فضائل مريم العذراء
أمّ النِعمة
أمّ النِعمة
مواضيع مريمية
الشماس نبيل حليم يعقوب
للجميع
يوماً ما صرخت امرأة في إحدى عِظات يسوع في الناصرة “طوبى للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما. أما هو فقال بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه” (لوقـا 27:11-28).
فهل استحقت مريم التطويب لأنها أم يسوع وكفى؟،أم لإنها سمعت كلام الله وحفظته متفكرة فيه في قلبها وعملت به (لوقا51:2).
وإذا ما تأملنا في حياة القديسة مريم العذراء سنتعرف لِمَ استحقت التطويب وتكريم البشرية لها طوال الأجيال فسوف نرى مريم في إيمانها وتقبّل كلمة الله بطاعة، وفي محبتها المبادرة وخدمة الآخرين، وفي رجاءها، وحكمتها المتفكرة، وفي تقواها نحو الله وتفانيها في إنجاز الواجبات الدينية، وفي حياة الشكر التي عاشتها من أجل المواهب المأخوذة، وفي حياة الصلاة الدائمة، وفي وداعتها، وفي قوة صبرها في المنفى والألم، وفي حياة الفقر التي عاشتها بكل كرامة وثقة في الله، وفى طهارتها المتبتلة، وفي حياتها كربّة بيت، وفي أمانتها الكاملة، وفي تواضعها العظيم، وفي صمتها المملوء حكمة، وفي حياة السلام والفرح الدائم.
إيمان مريم والذي لم تطلب علامة عن صِدق قول الملاك جبرائيل عندما أخبرها بالميلاد العجيب بل أتت لها العلامة من أن العاقر ستلد. عاشت مريم مع يسوع الطفل وكأي طفل عادي أرضعته وكان محتاجاً لها لتغذيته، فلو كان يسوع يعلن لها عن طبيعته الإلهية باستمرار لما كان لمريم في احتياج لحياة الإيمان وما كانت تتعجب من إجابة ابنها وهو في الثانية عشر ” لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي” (لوقا 49:2) أو عند عرس قانا الجليل ” مالي ولكِ يا امرأة لم تأت ساعتي بعد” (يوحنا 2:4).
أحداث البشارة والميلاد والرعاة والمجوس وفي الهيكل والهروب إلى مصر ثم الحياة في الناصرة ثم على الصليب لم تنكره بل وقفت بجانبه بشجاعة وثبات ثم أخيراً نجدها مع التلاميذ في العُليّة بعد الصعود مباشرة مواظبة على الصلاة والطلبة بنفس واحدة مع التلاميذ. كل تلك الأحداث التي تعكس إيمان مريم برسالة ابنها وأثبتت أنها حفظت الكلمة وأطاعت الوصية وأكملت مشيئة الله بدقة ومواظبة حتى النهاية.
إيمان مريم كان بلا فلسفة ولا طلب علامات أو آيات. لم تفكر في العار الذي يلحقها بهذا الحبل. فاقت بإيمانها قائد المئة واللص اليمين والمرأة النازفة، لهذا قالت “قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنا5:2). آمنت مريم برسالة السماء ولم تقل إنها مازالت صغيرة حتى تتبع الله كما فعل أرميا في القديم ذات يوم ” فقلت آه أيها السيد الرب هاأنذا لا أعرف أن أتكلم لأني صبي” (أرميا 6:1). وعن إيمان مريم يقول القديس أوغسطينوس (مريم صارت مطّوبة بسبب تقبلها الإيمان بالمسيح أكثر من تقبلها الحمل به وتقربها للمسيح بالجسد كأم كان بلا ربح لو لم تحمل المسيح في قلبها).
