوا لابنة صهيون هوذا مخلّصك آت ها أجرته معه وجزاؤه أمامه ويسمونهم شعباً مقدساً مفديي الرب وأنتِ تُسّمين المطّوبة غير المهجورة” (أشعيا11:62-12).
ويقول القديس أفرام السرياني: “راحيل صرخت برجلها قائلة أعطني بني، هنيئاً لمريم وقد حللت في حشاها بقداسة على غير مطلبة منها، يا للموهبة التي ألقت بنفسها على آخذيها. حنة طلبت ولداً بدموع حارة، وسارة ورفقة بنذور، ووعود أليصابات بالصلاة وبعد أن طال عذابهن تعزين “.
إنها ابنة صهيون مسكن الله، الابنة المختارة، مريم الملكة والأم.