المحبة في حياة مريم العذراء فقد انعكس إلى سلوك عملي فنقرأ بدءاً من بشارة الملاك لها واستجابتها لدعوة الله لها بحب “فقالت مريم ها أنا آمة الرب”(لوقا38:1)، ثم نقرأ: “فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت مسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلّمت على أليصابات” (لوقا39:1). محبة مريم محبة عاملة، قوية، سخية، كاملة عملاً بقول السيد المسيح: “هذه وصيتي أن يحب بعضكم بعضا كما انا أحببتكم”. وها هي مريم تحمل الكلمة وتأتي إلى بيت العاقر لتخدم وليبارَك يوحنا وهو في بطن أمه أليصابات. وسمعت مريم مديح أليصابات ولم تفتخر بل أجابت بأنشودة التعظيم والتي تعكس الفكر اللاهوتي عند مريم العذراء.
وفى عرس قانا الجليل عرفت حاجة العرس وأسرعت بطلب معونة ابنها الإلهي والذي صنع أولى عجائبه الزمنية عند طلبها. لقد أحبت العذراء مريم الله وعاشت مكرسة له في الهيكل منذ طفولتها وسط تسابيح ومزامير وصلوات وذبائح وبخور، وأحبت الله عندما أطاعت دعوتها أن تغادر الهيكل لتُخطب للقديس يوسف النجار، وظلّت على حبها لله بأن جعلت بيتها هيكلاً آخر، وجاءت لها البشرى فعبّرت عن حبها لله بأن قبلت في تواضع أن تكون أم الكلمة المتجسدة وواظبت على تطبيق وصايا الناموس والشرائع الإلهية بكل أمانة وسلكت في المحبة حتى نهاية رسالة ابنها الإلهي عند الصليب وحتى ما بعد القيامة. وبعد انتقالها بالنفس والجسد للسماء لم تفقد محبتها للكنيسة ولا لأبنائها فكانت لظهوراتها تشجيعاً للجميع لكي يحبوا الله من كل القلب. لقد أحبت مريم العذراء الله إلى المنتهى وكان لها الرجاء والصبر والصدق والتفاني والتواضع والمعرفة والإيمان وعدم التفاخر وعاشت المحبة فيها ليست فقط تسعة أشهر بل عمرها كله فتحركت وعاشت في ملء المحبة وكانت حياتها نموذجاً حيّاً للإنسان المُحب لله، فاستحقت أن ندعوها “أم المحبة الإلهية”(يشوع بن سيراخ24:24).
الرجاء في حياة القديسة مريم العذراء سوف نراه في محبتها لله وثقتها العظمى في قدرته تعالى كقول المرّنم: “فأنك أنت رجائي أيها السيد الرب أنت متكلي منذ صبائي” (مزمور5:70)، والتي انعكست في تسبحتها: “لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى أجيال وأجيال للذين يتقونه” (لوقا49:1-50)، وفى تسليمها لمشيئة الله “ها أنا آمة الرب فليكن لي بحسب قولك” (لوقا38:1)، وفي فرحها الدائم بعظائم القدير فهتفت قائلة: “تعظم نفسي الرب” (لوقا46:1)، وفي حياتها وخدمتها حتى موت ابنها على صليب العار ولم تيأس ويضعف رجاءها بل كان رجاءها ثابت في أن ابنها يسوع هو “القدوس” و “ابن الله”(لوقا35:1) وانه هو “الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (متى21:1) وأنه “لا يكون لملكه انقضاء” (لوقا33:1)، فعاشت فرح القيامة كما “فرح التلاميذ حين أبصروا الرب” (يوحنا20:20)، وظلّ رجاءها ثابت وواظبت على الصلاة مع التلاميذ في العليّة بعد صعود ابنهـا إلى السماء (أعمال14:1)، و حتى موتها وانتقال جسدها ونفسها للسماء.
مريم أم يسوع قد امتلأت من الروح القدس: “إن الروح القدس يحلّ عليكِ وقوة العليّ تظللكِ” (لوقا35:1)، فكانت في كل أدوار حياتها في غاية الحِكمة بل كانت مثال الحِكمة ولهذا فيمكنها بمثال حياتها أن تكون نموذجاً للمشورة والحِكمة الصالحة والتي تقود الإنسان للخلاص والحياة مع الله “فابتغاء الحكمة يُبلغ إلى الملكوت” (حكمة21:6). ولقد جاء عنها: “لما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية” (لوقا29:1)، “وقالت للملاك كيف يكون هذا وانا لست أعرف رجلاً” (لوقا34:1)، “وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها” (لوقا19:2). بادرت مريم بالاستفهام وبدا ينضج إيمانها بالاستنارة “قوة العلي تظلك” وتحقق ذلك بطاعتها وتسليمها “لأن الرب يعطي حكمة ومن فمه المعرفة والفهم” (أمثال1:2) ومريم امتلأت من نعمة الله فأعطاها الحكمة والفهم والمعرفة والعدل والقوة (حكمة7:8).
والعذراء مريم امتازت بعبادتها لله الكاملة بإيمانها ورجاءها وطهارتها وكانت كل أفكارها ونياتها وحواسها كلها متجهة نحو الله. لقد أتممت رسالتها على الأرض مشابهة في ذلك ابنها الإلهي القائل لأبيه السماوي: “أنا قد مجّدتك على الأرض وأتممت العمل الذي أعطيتني لأعمله” (يوحنا4:17). لقد أضافت لها الكنيسة لقب “يا إناء العبادة أو التقوى الجليلة أو السامية” لأن مريم العذراء تعطي صورة صادقة وصحيحة للعبادة الحقّة لله.
وعن حياة التقوى عند مريم العذراء نجد حرصها على تنفيذ وصايا الله: “لما تمت ثمانية أيام ليختتنوا الصبي سُمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن” (لوقا21:2)، “ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب” (لوقا22:2)، “وكان أبواه يذهبان في كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح”.
لقد أعطت مريم نمـوذجاً للاعتراف بسلطة الكنيسة وتعاليمها ووصاياها وتقديم أبنائنا لله. السير مسافات لتنفيذ الواجبات الدينية. تقديم كل ما نملك للرب حتى أعز ما نملك وهم أولادنا.
العذراء مريم الوديعـة هي أكثر من عرفت المسيح الوديع والمتواضع القلب: “تعلّموا منّي أنّي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم” (متى29:11).
فمريم هي أم الوديع والمتواضع القلب ولذا كانت متزينة “زينة إنسان القلب المُستتر أي زكاء الروح الوديع الساكن الذي هو كثير الثمن أمام الله” (1بطرس4:3) وتحلّت بثمر الروح “الوداعة” (غلاطية23:5) ولو لم تكن مريم وديعة لما تجسّد فيها الله الكلمة ولما رأى إنها المختارة “قد نلتِ نعمة عند الله” (لوقا30:1)، وولدت يسوع “الوديع”.
الصبـر والاحتمال في حياة مريم العذراء فسوف نجد أنه قد تنبأ سمعان الشيخ عن سيف الأوجاع والألم الذي سيجوز في نفس مريم فقال لها: “وأنت أيضاً سيجوز في نفسكِ سيف لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة” (لوقا35:1). ومريم تحملت سيف التغرب (هروبها بالطفل إلى أرض مصر وحياتها في مدينة الناصرة)، وتحملت سيف الازدراء، وسيف الهروب، وسيف اليتم، وسيف الترمل، وسيف فقد وحيدها على الصليب فصدقت فيهـا نبوءة إرميا النبي القائلة: “ماذا أُشبّه بكِ يا بنت أورشليم ماذا أساوي بك فأُعزّيكِ أيتها العذراء بنت صهيون” (مراثي ارميا 13:2) ومع هذا ظلّت مواظبة على الصلاة والإيمان والمحبة والرجاء. ومشكلة الألم في حياة مريم وحياة البشـر عـموماً هـو من الأمور التي تستحق التأمل.
أطاعت مريم إرادة السماء عندما بشرّها الملاك “بأن القدوس المولود منها يُدعى ابن الله” فأجابت على الفور “هاأنذا آمة الرب”. وأيضاً قبولها الترحال مع يوسف وهي حبلى بيسوع إلى بيت لحم اليهودية وخضوعها للرحيل إلى مصر أو الحياة في مدينة الناصرة طاعة للقديس يوسف كما أمره ملاك الرب (متى13:2و19).
ولم تخضع مريم للسماء ولزوجها فقط، بل كانت خاضعة أيضاً لابنها فأطاعته وعاشت بعيدة في فترة رسالته العلنية، وعند الصليب ذهبت مع يوحنا الحبيب إلى بيته حسب أمر ابنها وأيضاً بعد القيامة ذهبت إلى الجليل مع باقي الرسل حسب طلب يسوع (متى 16:28) وبقيت مع الرسل في أورشليم عند حلول الروح القدس في الخماسين (أعمال 14:1).
مريم العذراء في تسبحتها الرائعة هتفت قائلة:” فقالت مريم تعظم نفسي الرب” (لوقا46:1) وهنا تعترف مريم وترجع كل شيء للرب القدير والقدوس.
نجد أن القديسة مريم العذراء كانت واثقة ومواظبة ومتواضعة. وأيضاً عندما هتفت مريم بأنشودة التعظيم فهذا دليل على أن نفسها كانت متشبعة بترانيم وتسابيح وكلمات الله.
وعن التجرّد وحياة الكفاف عند القديسة مريم العذراء فنقرأ أن مريم ويوسف قد قدما في الهيكل “ذبيحة كما قيل في ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام” (لوقا34:2)، وهي تقدمة الفقراء.
إن الله لا يحتاج إلى فضة وذهب بل يحتاج إلى النفوس وإلى قلوب حية ولنا في مثل فلس الأرملة وكلام يسوع عن طيور السماء وزنابق الحقل دليلاً على أن الله ينظر إلى القلوب المحبة وليس لعطايانا التي تعطى للمباهاة والافتخار.
مريم المكتفية في الرب، كقول المرنم “الرب راعي فلا يعوزني شيء” (مزمور22).
نقرأ سليمان في أمثاله ” شيئين سألتك فلا تمنعينهما قبل أن أموت أبعد عني الباطل وكلام الكذب، لا تجعل حظي الفاقة ولا الغنى بل أرزقني من الطعام ما يكفيني لئلا أشبع فأجحد وأقول مَن الرب أو أفتقر فأسرق وأتخذ اسم إلهي بالباطل” (أمثال 7:30-9). وأيضاً ” لقمة يابسة معها طمأنينة خير من بيت مملوء ذبائح ومعها خصام” (أمثال 1:17). ومريم في تسبحتها تقول: “رفع المتواضعين وأشبع الجياع خيراً”
(لو 51:1-53) فها هي تعلن فرحتها واتضاعها وأن الخير الذي لها هو من الله. والتسبيح دليل أيضاً للسرور والقناعة كما جاء في رسالة يعقوب “أمسرور أحد فليرتل” (يعقوب 13:5).
مريم وحياتها القانعة من الوجهة المادية، فرجلها يوسف نجار مكتفي بما أعطاه له الله. لم تطلب مريم من رجلها مسكن لائق بأم المسيح، ولم تطلب من رجلها أشياء لا يقدر عليها فكما جاء “المرأة الصالحة نصيب صالح تُمنح حظاً لمن يتقي الرب فيكون قلبه جذلاً ووجهه بهجاً كل حين غنياً كان أم فقيراً” (يشوع بن سيراخ3:26-4).
ومريم العذراء حائزة على كل هذه الصِفات من نقاوة القلب والفكر والإرادة، فنقرأ أن الله أرسل ملاكه جبرائيل إلى عذراء من الناصرة مخطوبة لرجل وعلى الرغم من أن العذراء كانت مخطوبة الى أنها تساءلت “كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً” لأن مريم كانت قد نذرت نفسها بتولا وكرست ذاتها بكليتها للرب. ان بتوليتها وقداستها نتيجة امتلائها بالنعمة “يا ممتلئة نعمة” ولهذا فتلقب مريم “بالعذراء القديسة” او بـ “العذراء كل حين”، أو بـ “العذراء مريم”.
مريم كانت أمينة في خدمتها بالهيكل وخدمة المسيح طفلاً وشاباً ورجلاً وحفظ الشريعة والأمانة في تربية الأبناء، والأمانة في العمل والوقت والخدمة.
كانت مريم متفانية في إنجاز الواجبات الدينية “لما تمت ثمانية أيام ليختتنوا الصبي سُمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن” (لو21:2)، “ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب” (لو22:2)، “وكان أبواه يذهبان في كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح”. فأعطت مريم بذلك نمـوذجاً للاعتراف بسلطة الكنيسة وتعاليمها ووصاياها وتقديم أبنائنا لله.
كانت مريم في كل حياتها خاضعة لإرادة الله، وفي تسليم كامل لله بحيث كانت كل أفعالها وتصرفاتها وأفكارها وأقوالها مطابقة لمشيئة الله لأنها كانت “أَمة للرب” (لوقـا38:1)، ووصيتها الوحيدة المدونة كانت “مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنـا5:2). فالإنسان الأمين لله يسّلم مشيئته للرب فلا يكتئب ولا ينفعل بل يتقبّل كل الأمور برضى وشكر وذلك لأنه “منه وبه وله كل الأشياء” (رومية36:11).
ومريم العذراء وسط النعم هتفت بالشكر “تعظم نفسي الرب” معلنة أن كل النعم هي من الرب “لأنه صنع بي عظائم” وتعلن “هوذا أنا آمة للرب”، ورغم سماعها مديح أليصابات “كيف تأتي أم ربي إلي” لكنها صرخت “لأنه نظر الى تواضع آمته” (لوقا 48:1). إن مريم العذراء “قالت هاأنذا آمة الرب”.. فلم تفكر كيف ستنفذ أمر الرب. أو كيف سيستخدمها الرب. فقدمت ذاتها بكليتها طائعة.
بعد أن أخبر الملاك مريم بالسر الإلهي والحبل بمخلّص العالم.. يقول لنا الكتاب أنها أسرعت إلى بيت أليصابات وهناك سمعت مديحاً وتطويباً على لسان أليصابات بعد أن امتلأت من الروح القدس (لو 42:1-45). كان يمكنها أن تتفاخر. ملاك يُبشر ولسان يهتف وجنين يركض بابتهاج! كان بإمكانها أن تعلن هذه البشرى للعالم أجمع والذي كان في شوق وانتظار للمسيا. كان بإمكانها أن تصيح (تعالوا وانظروا. هاتوا تقدماتكم وبخوركم فأنا أم المسيّا…!!). ولكنها أعلنت اتضاعها العجيب ” تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع آمته” (لو 48:1).
وأعطتنا القديسة مريم العذراء مثالاً صالحاً في حياة الصمت: “أما مريم فكانت تحفظ جميع هذه الأمور متفكرة به في قلبهـا” (لوقا19:2)، فهي لم تكن تحفظ الكلام فقط بل كانت تتفكر به في قلبها. لقد رأت مريم العذراء أموراً عجيبة في حياتها كبشارة الملاك جبرائيل وتسبحة أليصابات لها وارتكاض الجنين في أحشائها، ورأت زكريا الكاهن الذي صار صامتاً، وتحية الرعاة وزيارة المجوس ونبوءة سمعان الشيخ في الهيكل وجلوس الطفل يسوع بين المعلمين، وغيرها من الأحداث ولكنها كانت صامتة “متأملة في قلبها”. صمتت أمام يوسف النجار وقت أن ساوره الشك ولم تدافع عن نفسها، وصمتت أمام أحداث الهروب وشكوك أهل الناصرة، وتحت الصليب، ولكنها تكلمت وأخبرت الرسل بما لم يُخبروا عنه فكتبوا الأناجيل في ضوء ما تكلمت به إليهم. وبمراجعة الأناجيل نجد أنها لم تسجل إلاّ القليل من كلمات مريم العذراء، فمثلاً في حديثها مع الملاك قالت عبارتين:
وعند فقد يسوع في الهيكل قالت له:
وفى عرس قانا الجليل قالت عبارتين:
وحينما أرادت أن تتكلم نطقت بتسبحتها المعروفة مسبحة الله على قدرته ورحمته ووداعته وقدسيته (لوقا46:1-55). فالصمت يساعدنا على الصلاة وعلى سماع صوت الله داخلنا ويحفظنا من زلاّت اللسان ويساعدنا على الاحتفاظ بالحرارة الروحية الداخلية. فلنتعلم فضيلة السكوت أو الصمت فنستطيع أن نُلجم الجسد كله (يعقوب3).
لقد استجابت مريم العذراء للعديد من الصلوات من أجل ان يحل السلام على الأرض وخاصة بعد الحرب العالـمية الأولى ولهذا أُطلق عليها “ملكة السلام”. ومريم كملكة تعطي العالم حضوراً لعدل ومحبة ورحمة السيد الـمسيح. مريم أعطت العالـم “رئيس السلام”(اش 6:9) الذي سبّحت له الملائكة “وعلى الأرض السلام” (لو14:2). ومريم الطاهـرة والممتلئة نِعمة تعطي مكرميها السلام الداخلي الذي تزينت به، وتشترك معهم في الصلاة لابنها يسوع معطي السلام “سلامي أعطيكم سلامي أترك لكم” (يوحنا27:14).
لقد أتى الفرح في حياة مريم العذراء بتجسد المسيح في أحشائها فها هو يوحنا المعمدان “يرتكض بفرح” (لوقا44:1) في أحشاء أليصابات ورنّمت مريم. وبعدها هتفت الملائكة بميلاد يسوع ابن مريم “هاأنذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب” (لوقا10:2-11). بمريم العذراء تحققت نبوءات الفرح التي وعد بها الله في القديم ابنـة صهيون: “ترّنمي يا ابنة صهيون. افرحي وتهللّي بكل قلبك يا ابنة أورشليم” (صفنيا14:3)، “ابتهجي جداً يا بنت صهيون واهتفي يا بنت أورشليم” (زكريا9:9)، و”استيقظي استيقظي البسي عزّك يا صهيون البسي فخرك يا أورشليم” (اشعيا1:54). فرح البشارة وفرح الزيارة وفرح الميلاد وفرح القيامة مع التلاميذ (لوقا41:24و52).
منذ القرن الثاني عشر مع بدء انتشار تلاوة صلوات المسبحة الوردية يتم التأمل في خمسة أسرار الفرح وعادة يتم تلاوتها يومي الإثنين والسبت وهي تأمل في طفولة السيد المسيح كما جاءت في إنجيلي متى ولوقا، وسُميّت بأسرار الفرح بسبب الفرح الذي أعطته للعالم أجمع. فالملاك جبرائيل والقديسة مريم العذراء كانا في شدة الفرح بالحدث العظيم للتجسد، والقديسة أليصابات والقديس يوحنا المعمدان امتلأ من الفرح عند زيارة القديسة مريم ويسوع بعد بشارة الملاك، والسماء فرحت لميلاد المخلّص، وسمعان الشيخ امتلأ بالتعزية، والفرح عندما أخذ الطفل يسوع بين يديه، ولا أحد يمكن أن يخفي فرحة يوسف ومريم عندما وجدا يسوع بالهيكل بعد ثلاثة أيام من البحث عنه.
ونشأت بعد ذلك صلوات أخرى يتم التأمل فيها في سبعة أحداث كالبشارة، زيارة أليصابات، ميلاد يسوع، زيارة المجوس، وجود الطفل يسوع في الهيكل، القيامة، ثم صعودها بالنفس والجسد للسماء. وازداد عدد تلك الأحداث في إكرام آخر حتى وصل إلى اثنا عشر حدث من أحداث الفرح في حياة العذراء.
أخيراً: لم تذكر الأناجيل أيّة تفصيلات عن فضائل مريم العذراء، ولكن جاء أنها كانت “ممتلئة نِعمة” (لوقا38:1)، وهذا يعني أنها قد امتلكت كل الفضائل بدرجة عظيمة. فمسيرة مريم هي مسيرة كل مسيحي يدخل بالإيمان في علاقة مع الله. وبالنظر إلى مريم نسير كما سارت وتكون غايتنا الأخيرة هي المسيح يسوع وحده. نطلب من الله أن يهبنا أن نُشابه ابنه الوحيد يسوع المسيح والتحّلي بفضائله ونقتدي بأمنا مريم العذراء حتى نعيش كما ينبغي “أخوة ليسوع”.